ليس أدل على الحراك الحي للخطاب السائد عن المرأة مما يشهده هذا الخطاب اليوم من تعدد الأصوات حوله، أياً تكن هويتها، نسائية أم رجالية، وعلى تفاوت اتجاهاتها وتباين مقارباتها لإشكالياته، في الاختلاف والائتلاف على حدٍ سواء، ولئن تذرَّع البعض ليتفّه مفاعيل هذا الحراك، أو ليُسقط عنه جدواه وأهميته وحيويته، بخطاب النهضة زاعماً ان موضوعة المرأة احتلت عصر ذاك أحد أهم انشغالاته، من دون أن يأتيها ذلك بمتغير جذري ظلت تهجس به وتسعى اليه في ما خاضته وخبرته لاحقاً من تجارب نضالية اجتماعية وسياسية وثقافية خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي، آلت جميعها الى خيبة حصدها الجميع، نساءً ورجالاً. وكم يسوؤنا أن نخيب زعم هؤلاء وندحض ذرائعهم بدليل بيَّنٍ وقائلٍ يفصح عنه الإصدار الجديد لتجمع الباحثات اللبنانيات في عنوان "النساء في الخطاب العربي المعاصر" الكتاب التاسع 704 ص. تكشف محاور الكتاب عن سطوة الخطاب العربي السائد حول المرأة، على ضوء مفارقة غريبة جديرة بالالتفات، حيث تمثل المرأة في هذا الخطاب خلاف ما هي عليه في واقع عيشها وظروف حياتها المستجدة بحكم متغيرات كثيرة شهدتها المرحلة الأخيرة على أكثر من صعيد. هذه المتغيرات التي هيأت لها القدرة على الفعل بدل الانفعال، وأهلتها للمشاركة في انتاج المعرفة في العديد من المجالات عوض الاكتفاء بالتلقي والاستظهار، لم يوازها أي تغير ملحوظ يشير الى فاعلية تمثيلها ودورها في انتاج الخطاب المتداول حولها، ظل مستبداً، متفرداً وأحادي الجانب، لا يعترف لها سوى بحضور شكلي وهامشي يوهم بالحضور ولا يشبهه، الوهم الذي لا تصدقه المرأة بل تُعرض به وتصارعه بمنطق القوة مرةً يحملها على محاكاته والتمثل بمعاييره، ومرة أخرى ببيان العقل وتبيان الدليل، لا يستجيب لهما منطق الهيمنة والعسف والعنت ولا يخضع لبيناتهما. يقر الواقع القائم بسيادة الذكورة على الأنوثة سيادة تغلغلت متجذرة بحكم تقادم الزمن داخل النسيج العلائقي الذي يعين طبيعة الارتباط بين تابع ومتبوع أو فاعل ومنفعل حتى في ظل شعارات أو ادعاءات مضادة تبرأت سابقاً ويتبرأ بعضها اليوم لأسباب مختلفة من عسف هذه السيادة وهيمنتها، تقول بنقضها وبما ينفيها، لكنها تبقى مجرد شعارات قد لا يتحقق منها الا استثناءات شاذة لا تشكل قاعدة مطمئنة يسكن اليها التابع أو المسود ويبتني على أساسها تصوراً افتراضياً لعدالة غير منقوصة تكافئه بالآخر وتعدل كفتي الميزان. والقوامة التي تحكم علاقة الرجل بالمرأة في شؤون الدين والسياسة والفكر والاجتماع والثقافة مصونة بسنن وشرائع وأعراف وقوانين تكبل اللغة التي قولبتها على شاكلة الفكر الذي ينتجها وتعيد هي انتاجه وفق جدليةٍ تعقد بالبداهة بين الفكر واللغة ويتطبع واحدهما بطباع الآخر ويعكس صورته بحيث لا تفيض اللغة بغير محمولها الفكري القيمي في أي خطاب يتداول حضور المرأة وأوضاعها. المرأة المقصية عن الخطاب المهيمن تهمش فيه ولا يُباح لها سوى استظهاره وتسويقه لتكريس تبعية مزمنة تتعارض في كثير من الأحيان مع مقدرات المرأة وامكاناتها معرفياً، يغيّبها عنه الخطاب السائد وينفي وجودها فيه تلازماً مع انتفاء وجودها وحقها في الكلام. فخطاب المرأة ذاتاً وموضوعاً، لا يحظى عموماً بحضوره الحي والفاعل داخل البؤرة المركزية للخطاب الذكوري المتسيّد، بل يظل مقصياً على الأطراف مغرقاً في مفارقة الحضور والغياب. اللهم إلا إذا دعت الحاجة الى