المفكر الإيراني حجة الإسلام محمد مجتهد شبستري* ضيف "مدارات" كيف نحدد الإسلام اليوم، بوصفه ثقافة؟ - هو الثقافة التي يعيشها المسلمون في حياتهم اليومية، وهي مؤلفة من الدين بحصر المعنى، ومن بعض العناصر المستمدة من الثقافة الغربية، ومن بعض الثقافات الباقية مما قبل الإسلام. غير ان الإسلامية هي الطابع الغالب. ويمكن تحديد الغلبة هنا بأنها نوع خاص من التفكير يمارسه المسلمون، وبأنه مجموعة من الآداب، ومن كيفيات الترابط والتواصل فيما بين الناس، اضافة الى قيمٍ أخلاقية معينة. هل يمكن الاستنتاج من تحديدكَ هذا ان هناك غياباً للثقافة الإسلامية بوصفها رؤية جديدة للعالم والإنسان، وللمشكلات الحديثة، أو بوصفها ابداعاً وتجديداً؟ - نعم، فالثقافة الإسلامية بهذا المعنى الذي تشير إليه، غير موجودة. دون ان ننفي وجود قلة مبدعة ومجددة بين المسلمين. إلا انها مهمّشة ولا فاعلية لها. المسلمون في كثرتهم الساحقة لا يزالون، في هذه الزاوية، يعيشون في عالم ثقافي يقوم على الاتباع والتقليد. فهناك، بالمعنى الإبداعي، غياب مزدوج للثقافة، دينياً ومدنياً. ليس عندنا، مثلاً، فلسفة او علم او فن، كما كان الشأن من قبل. ولم يعد هناك معنى محدد لهذه جميعاً داخل حياتنا، كما كان الأمر سابقاً. لكن، هناك وعيٌ بهذا الغياب... - وعي عند هذه القلة التي أشرتُ إليها. ومع ذلك، يظلّ وعياً بلا أجوبة، بلا حلول. إنه وعي محاصر، بحيث اننا عندما نحاول ان نخرج الى الحلول، تنغلق امامنا الآفاق. هكذا تخلق لنا التغيّرات الجذرية في العالم مشكلات معقدة وكثيرة، لا نفهمها، ولا نقدر ان نستجيب لها، بحرية واستقلالية. وإنما نُجرّ الى تقبل نتائجها، أو تفرض هذه النتائج علينا فرضاً. ومن ثمّ، تولّد فينا الشعور بأننا نعيش في عالم مزلزل، من كل ناحية. وبأن الخلاء يهيمن على حياتنا. ولا نعرف ماذا نفعل. كمثل جائعٍ، يتهدده الجوع، ولا يجد امامهُ طعاماً. يقال: التاريخ انتهى. بالنسبة إلينا، نحن المسلمين، إذا نظرنا الى انفسنا بصدق، في هذا الإطار، وعلى هذا المستوى، فمن الممكن القول: إن التفكير انتهى. طبعاً، ستبدو الدعوة الى "أدب اسلامي" أو "فلسفة اسلامية"، في هذا الإطار، وكما يتخيّل بعضهم، دعوة لا تنهض على اي اساس فكري صحيح... - لا أدري اي معني لعبارة "أدب اسلامي" أو "فلسفة اسلامية". الأصح هو الكلام على الأدب الذي ينتجه المسلمون، وعلى الفلسفة التي يمارسها المسلمون. او على الأدب والفلسفة في المجتمعات الإسلامية. إن في اعطاء صفة دينية للأدب أو الفلسفة موقفاً لا يصدر عن عقلية تحيط بدلالة او بخصوصية اي منهما. مع ذلك، هناك محاولات متواصلة تهدف الى تأويل النصوص الدينية ظناً من القائمين بها انهم يؤالفون بينها وبين مقتضيات الزمن الجديد، أو يلغون التعارض بين هذه النصوص وزمننا الراهن... - غير انه تأويل لا يجدي. لأنه كمثل التأويل القديم، ينطلق