فتحت مداخله تلفزيونية حول 11 أيلول (سبتمبر) 2001 لي أفقاً. جاء فيها أن «مشكلة التعددية في الأديان من صنع حضارة الغرب وهي لا وجود لها في حضارتنا العربية، فالشرق هو مصدر الأديان الثلاثة التي ابتدأت مع الإبراهيمية، التي هي حصاد وحدة المسيرة ووحدة الأمة». هذه الوحدة انطلقت أساساً من وحدة حضارة تجمع بين السماء والأرض، وهي التي تختلف عن اليونانية والرومانية التي انطلقت من ثقافة أرضية، فحضارتنا -على حد قولها- لم تبدأ بالمسيحية أو بالإسلام بل ابتدأت بالإبراهيمية التي تعود إلى آلاف السنين. والإبراهيمية هي المصدر وإن اختلفت الرواية بين المعتقدات. لذا، فإن ثقافتنا هي «ثقافة الأمة الواحدة»، «إنها ثقافة الأمة والقرآن الكريم، أشار إلى هذه الأصول بكلمة واحدة «إن إبراهيم كان أمة». فالحضارة بدأت من حوار إبراهيم عليه السلام مع الوجود والكون توصلاً للهداية إلى الله الواحد. كان ذلك مشرق الحضارات، فالشمس في مشرقها تملأ الأرض نوراً لكنها في مغربها تأخذ معها أشعتها من أرجاء الكون كله لتشرق في موعد جديد، فالله نور السماوات والأرض. إن هذه المقدمة تمنحنا تأملاً في مفهوم التعددية ضمن مصطلح الحرية باعتبارها نتاج ثقافة عصر الأنوار وحضارة أوروبا. فالتعددية طرحت في إطار ينطلق من تداعيات ثقافة أوروبا، التي خرجت أساساً من وثنية روما ذات الحدود المتمحورة حول روما والإمبراطور وعقلانية أثينا والهلينية التي مازجتها روحانية الثقافة اليهودية ذات الحدود النفسية. من هنا وجد مفهوم التعددية موقعه من خلال رؤية الآخر «الغريب»، الذي ينظر إليه بمعيار مركزية المصلحة والأنا، فالدول الصناعية استقدمت الأيدي العاملة والطاقة البشرية من آسيا وأفريقيا لبناء محورها الصناعي في أميركا وأوروبا، وحينما جاء ما يسمى عصر مابعد الحداثة غدا هؤلاء جميعاً عبئاً عليها. هذه الاتجاهات تبرز في الأزمات وتطرح حضورها في نسق واحد بعد 11 أيلول، إذ سقطت مؤسسة الحقوق المدنية كما سقط أساس خليط المجتمع الأميركي الذي بني على مفهوم الإنتاج والأداء الإنمائي ودوافع الثروة، وقد نصح ماركس اليهود بالهجرة إلى أميركا في كتابه «المسألة اليهودية»، لأن النظام القائم هنالك لا يرتكز على محورية القيم الثقافية الموروثة كما هو الأمر في أوروبا في إطار حرية المواطن وحقوقه وفق الثورة الفرنسية. فالحرية أساساً سلطة خطاب، وهي لذلك تتجاوز الذات إلى محيط المجتمع. من هنا، يصح الحديث عن الثقافة كمرجعية ثابتة وشمولية لهذا الخطاب في مفهومه التعددي. والحديث عن الثقافة يدعونا للعودة قليلاً إلى المصادر، فقد ابتدأت عبارة «الثقافة» مصطلحاً يحتوي التكوين التربوي المُتنامي مع تطور الفكر الأوروبي والعقلانية الغربية المستمدة من أصولها ومرجعيتها اليونانية والرومانية. هكذا أضحت الثقافة تكويناً منتجاً لإطار الحضارة، تلك الحضارة التي بنيت على مركزية الأنا Ethno centrique التي تعزل الآخر. هذا المجرى الأساس يبقى هو المرتكز لمفهوم المصطلحات جميعاً، بما فيه مصطلح الحرية التي تضع حرية المواطن في إطار بيئة الحضارة المركزية المبنية على رؤية الآخر. فالعالم قد انقسم بتأثير هذه الثقافة إلى مجتمع يصنع الحضارة ومجتمع على هامشها يأكل من إنتاجها. من هذه المرجعية انطلقت فكرة الحريات العامة ونظريات العنصرية وجهين لعملة واحدة ومصطلحاً متداولاً، ومن زيتها غمست شرعة حقوق الإنسان