ثمة أسئلة كثيرة تطرح نفسها بالحاح على الساحة الفلسطينية، بقياداتها واطاراتها، لا سيما بعد مرور 11 عاماً على توقيع اتفاق اوسلو واربعة اعوام على الانتفاضة الفلسطينية. الأسئلة هي التالية: هل ان التسوية المتمثلة باتفاق اوسلو ما زالت صالحة، او ما زالت واقعاً قائماً؟ واذا كان الجواب بالنفي، فلم لم تعلن القيادة الفلسطينية لشعبها وللعالم أن هذا الاتفاق قد استُهلك او تم تجاوزه بفعل الزمن والاحداث، وبفعل التملصات الاسرائيلية ايضاً؟ ثم لم لا تقوم هذه القيادة بطرح رؤيتها للبدائل المتاحة عن التسوية، بحيثياتها ومعطياتها، أمام شعبها؟ اما اذا كان الجواب عكس ذلك، وهو مستبعد بالطبع، فإن على القيادة الفلسطينية ان تعلن كيفية ترجمتها لهذه التسوية، والافصاح عن الأدوات التي تمتلكها لإجبار اسرائيل على الاستمرار بالالتزام بالاستحقاقات المطلوبة منها. كذلك الأمر بالنسبة للانتفاضة. فالقيادة الفلسطينية معنية هنا بتوضيح الوضع لشعبها. فمن غير المعقول، مثلا، التغافل او السكوت عن كل المتغيرات الحاصلة على جبهة الانتفاضة بفاعلياتها وحراكها وتداعياتها، منذ اندلاعها قبل اربعة اعوام، لكأن الانتفاضة حركة أبدية وغاية في ذاتها، وذلك برغم المخاطر الكبيرة المتضمنة في ابقاء الوضع في الساحة الفلسطينية نهباً للفوضى والعفوية، بدعوى الانتفاضة. والسؤال الذي ينبغي طرحه هنا هو: هل الساحة الفلسطينية ما زالت تعيش مرحلة الانتفاضة؟ ام انها انتقلت الى مرحلة صراعية اخرى، مختلفة بعناوينها واشكالها؟ واذا كان الجواب بالنفي فإن القيادة الفلسطينية معنية بمصارحة شعبها، بكل شفافية ومسؤولية، بفحوى النقلة الجديدة. فهل هي مرحلة تنظيم التراجع الاضطراري؟ ام انها مرحلة من مراحل الهجوم السياسي او الديبلوماسي او العسكري؟ الواقع أن الحركة الوطنية الفلسطينية، منذ انطلاقها في منتصف الستينات من القرن الماضي، لم تتعوّد على تقديم اجابات عن الاسئلة المطروحة عليها،على اساس من مراجعة نقدية لأوضاعها ومساراتها. فهذه الحركة، التي اتسمت غالبا بالعفوية والتجريبية، استمرت وتطورت بفضل روح التضحية والعناد لدى الشعب الفلسطيني، اولا، وبفضل الأهمية التاريخية والرمزية للقضية الفلسطينية، ثانيا، وبحكم طابعها الدولي والاقليمي، ثالثا. ومشكلة الفلسطينيين ان قيادتهم بطبيعتها تنبذ ما تسميه التنظير التفكير السياسي، برغم تمتعها، في كثير من الاحيان، بنوع من الرؤية الاستراتيجية والتاريخية، وان هذه القيادة، رغم شعبويتها وانفتاحها على جماهيرها، لا تميل الى اشراك هذه الجماهير بالقرار، عبر الاطارات والتوسطات التشريعية والشعبية والتنظيمية المناسبة، برغم من مشاركتهم الكبيرة بالتضحيات. واللافت ايضاً ان اسهام هذه القيادة بالتربية السياسية لجماهيرها، بمعنى الكلمة. ضعيفة جدا، وتكاد تكون محدودة، بسبب اعتمادها الغالب على الخطاب الشعبوي العفوي الذي يخاطب العواطف ويدغدغ الغرائز، وهو خطاب شعاراتي ارادوي على الاغلب، ليست له علاقة بحقائق الصراع ولا بمعطياته، ولا بواقع موازين القوى. هكذا لم تتعود القيادة الفلسطينية على مصارحة شعبها بأوضاعه وبحقائق السياسة المحيطة به، خصوصاً ان هذا الشعب، في ظل الأوضاع التي يرزح تحت ثقلها، يمحضها كل ثقته، وانه في بذله عظيم التضحيات لا يسأل عن الانجازات. فالتضحية عنده في سبيل الوطن شيء مقدس، فيما السياسة بالنسبة له شأن من شؤون الخاصة، او النخب الحاكمة، مثله في ذلك مثل المجتمعات العربية! وهذا ما يفسر ان الساحة الفلسطينية، ومنذ اربعة عقود، مرت بما يشبه السلام الداخلي، برغم كل الهزات والقلاقل الخطيرة والكبيرة