1 في واشنطن جو مسموم. من يتابع، ولو لماماً، شبكات التلفزيون الشعبية، لا "فوكس نيوز" وحدها، يفرك عينيه: هل فعلاً أرى ما أرى؟ أفلام عن عمليات مطاردة للارهابيين وتفكيك لشبكاتهم في بلدان رجالها كلهم يلبسون العقال والطربوش ونساؤها كلهن محجبات. بلدان تم تأليفها مما يقارب الصفر تحاكي آراءً مؤلفة أيضاً من أصفار: "إنهم يكرهون اميركا. إنهم يريدون تدميرها". هذه من العبارات التي تقال هكذا كتحصيل حاصل. الآخرون شهوات مفتوحة للتدمير. للقتل. ولأميركا في وصفهم لغة غير اللغة التي في وصف ذاتها. ملكة الاردن السابقة نور لاسامية، بحسب احد البرامج. العرب أصوليون في برنامج آخر. كاسترو جزار: هكذا يرد نعته في نشرة أخبار إحدى تلك المحطات. "الديبلوماسية" جين كيركباتريك إذ تُدعى الى "توك شو" تتهم غابرييل غارسيا ماركيز بأن فيديل كاسترو يموّله الواقع ان ماركيز ربما كان أغنى من دولة كوبا بسبب مبيعات كتبه وانهيار اقتصادها. أحد مُعدّي البرامج أخذ على الديبلوماسية الأميركية أنها تريد حروباً لا تُلحق أذى بالمدنيين ممن يختبىء وراءهم المقاتلون. إستغرب هذا التوجه الذي يؤدي الى موت جنود أميركان! كانت كل تقاطيع وجهه كأنها تقول: مدنيون؟ هل تسمّي أولئك مدنيين؟ أوروبا، خصوصاً فرنسا، يا لطيف! كولن باول وتوني بلير، وهما لا يندرجان تماماً في "الآخر"، يتأرجحان بين كونهما مغفلين وكونهما متواطئين مع الارهاب. إسرائيل؟ انسوا ان ثمة ما يفصلها عن الولاياتالمتحدة. السائق الصومالي الذي أوصلني الى مطار دالاس ربما كان يبالغ. لكن لو صح ربع كلامه كان الوضع رهيباً. فهو، المقيم في الولاياتالمتحدة منذ عشرين سنة والذي يحمل جنسيتها، يروي انه خسر عمله بعد 11 أيلول سبتمبر لأنه… مسلم. كان يعمل في شركة كومبيوتر وانتهى سائق تاكسي يعمل لحسابه. المسلمون في اميركا عرضة لمراقبة أمنية يومية ودقيقة تطال حركاتهم وسكناتهم واتصالاتهم، كما قال. كثيرون منهم يُسألون تزويد الأجهزة معلومات عن سائر أبناء الجالية. و"أنا لا أفعلها بحق إخواني"، أضاف. صديق في واشنطن شرح لي بإيجاز شديد وضع العاصمة. قال: تقليدياً هي معروفة بثلاثة: بالادارة والبيروقراطية، وبالغلبة العددية السوداء عليها، وبعائداتها من السياحة تبعاً لمتاحفها الكثيرة ووجود البيت الابيض فيها. الآن باتت معروفة بأن أجواءها والطيران فوقها مضمونة أكثر مما في أي مكان آخر من أميركا. الأكاديمية ذات الأصل الايراني، والمقيمة في واشنطن منذ 37 عاماً، اعترفت بأنه بعد 11 أيلول هناك أميركا أخرى. أخرى بالكامل. كل شيء اختلف. هي في العادة تستخدم "نحن" تعبيراً عن الأميركان. في هذا المعرض قالت: هم لا يزالون بعيدين جداً عن بلوغ الاشباع. أمر 11 أيلول والتحسّب له كأنه لا يزال في بداياته. الميل الانتصاري الاميركي ما كان يمكنه على الاطلاق ان يتوقع حصول ما حصل، أي ان تُصاب اميركا في عقر دارها. انهم