التي أصدرتها الأممالمتحدة باعتبارها شرعة حقوق الضعفاء في ضمان الدول المنتصرة بعد الحرب العالمية الثانية، أي عالم الثنائية على هذا الكوكب. إن هذه التداعيات تدعونا للعودة قليلاً إلى المصادر، فالثقافة مصطلحاً، اعتُبرت في عالمنا العربي منذ البداية صورةَ مجتمع متقدم ونموذجه أكثر مما هي مفهوم محايد. لقد حملت في وطابها أيديولوجية عصر الأنوار ومنحت في إطارها حيوية الانطلاق والتقدم تحت عنوان أساس هما القوة في بناء العلاقات الدولية والفردية في بناء الشخصية الأوروبية، التي تتمحور حول الإرادة واقتحام المجهول لامتلاكه وفق مفهوم الحرية Individualisme، وهما مفهومان مركبان من تداعيات أثينا ثم روما، فكلمة سقراط «اعرف نفسك» هي أساس تلك المركزية التي يمتد شعاع الأنا فيها بقدر ما يستدعيه الظلام، فالوجود يتمحور حول الذات، وعبارة ديكارت «أنا أفكر إذن أنا موجود» هي تعبير من مفردات سقراط، وهكذا تمتد حرية الرؤية والفكر في مدى ذلك الشعاع، لكن ما وراء المدى هو الظلام والآخر. لذا يتبدى عبر هذا التوصيف وجهان: وجه عمودي: حيث لا حدود لحرية الفرد في تناول ما تملكه يده، ووجه أفقي: تقف فيه الحرية عند حرية الآخر في حماية متبادلة. إزاء هذا المفهوم كتب ماركس منتقداً على ما يبدو شعار الثورة، فقال إن «الحرية في ميثاق الثورة الفرنسية هي حركة التملك المطلقة لغير تواصل اجتماعي». وإذا انطلقنا من هذه الرؤية الانتقادية، يمكن القول إن الحرية خطاب يتمحور حول ملكية ما، في مواجهة الآخر، بدونها لا معنى لها. هذا يعني أن الحرية باعتبارها نتاج ثقافة مجتمع هي موضوع ملكية تغرف من النظام الاجتماعي بقدر حدود الشراكة العامة لمساحة المجتمع طبقاً لنظرية جان جاك روسو. من هذا المفهوم كان جَذر كلمة الجمهورية اليوناني Res-publica أي الشيء المشترك بين المواطنين، ومن هنا فالديمقراطية هي الساحة التي تتجسد فيها ضوابط الحرية. إن الاستطراد حول تطور مفهوم الثقافة بكشاف الباحث الغربي سوف يخرجنا من سياق رؤيتنا الأساس حول ثقافة «الأمة» في تحديد مفهوم الحرية والتعددية ضمن فلسفة الحرية كمضمون خاص بالفرد، وهذا يختلف تماماً عن مضمون الحرية كمفهوم مطلق نقيض العبودية. لذا، فإن متابعتنا مسيرة النهضة منذ نظرة الكواكبي حول الحرية والاستبداد في وجه العثمانية، نرى أن تلك المسيرة افتقدت المبادرة حين خلطت بين المفهومين: مفهوم الحرية في معناه السياسي وهو الانطلاق من أسر الاستبداد، ومفهوم الحرية في مداها الذاتي السلوكي وفقاً للفكر الغربي، وهكذا بقيت هذه الأخيرة على مائدة أوروبا وحدها ورؤيتها للعالم دون أن نرى مواقع أقدامها، إذ نحن في نهاية الحساب نلملم اليوم هزيمتنا في مسيرة النهضة أمام تطورات العصر. فمصطلحات حرية الفكر أو الحرية عموماً هي إحدى مقاربات تلاميذ الحضارة الغربية الذين نظروا إلى مشكلات عالمهم بمنظار أوروبا، وهكذا غدت حرية الفكر الاعتذار إلى التراث، إذ يولون وجهة العصر الحديث، وبدت أفكار الرواد جزءاً من أرستقراطية الغرف المقفلة التي أربكت جهود النهضة حين تمحورت حول أفكار ذات مرجعية منفصلة عن جذورها تسلب الألباب لكن لا تسكب الحلول. ومن هنا غدا شعار الحرية بغير مضمون، وبدا أحياناً تعبيراً عن فردية مصطنعة أورثت اضطراباً في المفاهيم ونزوعاً نحو التطرف في كل اتجاه. لذا لكي نضع مصطلح الثقافة في سياقه التاريخي نشير إلى