أتابع ما يدور في الساحة الفكرية في عالمنا الإسلامي من جدال عنيف حول ما يسمّى بمشروع الشرق الأوسط الكبير، وما يردّده مفكرونا وساستنا عن دواعي قبوله ودواعي رفضه. ثم أعود بذاكرتي الى ما شهده العالم في العقدين الأخيرين من القرن العشرين من انهيار النظم الشمولية من يسارية ويمينية، وتمزّق شمل الاتحاد السوفياتي والأنظمة الشيوعية في دول أوروبا الشرقية، وانتصار الليبرالية والديموقراطية، وتزايد قوة الدعوة الى حرية العقيدة والفكر، والى التعدّدية واحترام حقوق الإنسان، فأعجب إذ أجد العالم الإسلامي وحده، بما فيه من أقطار عربية، هو الذي بقي بمنأى عن رياح التغيير التي هبّت على أقطار الدنيا بأسرها عداه، قد استعصى عليه قبول تلك الدعوة، ولا تزال هيئاته السياسية والدينية والثقافية والإعلامية تتظاهر بأنها تدرس الموقف، في حين تمارس في اصرار، ومن دون حياء، نشاطها التقليدي المعتاد في تجريم الفكر الحر، وتحريم الرأي المخالف، فتصادر كتباً، وتغلق صحف المعارضة، وتمنع عرض أفلام ومسرحيات، وتعتقل الداعين الى نزاهة الانتخابات، وتقضي محاكمها بتطليق الزوجات من أزواجهن الذين قضت بتكفيرهم على رغم شهادتهم ألاّ إله إلا الله. أسائل نفسي لماذا العالم الإسلامي وحده من دون شعوب الأرض قاطبة هو الرافض العنيد الذي أقام سدّاً منيعاً دون رياح التغيير؟ لماذا باكستان دون الهند وشعباهما في الأصل شعب واحد، هل ثمة في تراثنا وتقاليدنا وثقافتنا عناصر أصيلة، وكامنة، ومطبوعة، تحول - وستظلّ دوماً تحول - دون تقبّلنا للديموقراطية والتعددية واللبيرالية والفكر الحر؟ أذكر أنني أثناء عملي وزيراً مفوضاً بالسفارة المصرية في المانيا، قمت بزيارة لمدينة آخِن عاصمة امبراطورية شارلمان ولجامعتها الشهيرة. وإذ دخلت مع مدير الجامعة في حوار طويل، قلت له أثناءه إنني لاحظت في عجب ودهشة كيف أن بناتي الثلاث اللواتي تلقين تعليمهن منذ روضة الأطفال في المدارس الألمانية في الدول التي عملت ديبلوماسياً فيها، لم أَرَهُنَّ يوماً في أي مراحل الدراسة، يشرعن في حفظ قصيدة لغوته أو شيلر أو هايني، أو يقرأن كتاباً لنيتشه، أو مسرحية لهاو بتمان، في حين تحرص المدارس الفرنسية والانكليزية أشد الحرص خارج فرنسا وبريطانيا على ربط تلاميذها بثقافتي هاتين الدولتين وحضارتيهما، وترى في الأدب خصوصاً أنجع وسيلة لتحقيق تلك الرابطة. أجاب بقوله: ان النخبة الألمانية بعد هزيمة هتلر عكفت جادّة على دراسة الأسباب التي أدّت الى ظهور النازية في المانيا واحتضان الشعب لها، فقادها البحث الى نتيجة مذهلة، هي أن منابع الثقافة الألمانية بأسرها منابع مسمومة كان لا بد أن تُسفر في النهاية عن ظهور هتلر ورفاقه وحزبه، وأن هذا السم ليس قاصراً على أمثال شبنغلر وفاغنر ونيتشه، وانما يتعدّاهم الى غوته وهايني، وباخ وبيتهوفن، وكانط وشوبنهاور، وسائر أعلام الأدب والفنون والفلسفة في التاريخ الألماني، حتى ان بدا الكثيرون من هؤلاء الأخيرين أبعد الناس عن احتضان المبادئ الفاشية وأقربهم الى الروح الانسانية والفكر الديموقراطي. لذا فقد مالت المدارس والجامعات الى أن تضرب بمثل ذلك التراث عرض الحائط، وان ترميه وراء ظهرها، والى أن يكون تركيزها من الآن فصاعداً على العلوم والرياضيات. أسائل نفسي الآن وقد قفز الى ذاكرتي حديثي مع مدير جامعة آخِن: هل يمثّل تراثُنا أيضاً، وثقافتنا، بمختلف عناصرهما، ينابيع مسمومة على نحو الصورة التي صوّرها الأستاذ الألماني للثقافة الألمانية؟ وهل تشمل تلك الينابيع المسمومة حتى من نعتبرهم من أعلام حضارتنا السالفة من أصحاب الفكر الحرّ، كالجاحظ وأبي حيّان التوحيدي وابن رشد واخوان الصفا؟ وهل نحن في حاجة من أجل التحرّر من ربقة تلك القيود، والتخلّص من هذه السموم، الى كارثة من نوع كارثة الهزيمة الألمانية المروّعة عام 1945؟ كارثة من نوع ما حلّ بأفغانستان فالعراق؟ كارثة ملموسة مفاجئة حالّة، لا كتلك الكارثة البطيئة الممتدّة وشبه الخفيّة التي نعيش اليوم في ظلّها من دون أن يتنبّه الى أبعادها غير القليلين من مفكّرينا؟ كان البحّارة في قديم الزمان، متى أحدقت بسفينتهم المتاعب، وأُسقط في يد الربان إذ يرى اضطراب البحر وصخب الأمواج والريح، هتفوا صائحين: "لا بدّ أن ثمة جُثة قد أخفيت في أحد صناديق البضائع المشحونة على ظهر السفينة!". ثم إذا بهم يسرعون في البحث عنها للتخلّص منها، مؤمنين بأنها سبب محنتهم، وبأن التخلّص منها بإلقائها في البحر كفيل بأن يرفع عنهم ما حلّ بهم من بلاء ولعنة. وقد بدا لي أن أحذو حذو هؤلاء - وقد عصفت بأقطار العالم الإسلامي الرياح، واضطربت الأمور واختلّت الأوضاع - فأبحث عن الجثة المسؤولة في حمولة السفينة. وعلى رغم أن البحث كشف عن عدّة جثث لا جثة واحدة، فإن إحداها كانت قد بلغت من الضخامة والتعفّن درجة لم تدع عندي مجالاً للشك في أنها المسؤولة الأولى عما أصاب سفينة العالم الإسلامي من نقمة، ألا وهي استعداد أبناء الأمة وبناتها لتمكين يد الماضي الميّتة من أن تقبض على أعناقهم، وتمسك بخناقهم، وأن تتحكّم قيمُ هذا الماضي في حاضرهم ومستقبلهم، تحكّماً ينفي حقَّهم في أن يفكّروا لأنفسهم في أي أمر من الأمور، وكأنما كل شيء قد قيل القول الفصل فيه منذ مئات السنين، ولم يعد أمامنا غير السمع والطاعة، والاتباع والانصياع. إثبات أي قضية من القضايا بات عندنا محصوراً في إثبات ورود رأي لأحد المبرزين من الأسلاف بصددها، أو نفي ورود الرأي، ولا يكاد يخطر في بال أحد أن يعرض الحجج الموضوعية التي تؤيد القضية أو تدحضها، وأن يُعمل فيها فكره هو... المعرفة عندنا معشر المسلمين قائمة جاهزة كاملة بين أغلفة الكتب، وكلما كانت الكتب أقدم كانت المعارف أصحّ. والمعرفة عند الفرنجة هي استخدام المعروف في إماطة اللثام عن المجهول. وقد بدأت الحضارة الغربية الحديثة حين شرع فرانسيس بيكون يتشكّك في النتائج التي توصّل اليها أرسطو وكانت من المُسَلَّمات في القرون المظلمة، فأصرّ على رفض المسلَّمات واخضع كل شيء للتجربة ولإعمال العقل والتفكير. إننا نجابه الآن من التحدّيات الجسيمة التي تهدّد كياننا ذاته، والتي