ما زالوا عاجزين عن التكيّف. الباحث الأميركي الليبرالي يرى في التاريخ الاميركي الحديث سابقتين عما يجري اليوم: مكارثية الخمسينات، والحرب على الفوضوية في العشرينات. هذه الاخيرة غدت منسيةً وإن حاول فيلم سينمائي شهير، في 1971، ان يذكّر بها: "ساكو وفينزيتي". انهما عاملان ايطاليان مهاجران وفوضويان اقتيدا الى السجن في 1920 ثم أُعدما، بعد سبع سنوات، عقاباً على جريمة قتل لم يرتكباها. يومها أيضاً كانت اميركا تغازل أوهامها. فعلى عكس اوروبا لم تنجح الطبقة العاملة الاميركية في ان يكون لها حزب سياسي راديكالي: مستوى المعيشة المرتفع نسبياً ونمط الحياة الديموقراطي وفرص الحراك الجغرافي والاجتماعي والهجرة الكثيفة وما تُحدثه من تقطّع في الوعي الطبقي، كلها حالت دون ذلك. مع هذا: استثارت الفوضوية جنون الولاياتالمتحدة. المكارثية، بدورها، افتُتحت بدم بريء: في 1951 أُعدم الزوجان العالمان جوليوس وإيثيل روزنبرغ بتهمة تسليم أسرار القنبلة الذرية الى الاتحاد السوفياتي. التهمة كاذبة. الزوجان يهوديان يساريان. مطاردة الساحرات انطلقت. الموجة الحالية لم تبدأ ب11 أيلول. وجدت في 11 ايلول ضالتها وذريعتها الكبرى للانقضاض. بدأت بالحرب على كلينتون. بمسألة مونيكا لوينسكي. بظاهرة "كارهي هيلاري". الآن: من الذي يوقفها؟ تتعدد الأصوات التي تُسمع جواباً عن السؤال. هناك، مثلاً، من يقول: إنها لا تزال في مطلعها. إنتظروا قليلاً وعلى الاميركان والعالم بالصبر. هناك من يقول: البشاعة الحالية سيطول زمنها لأن الحزب الديموقراطي مفتت. أنظروا الى العدد الضخم لمرشحيه المعلنين حتى الآن. هناك من يقول: البرنامج الاقتصادي لهذه الادارة اعفاءات ضريبية وعجوزات تدمر التقديمات الاجتماعية، سيما اذا فشلت الخطة الاخيرة في خلق فرص العمل الموعودة سيقضي على الوجهة الحالية. وكثيراً ما تسمع: أميركا لا تستطيع ان تتعايش طويلا مع النهج هذا. انه ضد روحها كبلد للحريات المدنية والتعدد الثقافي. كبلد قائم على الهجرة مفتوح الذراعين لها. لن تعمّر إذاً هذه الموجة أكثر مما عمّرت الموجتان العشرينية والخمسينية؟ ربما. لكن الموجتين طالتا. شيء واحد يبدو، في هذه الغضون، مؤكداً: أن الولاياتالمتحدة وحدها هي من يستطيع ان يتصدى للولايات المتحدة. مقاومة الآخرين بالطريقة التي عرفنا فيها المقاومات لم تفعل غير زيادة جرعة الجنون الاميركي. وواشنطن اليوم مجنونة وهي في ذروة قوتها، ويُستحسن بخصومها الذين يستثيرونها ولا يملكون، في آخر المطاف، إلا اللسان أن يحبسوا ألسنتهم قليلاً. تذكرت صديقي اللبناني زهير الذي من فمه وحده صدرت شتائم لأميركا تكفي لاستحضار الاسطول السادس. من الآن فصاعداً، صارت واشنطن من النوع الذي يرسل الأسطول السادس رداً على كلام زهير، وفي العراق أكثر من 100 الف جندي: فإما أن يسكت زهير، هذه المرة، أو أن يتدبر أمره معها. 2 تقول الدعابة: الأميركان