استضافته أو استدخاله أحياناً لأغراضٍ يبيتها الخطاب المهيمن، يحل خطاب الأنوثة ضيفاً عابراً داخل بؤرته المركزية، متبجحاً الى حين بشعارات الحق والمساواة تنزاح وتتهافت وتزول بزوال الأسباب الوصولية الداعية اليها هذا الخطاب المموه، المضلِّل والمضلَّل ما ينبغي تفكيكه وهدمه تأسيساً لخطاب مغاير يخالفه، ينقضه ويحضر بقوة الفعل والفاعلية. ذلك ما يتصدى له الكتاب التاسع الصادر حديثاً عن تجمع الباحثات اللبنانيات، في مساءلة صريحة، جريئة للخطاب العربي المعاصر حول النساء العربيات بعد مرور نحو عشرة أعوام على مؤتمر "بيجينغ"، مشرِّعاً صفحاته السبعمئة أمام ثلة من الباحثين والباحثات لمقاربة هذا الخطاب وابداء آرائهم ووجهات نظرهم حوله في ضوء قراءة نقدية تحليلية تبحث في جذر اشكالياته، أصولها ومسبباتها، تعانيها، تشخصها انطلاقاً من تعبيرات تكمن فيها وتدل عليها، شرط ألا تُلزم الآراء الواردة في الأبحاث "تجمع الباحثات" بأي موقف يصدر عنها. وهو ما نستشف منه برهاناً على سعي حر متجرد وموضوعي ينتهجه التجمع في ما يوفره من مساحة للقول المفتوح على الاختلاف، يتعرف قول الآخر، ويفسح له مكاناً الى جانبه، يحاوره، يجادله فيثرى به ويثريه دونما تزمت أو تمييز أو انحياز. مهدت للكتاب مقدمة عرضت ظروف اللقاء الذي ساهم في بناء توجه الكتاب، ولخصت محتوياته التي توزعت على محاور ثلاثة، اضافة الى وجهات نظر تنوعت مقارباتها بتنوع اتجاهات كاتباتها وكتّابها نفسياً واجتماعياً وسياسياً، مسهمة في كشف الغطاء عما تبطنه الخطابات المتداولة حول النساء من عثرات وعوائق تحول دون انطلاقتهن وانطلاقة مجتمعاتهن، فضلاً عن سير وشهادات انطقتها تجارب معيوشة عرَّت الوجه الحقيقي لواقع التمييز بين الرجال والنساء. تناوب على المحور الأول "تأويلات الخطابات السياسية، الدينية والقانونية" كل من محمد أركون الذي حض المرأة المسلمة في نضالها الفكري والعملي على مواجهة سلطة السياج الايديولوجي التي حولت الشريعة الى آلة للقمع والاستعباد، ودعاها الى فرض حرية التعبير والنشر في مجالات التربية والتعليم والبحث تمهيداً للمساهمة في تحرير الأذهان بدراسة نقدية للقيمة الأخلاقية والمعيار القانوني على ضوء دراسات الانثروبولوجيا القضائية وفلسفة الأخلاق والقانون. وتلاه محمد الحداد الذي مايز في الخطاب عن المرأة ما بين المناضل والشيخ والزعيم، منوهاً بنجاح استراتيجية الزعيم في التجربة التونسية في تحقيق ما لم يحققه المناضل الاجتماعي والفقيه المفسِّر، ملمحاً الى ان الخطابات الثلاثة ستظل على رغم ذلك تتنافس للاستحواذ على عمق الوعي الجمعي، ما يعني أن العالم القديم لن يختفي من الذاكرة، وان قضية النساء لن تقف عند حدود المجال القانوني. فهي قضية تأويلية تجدر دراستها من هذا الجانب، واقحامها ضمن دراسة تأويلية عامة للخطاب العربي المعاصر، لا سيما أن الوعظ الديني سوف يدوم مزاحماً الخطابة السياسية، والفتوى مزاحمة القانون، وأساطير الذاكرة الجمعية مزاحمة التاريخ هذا ما دامت المجتمعات العربية عاجزة عن تحقيق حداثتها. تشير رجاء بن سلامة في بحثها عن "أهلية المرأة للمشاركة السياسية في الخطابات الدينية المعاصرة" الى تجذر الخطاب الديني في اللاوعي المجبول بقسط من رفض التفكير، داعية النساء الى بذل جهول فعلية للمطالبة بحقوقهن السياسية والمدنية والمشاركة في تكريسها. فالممارسة السياسية الكفيلة بإنشاء المشهد السياسي