عبارة هوريو في الثلاثينات من القرن الماضي. لقد أجاب هوريو حين سئل عن الثقافة فقال: « الثقافة هي ذلك الذي يبقى في أذهاننا حينما ننسى ما تعلمناه». هذا التعريف الذي لقي رواجاً في المفهوم التربوي، جاء بمناسبة حركة تحديث التراث القديم اللاتيني وأدب عصر النهضة كمرجعية ثقافية نجد صداها في التكوين الأساسي للشخصية الأوروبية التي تمسك بالجذور حين تغيب عن الذاكرة الفروع والتفاصيل. إنها ثمرة حيوية الجذور في تحديد أبعاد الثقافة باعتبارها وظيفة أكثر منها نموذجاً. هذا يعني أن الحرية باعتبارها نتاج ثقافة مجتمع تحتاج دائماً إلى مرجعية عليا في انتظام حركتها. تلك المرجعية التي تنظم إيقاع الاختلاف الذي يشكل أساس الحوار، كما تنظم السلوك تحت سقف النظام الاجتماعي كمزاج ثقافي في الفنون والبحث والحياة على اختلافها. «فالشرق باعتباره مصدر الأديان الثلاثة يتميز بنمطية تاريخية تتصل بما نسميه الجانب الغيبي في أفق التربية، هذا الجانب الذي استكان إليه خوف انهيار الحضارة الغربية لدى كتاب الفلسفة الغربية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وأبرزهم رومان رولان وماني وكيسينجر، واستجابوا لدفء مداه الإنساني». من هنا، فالتعددية في إطار «ثقافة الأمة» تتناقض منهجياً ونفسياً مع تكويننا الإبراهيمي، لأن التعددية تتناقض أساساً مع المضمون الغيبي في وحدة الإنسانية، سواء في الإسلام أو المسيحية، فالله تعالى يقول في القرآن الكريم: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا»، فالتعارف هو الامتداد الذي ينفي الصراع. والإنجيل يقول: «هلموا تلمذوا الأمم». هذا المفهوم الغيبي هو الأساس لوحدة المرجعية الثقافية قبل أن يتداولها التاريخ، فالفرق بين ثقافة «الأمة» وثقافة «أوروبا»، هو أن الأولى تعني مع الإبراهيمية وحدة الكون والإنسان كنظام متكامل، وأن الثانية مع الفكر الغربي تعني ثنائية الفرد المستقل في تحديه للكون والآخر. من هنا ينطلق مفهوم الحريات العامة وفقاً للفكر الغربي من حق المواطن تجاه الدولة وليس من حرية الإنسان في إطار النظام الكوني. وهذا هو معنى كلمة عمر بن الخطاب «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً». فالدين، سواء في الإسلام أو المسيحية، ينتمي إلى الأصول الإبراهيمية التي تتحدث عن موقع الإنسان من الكون. ونستثني من هذه الثلاثية اليهودية، فالأساس في الإسلام أو المسيحية دعوة وتبشير وامتداد، أما اليهودية المعاصرة فمفهوم منعزل ضمن حدود «الغيتو» وشروط الوراثة في تعريف اليهودي، فالكتب السماوية لم تتحدث عن الحريات العامة لأن عبارة الحرية وتعدادها كحق هو مفهوم سياسي في التزامات النظام تجاه المواطن، وهو من هذا الجانب يمثل وصاية خفية ذات دلالات هيمنة نفسية تجاه عقد النقص أمام الحضارة الغربية حين تصبح شرعة حقوق الإنسان التي أصدرتها الأممالمتحدة هي المعيار الوحيد تجاه ثقافات الأمم المختلفة وتجاربها، ومن هنا يفتح الباب أمام ذلك النفاق السياسي الخادع في الهيمنة على مصالح الشعوب. إن مفهوم الحريات العامة من صنع الثقافة الأرضية، لأن العدالة والخير في النظام الكوني مفهوم مطلق، بينما هما في المفهوم السياسي مفهوم وضعي، على حد تعبير الفيلسوف «كانت»، لذا يرتكزان في الأنا المركزية ضمن مفهوم القوة والنسبية، فالإنسان لا معنى له إلا في إطار مجتمع، ومعيار أمن المجتمع وتقدمه في