اليوم إثنان، واحد يريد أن يستعمرنا وواحد يرى أننا لا نستحق أن نُستَعمر. انها ليست دعابة تماماً. إنها تصف جزءاً مهماً من الحياة الفكرية - السياسية. فكلمة "إمبريالية" اليوم تعني غير ما كانت تعني. قد تكون ليبرالية وفاضلة ومحسنة وتمدينية، وفي أسوأ حالاتها تبقى، بحسب الأدبيات التي تتردد، أفضل من "الدول الفاشلة" التي لم نصنع غيرها. هذا فضلاً عن أن الامبريالية تتكفل ردعنا عن الارهاب واسلحة الدمار الشامل مما يؤذي أميركا ويؤذينا ويؤذي العالم بأسره. في ندوة أتيح لي حضورها يمكن الوقوع على الأصوات الثلاثة التي تحفل بها الحياة الفكرية الاميركية دع جانباً أصحاب المصالح الاستراتيجية أو السلاحية أو النفطية ممن يجيدون توظيف الأصوات الثلاثة حسبما تقضي الحاجة. الأول، موظف في وزارة الخارجية. ديبلوماسي وهادىء وأنيق. لا يتحدث في الأمور الكبرى لأن اهتمامه من النوع العملي جداً: هل ينبغي نزع البعثية عن العراق أم لا؟ ممن يؤتى بالخبرات للمرحلة المقبلة؟ ما مدى العلاقة بين السنة العراقيين وسورية، وبين الشيعة وكل من إيران وحزب الله؟ أما سؤال الأسئلة عنده فهل ينبغي أن نبقى أم نترك؟ ومتى نترك، وبعد إنجاز ماذا؟ إنه المثقف - الموظف المسكون بمأزق العراق. في صوته يقيم كولن باول. الثاني، ستيني حليق الشعر، كلامه واضح جداً وأهدافه لا يشوبها غموض أو تردد. إنه معني بأمر أميركا وإسرائيل. اهتمامه جغرافي - استراتيجي لا يخالطه أي همّ ثقافي أو أية مصلحة إنسانية أعرض. أرقام وحسابات ووقائع: الارهابيون قتلوا كذا… وزير الخارجية الفرنسي صرّح كذا يوم كذا… هؤلاء يُستحسن أن تُمارس معهم القوة الى ان يقضي الله أمراً ويصبحوا ديموقراطيين! إننا نعيش في هذا العالم وفيه أشرار كثيرون. العالم غير آمن. ينبغي ان لا نكون سُذّجاً. هنا تحس شيئاً من بنيامين نتانياهو ممزوجاً بشيء من رونالد ريغان. الثالث، خمسيني، أقل من سابقيه اهتماماً بشكله. مراجعه الاوروبية والثقافية تواكب تلك الاميركية والجيو استراتيجية. انه يريد اصلاح العالم ودمقرطته. لا تحدّثه عن ظروف محلية أو عن تواريخ ثقافية خاصة. يكاد يتهمك بالعنصرية حين تقول هذا. انه يساري سابق يريد تغيير العالم بالديموقراطية مثلما اراد تغييره، ذات مرة، بالاشتراكية. مفتاحه في الكلام أن ما حدث في أوروبا الشرقية والوسطى، وقبلها في ألمانيا واليابان، قابل للحدوث في العراق وسائر العالم العربي. من العبث الاشارة الى صراع عربي - اسرائيلي ذي انعكاسات على العلاقة مع الغرب. من العبث التنويه بوجود طوائف وعشائر عندنا. إنه الوعي الأممي الساذج… مرة أخرى. الثاني والثالث يتقاطعان عند أسماء ومراجع وخلاصات، لكنهما يبقيان متمايزين: الثاني متشائم يريد ان يُخضع العالم بالديموقراطية. الثالث متفائل يريد ان يحرره بالديموقراطية. إنه يستحضر ودرو ويلسون ونابوليون ويعطفهما على ريغان. 