تثير التساؤل حول حقّنا في البقاء، ما يجعل من مهمة فصل الجوهري الخالد عن العرضيّ الزائل الذي يُثقل كاهلنا، ويقيّد خطواتنا، ويعمينا عن الطريق، مهمةً حيوية، ما لم ننهض بها نكون قد خنَّا الأمانة، وتنكرنا لواجبنا تجاه تراثنا وتاريخنا. هو التحجّر الفكري ذاته الذي كنا عليه في ظل دولة العثمانيين، وهو الاستغراق نفسه في التفاهات والترهات والانشغال بمشكلات الساعة الراهنة عن التيارات الكبرى والتطورات البالغة الأهمية التي يشهدها العالم الخارجي. ففي الوقت الذي تمكنت فيه أوروبا من تحقيق وحدتها، وذاب فيه الجليد في شرق القارة ليسمح ببذر بذور الديموقراطية والحرية، وتعالت أصداء الأخذ بالتعددية في أركان العالم من الصين الى تشيلي مروراً بجنوب أفريقيا، بل حتى بينين، نرى ردَّ فعل الغالبية العظمى في عالمنا الإسلامي تجاه هذه التطورات هو أن السبيلَ الوحيد الى مقاومة التحدّي التمسّك بكل ما في تراثنا من قيم، وإن كان الاستبداد السياسي ورفض الآخر من بين تلك القيم. لقد لمست أثناء رحلة لي أخيراً الى أوروبا نزعة لدى الأوروبيين الى الاستعلاء علينا شبيهة بتلك النزعة لدى الجندية الأميركية احدى القائمين بتعذيب العراقيين في سجن أبو غريب في بغداد. وهي نزعة قد تنقلب إذا سارت الأمور على ما يوافق هواهم الى ضيق صدر بمخلفات أيّ حضارة أو عقيدة قد تعرقل مسيرة النظام الدولي الجديد. وغالب ظني أنه إذا استمر العالم الإسلامي على تحجره، وتمسكت باستبدادها نظمه السياسية، فإنه سيدفع هؤلاء القوم الى السؤال: "إذا كنا نجحنا في تقويض دعائم العقيدة الماركسية، على رغم ما أحاطت به نفسها من سلاح ودعاية، وعلى رغم أصولها الأوروبية، فما بالنا لا نزلزل أركان عقيدة هؤلاء البرابرة الذين لا يملكون سلاحاً، ولا يتقنون فنون الدعاية، ولا يستمتعون من الدنيا بغذاء أو كساء إلا ما نجود به عليهم؟". * * * إن ما يصنعه السادة والمؤسسات والمتطرفون الدينيون في العالم الإسلامي اليوم، أشبه بما كان يصنعه نابونيدوس آخر ملوك بابل 555 - 539 قبل الميلاد قبل سقوط دولته في أيدي الفرس. فقد شاعت بين شعب بابل في زمنه مشاعر الإحباط والتشاؤم واليأس، والاحتجاج على المظالم ومجريات الأمور في مجتمعهم، والاعتقاد بأن الدولة آخذة في التحلّل والانهيار. وكان من رأي نابونيدوس أن لا سبيل الى التصدّي للوضع، والإصلاح، وانقاذ الموقف، إلا بالعودة الى التراث والتقاليد و"أخلاق القرية"، واعادة بعض مظاهر حضارة بابل إبّان ازدهارها... فإذا هو يشرع، ضمن ما شرع فيه، في تنظيم حملة واسعة النطاق للبحث عن مواقع المعابد القديمة بهدف اكتشاف تصميماتها المعمارية، حتى يبني في تلك المواقع بعينها معابد هي نسخٌ مطابقة تماماً للأصل، وقد كان في جهوده هذه ما يوحي إيحاء قوياً بنفاد جعبته من الثقة بالنفس، ومن القدرة على الابتداع من أجل مواجهة المشكلات والتحديات المعاصرة لمجتمعه، حيث توهّم أن في مقدوره استعادة الثقة لو أنه تطلّع خلفه الى أمجاد عصرٍ كان يزخر بسمات قوةٍ لم تعد لَديه... * كاتب مصري.