مفهوم الحضارة الغربية متقدم على نظام الكون وحقوق الشعوب. ثقافة «الأمة» التي هي نتاج المسيرة الإبراهيمية في إرشادها العلوي كإطار للوحدة الكونية السابقة على التاريخ، تضع حرية الإنسان من خلال الواجب كتعبير عن الإرادة، لذا فهي مسؤولة عن النظام الكوني وأساس هذه المسؤولية انسياب إرادته بين طريق الخير والشر. هذا يعني أن حقوق الإنسان أحد مظاهر قدسية الإرادة وحريتها تجاه الخالق، ومن هنا يصبح الواجب وليس الحق أساسَ التاريخ والنظم السياسية، حيث المبادئ والقيم في إطار التدافع بين الشعوب فتأخذ قيمتها المطلقة وليس قيمتها النسبية كما تدلي فلسفة الحضارة المعاصرة. الواجب يعبر عن طاقة كما يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي، بينما الحق هو إنفاق للطاقة، فبدون طاقة الواجب لا رصيد للحقوق. المعايير مختلفة، ومن هنا فالقضية تحتاج إلى إعادة صياغة مفهوم الحضارة والثقافة كوظيفة كما يقول الفيلسوف مالك بن نبي، وليس كنموذج، إنها وظيفة تستمد من عمق أصولنا روحها، إذ بتأثير مرجعية حقوق الإنسان لحضارة عصر الأنوار بدأ العالم ينهار والثقافة تفقد أسلوبها في ظل دراسات تعلن عن نهاية «اليوتوبيا». إن هذا التحليل في النتيجة، وإذا تكلمنا بلغة العصر، يستعيد مفهوم الحرية كإنتاج ثقافة، ونحن أمام خيار على مستوى الإنسانية. فإما ثقافة روماوأثينا وجفاف الوثنية الرومانية، وإما روحانية القيم المطلقة كأساس لحقوق الإنسان الكونية التي تنطلق من واجب إماطة الأذى عن الطريق كدرجة في أدنى سلم الإيمان بالله، كما ورد في الحديث الشريف. والفرق بين الرؤيتين ماثل أمامنا في نموذج السلوك التربوي البيئي حينما تتخلى أميركا عن دستور حقوق الإنسان لأسبقية مصالح النظام على مضمونه الإنساني، وحينما يعلن مؤتمر قمة الأرض عن إفلاس الحضارة وتخلف القيم الإنسانية وانهيار البيئة ومظالم الحياة الإنسانية في آسيا وأفريقيا التي تجري أمام أعين الكبار في سورية والعراق. فالرجل الأبيض أزال القشرة الشفافة من الخداع واستعاد أمام الأممالمتحدة جذور روما حين ينظر إلى مندوبي آسيا وأفريقيا بعين المالك للحضارة، فيما يعمل المندوبون الآسيويون والأفريقيون من تلك الدول في حقل وورش عبقرية الحضارة الغربية. التعددية التي تروج في سياق الحوار الوطني في لبنان أو في أي مكان من العالم العربي والإسلامي هي من صنع الدراسات الأنثربولوجية التي هي أحد تطورات الدراسات الاجتماعية والنفسية من منظور تعددي، وذلك من أجل الإحاطة بحركة المساحات البيضاء في خريطة الاستراتيجية الأميركية الأوروبية، وهي لذلك ترسيم لتعددية ثقافات في حفريات الماضي والتي غاب دورها عن ديناميكية الحاضر. فالثقافة حينما تفتقد البواعث تفقد حضورها، ومن خلال هذا الأفق وفي زحمة الصراع والسياسة العربية المتداعية والخطر الإسرائيلي الماثل أمامنا والخطط الهادفة إلى رسم الخرائط مجدداً، يبدو الجدل حول التعدديات من أعراض المرض الداعشي على مسرح الغروب الخلدوني قبل إقفال الستار. فحين تغيب السياسة عن المستقبل وتتسكع الطاقة لغير تنمية تشرع الأبواب لريح التعدديات، وفي ظلمة الرؤية المستقبلية تتهيأ البلاد أكثر فأكثر لاستراتيجية المساحات البيضاء في خريطة العالم والتي لا يظهر عليها أي أثر إنتاجي، فوحدة الإنتاج تعبير عن وحدة الثقافة وليس عن تعدديتها، فالتعددية في تعاصر وطني بطالة انتظار وقلق.