3 "المحافظون الجدد" هي التسمية التي تشمل اتباع الصوتين الثاني والثالث. انهم يتقدمون في الجامعات الاميركية. يطمحون الى الحلول حيث حل يساريو "الصواب السياسي" وما بعد التفكيكية، وقبلهم يساريو الستينات وليبراليوها. في هذه البيئة، الأسماء التي تتصدّر هي نيتشه وهايدغر وكارل شميت وليو ستراوس وإرنْست جونغر يونغر. الرائحة الشبنغلرية عن مأزق الحضارة. عن موتها. تهفّ من الكلام. قلق ما قبل الحرب العالمية الاولى وخنادق فردان وسائر المواجهات الاوروبية التي طلعت منها الفاشية لاحقاً أكثر مما طلعت الديموقراطية. من دون تنظيم لها، وبشيء من الابتسار، يمكن القول ان الأفكار - المفاهيم الأشد تداولاً في هذا الوسط: أن الغرب يعاني أزمة روحية عميقة. أن أميركا نموذج أشد ملاءمة لزمننا من النموذج الأوروبي. أن القدامى كانوا أكثر احتواء للفضائل من الحداثيين والحداثة. لا بد من درجة أعلى من الاحترام للعظمة والنبالة والبطولية. لا بد من الاقرار بأخلاقية موضوعية وعقلانية تقطع مع النسبيات، وتقطع تالياً مع كل سلوك "شاذ". لا بد من اعادة الاعتبار للتقليد الصوفي الذي دشنه افلاطون، على حساب الفلسفة السياسية التي نُزعت عنها الاخلاقية والتي أنشأها ماكيافيللي وبها ابتدأ التنوير. هناك قدر من الاحتقار للعاديين غير السوبرمان. لا بد من توظيف اجتماعي للدين والقومية: ما دام المجتمع يتطلب استثارة ولاء الجماعة، يغدو مطلوباً توظيف تلك العناصر التي هي قائمة أصلاً في الطبيعة وفي الطبيعة الاجتماعية للانسانية. هذه الأفكار ذات طاقة رجعية لا تخفى على عين بصيرة. فيها جرعة لاعقلانية بقدر ما تنطوي على لمسة اقطاعية الطبيعة، النبالة…. وكما هي ارتداد عن الحداثة، فانها معاداة صريحة لما بعد الحداثة. وهي ضد حركة مناهضة الحرب في فيتنام بوصفها ضعفاً، وضد التعددية الثقافية ونسبياتها بالصحيح منها والخاطىء. أفكار كارل شميت، القانوني المبرر للنازية، هناك. وهناك أيضاً التجربة التكوينية لليو ستراوس: انهيار جمهورية فايمار. عنده، يساوي ذاك الانهيار إشارة حاسمة الى تفاهة الليبرالية حين تكون ضعيفة وبلا أنياب. شميت وجونغر دافعا عن دولة سلطوية من مواطنين - محاربين وبطوليين يربط بينهم رابط الصراع الدائم ضد عدو خارجي. ستراوس الذي كان لاجئا فارا من المانيا النازية، عبّر في رسالة وجهها الى شميت عن فكرة مشابهة: "الناس لا يستطيعون ان يتوحدوا الا ضد أناس آخرين". "العدو" الحدودي الذي يستبطنه تيار عريض في الثقافة السياسية الأميركية يلاقي هذه الافكار في منتصف الطريق. 4 الكتاب، اليوم، في هذا الوسط هو "الارهاب والليبرالية". الكاتب بول بيرمان. الناشر دبليو دبليو نورتن. 