التي تعرضت لها، سواء في تجربتها الاردنية او اللبنانية. ويبدو ان ذلك سينطبق، ايضاً، على تجربتها الفلسطينية في الداخل. كذلك فإن هذه الساحة لم تجر اية مراجعة او محاسبة نقدية، لا لتجربتها في العمل السياسي ولا في العمل العسكري، ولا في العمل الاداري، برغم كل الاشكاليات والالتباسات والتعقيدات المحيطة بهذه التجارب. الآن، في عودة الى سؤالنا الاساسي عن المفاوضة والانتفاضة، او التسوية والصراع، فلعل في عدم توجه القيادة الفلسطينية لتحديد اطارها السياسي الراهن، محاولة منها لتجنب الاستحقاقات او الاجابات المطلوبة منها. مثلا، يبدو الحديث عن انتهاء مفاعيل اتفاق اوسلو، مناسبة لفتح ملف الالتباسات والثغرات التي احاطت بهذا الاتفاق، منذ توقيعه في ايلول سبتمبر 1993. فهذا الاتفاق لم يأخذ في الاعتبار طبيعية النظام السياسي الاسرائيلي، ولا أخذ في الاعتبار واقع وجود قوى سيلسية فاعلة مناهضة للتسوية، ولا واقع انقسام المجتمع الاسرائيلي من حول هذه العملية، بكل التعقيدات والمشكلات التي تنجم عن ذلك، والتي عكست نفسها بالتملص من استحقاقاته. كذلك فإن هذا الاتفاق لم يأخذ في اعتباره استمرار واقع سيطرة اسرائيل على الارض المحتلة، وتحكمها بنسج الوقائع فيها، ومن ضمن ذلك مصادرة الاراضي، وتوسيع النشاط الاستيطاني، والسيطرة على المعابر. ثم انه رسم عملية التسوية بالعموم من دون ان يوضح ماهية هذه التسوية ومآلها النهائي، بغض النظر عما كان يمكن ان يكون هذا المآل. واللافت ان القيادة التي وقّعت هذا الاتفاق راهنت على دينامياته، لكنها لم تنظر الى الديناميات العاملة في المجال الاسرائيلي. وفي النهاية، فإن هذه القيادة راهنت بكل رصيدها وتاريخها، وبمجالها الرمزي، عبر سحبها الملف التفاوضي من الوفد الفلسطيني، الذي كان يمثل فلسطينيي الاراضي المحتلة، برغم من انه كان يتحرك بموجب تعليماتها، من دون اي تبرير مقنع، وهو وضع ما زال برسم التقييم التاريخي، برغم ان الاحداث، حتى الآن، اكدت مخاطر هذا الخيار، بدليل انسداد أفق عملية التسوية، والمأزق الذي يمر به اليوم الكيان الفلسطيني ورئيسه ياسر عرفات. ايضاً، وفي ما يتعلق بالانتفاضة، فإن القيادة الفلسطينية لا تريد الاعتراف بأنها مسؤولة عن ترك الأمور تفلت من بين ايديها، على صعيد خطاب الانتفاضة وعلى صعيد التحكم بوتائرها او اشكال الكفاح المعتمدة فيها. كذلك فإن هذه القيادة لا تريد مناقشة جدوى خيار المزاوجة بين المفاوضة والانتفاضة، والنتائج التي ترتبت على هذا الخيار، لا سيما في ظل الاوضاع القائمة في الساحة الفلسطينية. على اية حال، ليس القصد من اثارة هذا الاسئلة فتح المجال للمحاسبة او النيل من مكانة أحد في الساحة الفلسطينية، بحسب ما يتم تأويل الأمور بموجب نظرة تشخصن العلاقات السياسية وتنبذ السياسة، باعتبارها حقلا للتفكير ايضاً. وانما القصد هنا هو اعمال الفكر في مراجعة هذه الاوضاع، وفتح المجال لنقدها، بالمعنى الايجابي للكلمة. الثابت ان القيادة الفلسطينية معنية بالاجابة عن التساؤلات المطروحة بكل جدية وشفافية ومسؤولية، لأن هذه الاجابة قد تمكّن الساحة الفلسطينية من أمور عدة. فأولاً، تمكينها من ترتيب أوضاعها والاستعداد لمواجهة التحديات والمخاطر التي تعترضها بصورة أفضل، وثانياً، أن هذه الاجابة قد تساهم في تعزيز الوحدة الوطنية، لا سيما تعزيز ثقة الشعب بقيادته، وهو امر على غاية في الاهمية، بعد كل ما عاناه هذا الشعب، وثالثا، أن هذه الاجابة نوع من اسهام القيادة في الارتقاء بالوعي السياسي لجماهيرها، ونقلها، من مرحلة الشعارات والأحلام، الى مرحلة الواقع والممكنات.