وانضاج أفعاله تتلازم بالضرورة مع تفعيل حركة حقوقية عربية تنتج ثقافة مدنية مبنية على المساواة، تهدم الثقافة الفحولية المستشرية ترسيخاً لثقافة المواطنة. أما حسن حنفي فعالج "صورة المرأة في الفقه القديم" داعياً إياها الى تغيير صورتها من طريق اعادتها الى أصلها الأول الذي تشارك فيه الرجل، وهو المواطن والإنسان. ورأت ماري روز زلزل ان المرأة اللبنانية نجحت في حمل خطاب القانون على الحوار معها. لكن الأذن الصماء لبعض السلطات الدينية لم تُعر حوارها ما يتوجب من الاهتمام. ولاحظ أحمد أوزي ان التطور الملحوظ في وضع المرأة المغربية لم يحقق وعياً عاماً وحقيقياً بالمسألة النسائية في ظل غياب مشروع خطة وطنية متكاملة، إذ لا تزال كتابات النساء تراوح حول أشكال الإقصاء والتهميش. ومن خلال الطريقة التي ترى بها وثائق الوكالات الدولية الى العلاقة ما بين المجتمع والنوع في فلسطين، لاحظت ليز تراكي كيف ترزح هذه الرؤية تحت ثقل مقاربة معيارية تحجب في مواقع عدة الديناميات الفعلية والقوى الاجتماعية العاملة في فلسطين. ووجَّه سمير قوته كشَّافَهُ نحو واقع المرأة الفلسطينية في قطاع غزة ليكشف عما تعكسه الضغوطات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية على معاناة المرأة الفلسطينية وأوضاعها النفسية بعد اندلاع انتفاضة الأقصى، معدداً أعراض هذه المعاناة. وأشارت نبيهة صالح الى ان الخطاب الرسمي في اليمن يسعى الى حمل المرأة وشريكها/ الرجل على المشاركة في عملية التغيير والتنمية والبناء في المجتمع اليمني. ولئن تعددت التأويلات في قرارات المحور الأول، وتباينت مقارباتها البحثية فقد توافق جميعها على ضرورة تغيير أطر التفكير وانتاج المعرفة. الخطابات الثقافية استقطب المحور الثاني حول "اتجاهات الخطابات الثقافية والاجتماعية، وسياسات الهوية"، الحديث عن سياسات الهوية ودور الجنوسة في توليد دلالاتها والكشف عن مآزقها الثقافية والتربوية والمدنية وصولاً الى المعرفة النسوية في تشريح المنظومات السائدة وكيفية الخروج عليها. وانطلاقاً من خطاب ادوار سعيد السيري رأت نهى بيومي ان خطاب الرجل عن المرأة مرتبط بصورة الرجل عن ذاته، وحين يتم نفي مركزية الذات/ الهوية وتتأكد حركتها في الزمان والمكان بكيفيات متعارضة، وتتداخل الحدود بين الخاص والعام، الأنا والآخر، يفتح ذلك، الخطاب عن الذات والآخر نحو التغيير. أما فادية حطيط فقد لامست موضوع تواطؤ "ستات" البيوت مع أزواجهن ضد العمل في الخارج، على ضوء ما يلحق بالمرأة العاملة من حيف يتضاعف مع تبعات التوفيق بين عمل الداخل وعمل الخارج، مشيرة الى ان هذا التواطؤ هو نوع من الواقعية التوافقية. فالتضامن الناشئ في الوحدة الأسرية لا يقلل من أثر التفاوتات الجندرية ولا يلغي الظلم بل يموهه ويتعامى عنه. * وتجد جين مقدسي التي تتخوف من الدخول في الجدل الديني أن نسوية نوال السعداوي وفاطمة المرنيسي محاولة تسهم في تغيير جذري لبنية الخطاب السائد، بناءً لاعتمادات الكاتبتين في تجربتهما الكتابية على استنطاق تجارب النساء العربيات، بمنأى عن تقليد الكتابات النسوية الغربية، وهو ما يمهد على ما تقول لتكوين حداثة جديدة لا تكتفي بالاستهلاك. * وتتبعت حُسن عبود التي أكدت على فاعلية النقد النسوي المطبَّق على الأديان، تفاسير نساء عربيات مجتهدات وعلمانيات حول القوامة والمقدس والسياسي والفقهي والأخلاقي، كذلك مصادر الجنوسة في الإسلام، لتبين ان