214 صفحة. بول بيرمان يعتبر نفسه اشتراكياً ديموقراطياً وليبرالياً. ليس اصيلاً في المحافظة الجديدة لكنه ينتهي في خلاصاتها العملية. كان ينتمي سابقاً الى ما سمي اليسار المناهض للشيوعية. اليوم هو، وفي وقت واحد، كاتب في "نيوريببلك" أحد أبرز أصوات التحول في الوسط الثقافي اليهودي من اليسار الى اليمين وفي "نيويوركر" اليسارية-الليبرالية. الوجود في المكانين معاً ليس بلا دلالات. الحرب، عند بيرمان، ليست بالضرورة، وليست دائماً، امتداداً للسياسة بوسائل أخرى. قد تكون، في ظروف من التوتر والتشنج، امتداداً للحرب. بالتالي: الحرب ضد الارهاب هي مثل تلك التي سبقتها ضد النازية والشيوعية: حرب دفاع عن الليبرالية ضد حركات تحتقرها. لكن هذه الحرب لا تشبه الحرب على التوتاليتارية بقدر ما تشكل امتداداً حرفياً لها. وتعبيراً عن أممية رافضة للخصوصيات ورافضة طبعاً للعنصرية، يرد بيرمان الجذور الفكرية والسياسية للارهاب الاسلامي الى ما هو توتاليتاري في الغرب، لا الى الاسلام. فاذا كانت تصورات الشهادة والجهاد موجودة في الاسلام، الا ان الحاسم هو احتضانها من قبل بيئة اوروبا النضالية. وبيرمان، لهذا الغرض، يرصد الاتجاهات الادبية عن "الجريمة والانتحار" و"أفعال الانتهاك الشيطاني" التي عرفتها الرومنطيقية والعدمية الاوروبيتان في القرن التاسع عشر. اما بعد الحرب العالمية الاولى فجاءت انواع الطوبى المسكونة بالموت: بلاشفة لينين والستالينيون والفاشيون الاسبان والايطاليون والالمان، ومن بعدهم الماويون والخمير الحمر والحركات المشابهة الاخرى. هكذا تكامل نمط توتاليتاري: البحث عن ماض ضائع او عن طوبى للمستقبل. عن اعداء داخليين تتم مطاردتهم. عن قوانين قصوى يتم فرضها. وعن اعداء خارجيين يتعرضون للهجوم والتشهير بلا هوادة. أشكال اخرى من هذا القبيل نشأت في الشرق الاوسط: ساطع الحصري تأثر بالقومية الالمانية. ميشيل عفلق درس القومية الرومنطيقية الالمانية بما في ذلك "فلاسفة المصير القومي والعرق وتلاحم الثقافة القومية" بيرمان يبالغ في تقدير معرفة أستاذ البعث. سيد قطب الاكثر تأثيرا في الاسلام النضالي والذي درس ابن لادن على أخيه محمد درس في الغرب. آية الله الخميني دمج، عبر علي شريعتي، أفكاراً من فرانس فانون وسارتر في أفكاره. يُعنى الكتاب، ببعض التفصيل، بسيد قطب المصدوم بعلمنة الدولة التركية والمضطهَد من الدولة الناصرية. الخيط الواصل بين كتابات قطب الكثيرة هو الحاجة الى استعادة الانسجام بين عقل الانسان وكلمة الله. والمشكلة في نظره لم تكن اساساً في القيم العقلانية الاوروبية، من سقراط حتى القرن العشرين، بل في عجز المجتمع الحديث عن السمو الى مثالاته. هكذا، ومثله مثل الفاشيين والشيوعيين، رأى قطب ان وعود "الحضارة الليبرالية" بالديموقراطية والسعادة زيف بزيف. الحل إذاً حاكمية الله بيرنارد لويس ليس أول مراجعه، وهذا من علامات اختلاف بيرمان. إنه يفهم الاسلام والعالم الاسلامي من خلال ألبير كامو وجيل كيبيل وماليس روثفان. هذه الحركات العربية والاسلامية اثمرت، في نظر الكاتب، نتائج مرعبة مثلها في ذلك مثل الفاشية والستالينية. فالفوارق