من مسبّقات ايمانية، ويتم طبقاً للشرع. لا نرى اليوم، في العالم الإسلامي، تأويلاً بالمعنى الحديث، لغوياً وفلسفياً، للنصوص الدينية. مما يجعل حياتنا الفكرية جامدة، وفقيرة، قائمة على التكرار، وعلى الاستعادة. لذلك ينبغي على المفكر المسلم الذي يريد فعلاً ان يطوّر الفكر الإسلامي ان يتخطّى التأويل التقليدي بأشكاله جميعاً، وأن ينظر الى النصوص الدينية نظرة جديدة تصدرُ عن مفهوم للتأويل بدلالته الهرمينوطيقية الحديثة، لغوياً، على الأخص، وفلسفياً بشكل عام. وهذا يقتضي من المسلمين ان يتجاوزوا أحادية النظر، والذهنية الإقصائية أو الإلغائية، وأن يقبلوا التعددية، بأبعادها وأنواعها جميعاً. - نعم، بالتأكيد. وقبول التعددية في التأويل يعني القبول بتعدد القراءات. وفي هذا ما يؤدي الى قبول الآراء والمعتقدات المتنوعة بالإسلام، داخل الإسلام الواحد، بوصفها قراءات وتأويلات متعددة لنص واحد. دون رفض، او نبذ، او تهميش، او تكفير. ألا ترى، في هذا الإطار، ان حصر النصّ في احادية تأويلية، يُضمِر نوعاً من عدم الإيمان بهذا النص - اي عدم الإيمان بغناه، وحريته، وانفتاحه. كل أُحاديّة تقييد... - المهم، لذلك، ان نسأل أولاً: هل المسلمون مستعدون للقبول بتعددية هذا شأنُها؟ تلك هي المسألة. لكن، دون هذه التعددية، لن يكون مكانٌ للآخر في الرؤية الإسلامية... او انه سيظل "كافراً". - إذا نظرنا الى النصوص الدينية بوصفها ظاهرة من الظواهر، اي إذا نظرنا إليها فينومينولوجيّاً، فلا بدّ من ان نقبل التعددية الدينية بشكل كامل ومطلق. لكن السؤال هنا هو: هل نقبلها بوصفها حقائق، ام نقبلها في اطار التسامح والانفتاح، بصرف النظر عن حقيقيتها او عدمها؟ وهذه مسألة تحتاج الى نقاش وتأمّل طويلين. خصوصاً ان في القبول بالتعددية ما يتيح لبعضهم من المنغلقين المتزمتين، ان يدّعوا بأن من يقول بالتعددية كأنه يقول بأن في الوحي تناقضات او حقائق متعددة. غير ان هذه التناقضات، على افتراض وجودها، لا تظهر للمتأمل إلا عندما يراها بعين الإنسان، ضمن عالمنا الإنساني. فلا تناقُض في عالم الألوهية. ذلك ان الحقائق الدينية غير الحقائق الفلسفية. فهذه ذاتية، شخصية، والأولى وجودية كونية او إلهية. ثم ان التناقضات نسبية، لأن الحقائق نسبية، وهذا لا يعني ان النسبية بطلان أو كذب. وإنما يشير الى ظهورها بشكل معين في فترة معينة. يشير كذلك الى ان تمام الحقيقة او كمالها غير موجود في اي دين بمفرده أو في اية فلسفة، وحدها، دون غيرها. فالحقيقة الكلية الشاملة موجودة في التاريخ بوصفه كلاً شاملاً، لا في جزءٍ منه، دون جزء. وهنا نجد ما يمكن ان يميّز بين الحقيقة التي تكون من طبيعة دينية، وتلك التي تكون من طبيعة فلسفية. هكذا أرى ان الطريق الى التعددية مفتوحة في الإسلام - في المستوى المبدئي، او النظري. لكن في المستوى العملي - الشرعي... - لا يجوز، في ما أرى، ان يحكم على الاجتهاد في الرأي، او على التأويل، استناداً الى نص شرعي. الشرع شيء، والفكر شيء آخر - وبخاصة، عندما يتعلق الأمر بالأدب والفن. ما دمنا وصلنا الى الجانب العملي، أود ان أسأل ما الخاص المتميز الذي ترى ان في إمكان المسلمين ان يقدّموه الى العالم الحديث؟ - يمكن، من الناحية الثقافية العامة، ان نقدم القراءات العرفانية الصوفية. فهي تتكامل مع العرفانيات الشرقية، من جهة والغربية المسيحية، من جهة ثانية. ويمكن من زاوية الرؤية الدينية الخاصة، ان نقدم رؤية وسطاً، او موقفاً متوازناً يؤالف بين ركنَيْ الوجود: الروح والمادة، الطبيعة وما وراء الطبيعة، الظاهر والباطن. فهذه الثنائيات وجهان لحقيقة واحدة. وماذا علينا ان نأخذ من الآخر؟ - لا بد لنا ان نأخذ من جميع الينابيع في مختلف الحضارات. من العرفان المسيحي واليهودي، من البوذية، ومن الأديان جميعاً. بالنسبة إليّ شخصياً، لا أصدرُ بوصفي مفكراً، عن ينبوع ديني واحد، او عن الإسلام وحده، وإنما اصدر كذلك عن الطاقات الروحية الكبرى في جميع الأديان. اما بالنسبة الى المجتمعات الإسلامية، فليس لديها مؤسسات ثقافية او اجتماعية او سياسية تدير بدقة واحترام وعدالة وقانونية، شؤون مواطنيها، افراداً وجماعات، فيما وراء انتماءاتهم وآرائهم، كما هي الحال في العالم الغربي. وغياب هذه المؤسسات مقتل انساني اضافة الى كونه مقتلاً حضارياً. ولكي نخلق هذه المؤسسات التي لا يمكن المجتمع ان يتطور او يتقدم في معزل عنها، فلا بد لنا من الثقافة الغربية - وبخاصة كل ما اتصل منها بالقانون، والديموقراطية، والعدالة، وحقوق الإنسان. وما نأخذه منها، علينا ان نهضمه وأن ندمجه في حياتنا وأفكارنا، بحيث يصبح جزءاً منها. دون ذلك، نبقى تابعين للغرب، مما يزيد في تخلّفنا. ما تقوله يتعارض لحسن الحظ مع الأفكار السائدة في المجتمعات العربية الإسلامية عن الهوية... - ليست الهوية إرثاً جاهزاً، وإنما هي بناء، وعلينا ان نبنيها. ولا أشك في ان المسلمين اليوم يعيشون ازمة هوية. لا هوية اليوم لهم. يتم بناء الهوية بطريقتين: 1- التعمق في الماضي من جميع جوانبه، 2- الحوار العميق بين هذا الماضي والعالم الحديث في ثقافته بجميع تجلياتها. عبر هذا الحوار، وفي اثنائه، نبني هويتنا، فيما نعرف من نحن. حاوره أدونيس/ برلين - آذار 2002 * أستاذ في جامعة طهران، يدرّس فلسفة الدين وعلم الكلام الإسلامي. بين كتبه الأكثر اهمية باللغة الفارسية: هرمينوطيقا علم التأويل الكتاب والسنّة، الإيمان والحرّية، نقد القراءة الرسمية للدين في ايران ترجم الى العربية ونشر في "الحياة". وله دراسات باللغة الألمانية نشرت في عديد من المجلات الألمانية. ذلك انه يتقن الألمانية، ورئس المركز الثقافي الإسلامي في هامبورغ، مدة تسع سنوات. التقيته في برلين في "معهد الدراسات المتقدمة" في اوائل شهر آذار مارس 2002.