النساء المسلمات يعتمدن منهجية حداثية لأجل مزيد من الحقوق للمرأة المسلمة التي شرعت بطرح الأسئلة، لتدفع باتجاه أكثر اهتماماً بالحرية والمساواة والعدالة وحقوق المرأة. ويذهب فوزي أيوب الى ان نصوص التربية الوطنية والتنشئة المدنية في الكتب المدرسية لا تعكس من الزاوية الجندرية حق المساواة بين الجنسين إلا على المستوى الشكلي لجهة المظهر الخارجي، حيث تغيب نشاطات المرأة عن هذه النصوص، وتفوق حصة الرجل في المبادرة والقرارات حصَّة المرأة. الطاولة المستديرة التي أدارتها فادية حطيط ونهوند القادري ألمحت الى التقدم الجزئي في واقع المرأة قياساً بما هو مطلوب، ولوحظت غلبة التنسيق في المهمات العملية بموازاة الرؤى والتصورات، وكذلك تباين الاتجاهات البحثية بين تصورٍ مختلف للذات/ الهوية وضرورة تطوير دراسة الأديان، وتجذير النقد النسوي، والانتساب الى المؤسسات الدولية والاعتماد على المواثيق الدولية، وتعميم تصور توافقي يسهم بتسرب الوعي بالتفاوت المعيشي، ومواجهة التمييز الجندري في الكتب المدرسية. في "الخطابات الإعلامية والأدبية، والمرجعيات المقيِّدة"، المحور الثالث كشفت نهوند القادري عن الكبت الذاتي الذي تمارسه "محطة الجزيرة" في برنامج "للنساء فقط" حيث يحول هذا الكبت دون تقدم الخطاب حول النساء، سائلة عما إذا كان خطاب البرنامج هو فعلاً من والى وعن النساء أم هو مجرد استعراض لأحكام مسبقة، ومحاكمة غير متكافئة، أطرافها نساء مُتَّهَمات ومُتَّهِمات أمام جمهور مُعدٍ سلفاً؟ من روايتي علوية صبح ورشيد الضعيف، استخلصت نازك سابا يارد جمود ذهنية التسلط والفحولة المتوارثة التي لم يفلح العلم أو العيش في المدن في تغييرها، ولم تُسقطها الشعارات السياسية التقدمية، ملمحةً الى اختلاف خطاب المرأة نفسها في الروايتين من خلال صورة الأم. وأبرزت وطفى حماده مسارين في التأليف الدرامي: مسار الذات النسوية الفردية، ومسار الذات الجمعية من خلال نص فتحية العسال عن سجن النساء، حيث تدعو الكاتبة الى تجاوز ثنائية خطاب الرجل السائد في النظام الاجتماعي، وثنائية الذات المُستضعفة على المستويين الخاص والعام. فالحل يكمن على ما ترى، بنضال المرأة نفسها على المستوى الخاص ثم بتجاوزه الى المستوى العام عبر ادخال المرأة في صميم الصراعات القائمة. وتتهم هلا الزعيم المؤسسات الإعلامية بمصادرة حرية الإعلام، وكفّه عن دوره في التحديث ونشر الفكر العقلاني على ضوء ما تنشره صفحة المرأة في جريدة "المستقبل" اللبنانية. ويوصِّفُ مصطفى متبولي الخطاب التنميطي لصورة المرأة في الإعلام بالخطاب المكيافيلي لإمعانه في تسليع جسد المرأة في الإعلان تلازماً مع طغيان الاستهلاك السلعي. وتدين مي العبدالله الغاية التجارية الجنسية التي أنشئت على أساسها مواقع المرأة العربية على الانترنت باللغة الفرنسية. باعتبارها سبباً أساسياً لاستبعاد الخطاب الابداعي للمرأة العربية على هذه المواقع، داعية النساء الى استغلالها لنشر انتاجهن الإبداعي. بمعزل عن القيمة المعرفية الراقية لبعض الأبحاث، وبمنأى عن تبني أو معارضة توجه بعضها الآخر، لن يسع المَطّلع على الكَمِّ النوعي الذي تضمنه الإصدار الجديد لتجمع الباحثات اللبنانيات إلا أن يستبشر خيراً بجدوى مساءلة الخطاب العربي المتداول حول النساء، وبحيوية حراكه اليوم، على أمل أن تتحول النساء من مقصيات، قاصرات ومنفعلات في هذا الخطاب، الى مُتمثلات وفاعلات فيه ومنتجات له.