بين الحركات التوتاليتارية ولو بدت كبيرة تبقى اقل اهمية بكثير من القواسم المشتركة. في حرب ايرانوالعراق في الثمانينات قُتل واضطُهد وقُصف بأسلحة غازية اكثر من مليون. في السودان حوالى مليوني شخص قُتلوا. لكن خلال الثمانينات والتسعينات كانت، أيضاً، "قرصات البرغوث"، أي: الهجمات على السفارات والمواقع العسكرية الاميركية وعلى مدنيين اميركان. الولاياتالمتحدة "في غبائها البليد" عجزت عن ان ترى في هذه الاعمال بدايات حرب. وها هي الهجمات والمذابح الارهابية تزنّر حدود العالم الاسلامي من الشرق الاوسط الى كشمير والفيليبين. كل التوتاليتاريين تجمع بينهم أسطورة سقوط بابل. ذاك ان سكان بابل المتعبين والمنحلّين ممن افسدهم الرفاه والطمع، يصيبون بالعدوى شعب الله على رغم التهديدات التي توجهها قوى الشيطان من بعيد لهذا الشعب. شعب الله لن يتحرر من هذه السمات البغيضة الا بحرب هرماجدون الفاصلة بين الخير والشر حيث تُستأصل القوى الشيطانية والمهلهلة في المدينة وينهض عالم جديد ونقي من الحريق فيما "يعيش شعب الله في الطهارة والخضوع لله". او بكلام بيرمان: "دائماً وُجد شعب الله … كانت هناك البروليتاريا او الجماهير الروسية عند البلاشفة والستالينيين، او ابناء الذئبة الرومانية عند فاشيي موسوليني، او الكاثوليك الاسبان ومحاربو المسيح الملك لدى كتائب فرانكو، او العرق الآري للنازيين". تقديس الموت هو دائما ملمح مهم من ملامح الحروب على الليبرالية. لكن الليبرالية كثيراً ما تواجه بالجبن والهروب. ضعف المثقفين الغربيين حيال التطرف عاهة. اليسار الباسيفيكي في فرنسا كان ضد الحرب على هتلر. بالطبع كره النازية لكنه ظن ان ما من شيء يستدعي حرباً. البعض ذهب أبعد: رأى ان شرور هتلر اقل من شرور عشاق الحرب الرأسماليين وصانعي الأسلحة. الآن، لا سيما في اجواء اليسار، ميل مخيف الى تجاهل خطر الاصولية الاسلامية المسلحة. الكاتب ينقل النقاش من كونه ضد الشعوب و"الحضارات" الى كونه ضد نظام هو النظام التوتاليتاري. هنا أيضاً نراه لا يساوم: يرفض الحجج عن وجود أسباب أخرى للارهاب تماماً كما رُفضت الحجج القديمة عن ان اصول الارهاب الفاشي والشيوعي كامنة في "السلوك العدواني للديموقراطيات" او "الحضور التخريبي لليهود". الاسلامية ليست رداً على الامبريالية الاميركية، على ما يرى نعوم تشومسكي، مثلما انها ليست نتيجة صراع حضارات او حروب اديان على ما انتهت اليه نظريات صموئيل هانتنغتون. انها من ردود الفعل المَرضية على الحداثة، خصوصاً على انتشار القيم الديموقراطية الليبرالية. الحرب وقد ابتدأت ستستغرق، عند بيرمان، سنوات وتمتد على جبهات عدة وتتخذ أشكالاً مختلفة في المواجهة وفي الثقافة والتعليم: تماما كما كانت الحال في الحرب الباردة. المطلوب: حرب أفكار مثل تلك التي قضت على الشيوعية في اوروبا الشرقية، والتي سوف يصحبها اصلاح المجتمعات العربية. نشر الثورة براديكالية كهذه تخيف الاوروبيين المتذبذبين يكاد يقول مستعيداً ماركسيته القديمة: البورجوازيين الصغار الانتهازيين. الأوروبيون، عنده، كما كتب في مقالة له في "نيوريببلك": "لا يستطيعون ان يتصوروا أو يقبلوا فكرة الديموقراطية الليبرالية كمشروع ثوري للتحرير الكوني. إنهم لا يستطيعون ان يتخيلوا كيف يكون الناس ديموقراطيين ليبراليين ويستخدمون القوة في الوقت نفسه. انهم ببساطة لا يستطيعون ان يتخيلوا كيف يكون في وسع ممارسة القوة أن تأتي بثورات سياسية في أبعد زوايا الأرض". اما في الكتاب فيتهمهم بأنهم يرون الديموقراطية الليبرالية كشيء "عادي". ك"مساومة". ك"أمر يمكن الاطمئنان اليه بروحية تقاعدية". الاوروبيون لم يقاوموا الشيوعية دفاعا عن الحريات الديموقراطية الليبرالية بالقدر الذي فعلوا، في فترات مختلفة، دفاعاً عن الدين او القومية او الاشتراكية. هم فاترو الحماسة في نشر مثالات الديموقراطية كونياً هنا يتناسى الثورة الفرنسية ونابوليون. لا تعيش الليبرالية وتنتصر ما لم تدعمها ارادة جماعية بالموت دفاعا عنها. الليبرالية لا تعيش في عالم اوروبا السينيكي والمساوم والاناني. هذه المشاعر، ومعها الجبن والانانية، اظهرتها اوروبا حيال معاناة البوسنيين. ولأن الاوروبيين غير مستعدين للموت في سبيلها فليبرالية اوروبا تنتظر بفرح واستسلام موتها. يحمل بيرمان لا على اوروبا فحسب. يحمل على دعاة "الواقعية" في السياسة الخارجية الاميركية. محافظو نيكسون وكيسنجر ممن يعطون الاولوية للمصلحة القومية ويتعاونون مع الشيطان لحمايتها، أعداؤه. يهاجم نيكسون الذي رأى في حرب الخليج السابقة "مصالح اقتصادية حيوية". بيرمان دعمها، في المقابل، بوصفها حرباً "مناهضة للفاشية" ذات أهداف "تقدمية". لم يهتم بالمصالح بل باستبداد صدام. إذاً التدخل في الشرق الاوسط مشروع لينكولني، بعدما ينسب الكاتب الى لينكولن نزوعاً كونياً. الحرب على صدام كحرب لينكولن على ملاّك العبيد: حرب ليبرالية من اجل الحرية الكونية. بيرمان كتب مانيفستو. قارئه يحس لوهلة أن الحياة الثقافية في أوروبا مصابة بغرام بن لادن وصدام. أن قوة الجيش العراقي و"القاعدة" تعادل قوة جيشي هتلر وستالين. لكن القارىء يتفهّم ويخاف: يتفهّم لأن الليبرالية يُستحسن بها فعلاً أن تحمي نفسها. لنتذكر ان المدن الكوزموبوليتية كلها سقطت في الشرق الاوسط امام سنابك العسكر والمناضلين. لنتذكر ان التجارب البرلمانية في العالم الثالث عصفت بها كلها رياح التوتر النضالي والرؤيوي. لكن تحويل الاضطرار الى فضيلة، الى نظرية مُحكمة، شيء آخر. القول ان الليبرالية جبانة وغير بطولية، عبارة شهيرة في اليمين واليسار على السواء. دانيال كوهين بانديت، في مناظرة قبل اسابيع، وصف ريتشارد بيرل بأنه بلشفي. قال له إنه يذكّره بأيامه الطلابية. هؤلاء في واشنطن يُخيفون أكثر قليلاً مما استطاع أولئك أن يُخيفوا.