لم أعثر في بلادي عليّ، لا بين الدروب القديمة ولا على مقاعد المقاهي التي تقاسمت الجدل والمؤانسات فيها، مع أصدقاء غادروها الى الأبد وآخرين لوحت الحروب أجسادهم ونصوصهم، والبقية القليلة من الذين ما زالوا يرتبون حياتهم وابداعهم شغفاً بالعراق. أقدامي غريبة على الأرصفة وفي الشوارع، وبغداد التي غادرتها قبل سنوات طويلة لم تعد صبيّة كما تركناها، وأنوارها التي كانت تبهج ليالينا واحتفالاتنا الفتية، بدت مطفأة. مؤانسات الناس الحميمة الملقاة على مقاعد مقاهيها، التحيات والإشارات، التي كان الأصدقاء والصديقات يطلقونها في الهواء الطلق بصخب وسعادة، ماتت كلها، حلّت محلها شوارع وأرصفة مترمّدة، أبواب ملطخة، نوافذ وأبواب معتلة، وأسواق تحتفي بالطين والوحل والغرائز، لتتحول حزاماً مريراً من المضاربات والنزاعات القبلية التي خلّفت جوعاً ومسدسات وقتلة! هذه هي بغدادي الطرية الروح، الحلوة الوجه، النادرة الجمال، أم اللهفات والكرنفالات واللعب والحرية المنفلتة بجنون الى الأنهار والعشق والحدائق والأراجيح! صارت الآن ملعباً للقتلة المحترفين، إنه الابتكار الدموي والتدريبات اليومية لتلبس صورة البربري، المرتد، في هدم مطلق ونهائي للعراقي في صورته الأولى، التي كانت تكرس عند القاصي والداني أنموذج ابن الكرامة، ابن النبل، ابن القيم، ابن الإرث الأخلاقي المكتسب منذ مئات الأعوام! أهذه هي مدينتي؟ بغدادي الغنّوجة! لم أصدق الذي رأيته أبداً، وبدت حيرتي وحزني طافحين وواضحين على تصرفاتي، جحيم الشوارع، والبؤس المرمي على ملابس أو وجوه الناس وتحول الحياة كلها الى ما يبثه السوبرماركت، حولت بغداد كلها الى متجر قذر بعدما كانت صورة للمدن الأكثر تنظيماً والأكثر ألقاً! وعلى رغم أن بغداد التي دخلتها الآن هي غير بغداد التي كنت مغموراً بها، لكني أردت أن أكيّف عينيّ وجسدي لقبول ما يحصل من مرارة وبؤس. مع ذلك تندفع السيارات يومياً الى الشوارع والعراقيون ينفلتون الى أعمالهم، الصخب على أشده، الحرارّة تصعد من ايقاع السخط، الدبابات تخترق الشوارع بسلاسة وعنف ومن دون أي اكتراث لأحد. كنت قد نويت الذهاب الى وزارة الثقافة، التي تبعد عن مدينة أور التي أسكنها نصف ساعة! لكن هذه النصف ساعة هي الأكثر قلقاً، لأنك لا تدري إن اللغم المقبل سيكون من نصيبك أم لا، تعبر الشارع الآن، ثم يخبرونك بأن لغماً انفجر في الشارع نفسه بعد مرورك بدقائق! تعبر الجسر، ثم سرعان ما تكتشف ان الأميركيين اكتشفوا لغماً على الجسر! انها رحلة الرعب. ومع ذلك فالسيارات تهدر، وتمضي بسرعة وكأن شيئاً لم يكن! معظم العراقيين يخرجون من البيت بعد قراءة الفاتحة، لأنهم من دون ضمانات للعودة! أمهاتهم تودعهم في كل صباح، وعندما يعودون في الليل سالمين فهذا بمثابة عيد للعائلة! صديقي الجميل صاحب نعمة الذي أدمن سلوك الطرق الوعرة، يعرف كيف يتسلل عبر الدروب الفرعية بمهارة لا مثيل لها، معتقداً أنها أقل تعرّضاً لأن تنفجر الألغام فيها! وهكذا يضع أغاني أم كلثوم بصوت عالٍ، ويحدثني عن مشروعه المسرحي الجديد، ثم يضحك ضحكاته المدوّية من دون أن يكترث بخطورة الطرق! قلت له والدبابات الأميركية صارت قريبة، أن يخفف السرعة قليلاً! ضحك واستمر على السرعة نفسها. في الطريق بين منطقة الدورة واكاديمية الفنون الجميلة، يمكنك أن ترى الكثير من الأهوال... طرق مسدودة بسبب انفجار قنبلة في عربة أميركية، سيارة تدهس رجلاً مسناً وتسفك دمه من غير اكتراث بالمارة، اصطدام سيارتين ببعضهما ببعض، والنار تشب في الركاب! صرخ بي صاحبي، لماذا أتيت؟ عن أي وطن تبحث؟ وأي مسرح هذا الذي تنشد بناءه وسط جهنم الحمراء؟ ثم كسر توتره وجديته، عندما قال: الأفضل أن نعرض مسرحياتنا المقبلة على ظهر المدرعات والدبابات، أو في الخرائب أو وسط الزبالة التي تحولت الى مفردة تجمع كل الشوارع. لنكتب نصوصاًَ جديدة عن مزابل العراق، السياسية منها والوطنية. ثم أردف قائلاً بين المزح وجديته المفرطة: جواد عندي لك اقتراح وحيد يجعلك أكثر أماناً ودفئاً. قلت له ما هو؟ قال: خذ نصوصك ومقترحاتك الاخراجية وأخلاقك وعُد من حيث أتيت!! تحدثنا ونحن نخترق شوارع بغداد عن هذه الخيبة الكبيرة، خيبة أن تنتظر ستة وعشرين عاماً في منافي العالم بانتظار أن يسقط الغول وتعود الى بيتك. سقط الغول، لكن البيت أو البيوت بقيت على حال احتراقها وخرابها! قلت لصاحبي: مللت المدن كلها، لم تعد لدي أي شهية مسرحية في العواصم كلها، كل عطشي يسير نحو بلدي! ضحك صاحبي بصوت مدوٍ: بلدك، بلدك، انظر الى بلدك! في الليل يصير شعبك من الحواسم وفي النهار من الثوار! والحواسم هنا مفردة جديدة ابتكرها الشارع العراقي بعد سقوط صدام حسين وهم الذين سرقوا البنوك وكونوا بالسرقات فئة جديدة من المنتفعين والسوقيين والسماسرة! أليست هذه المسرحية الأكثر هولاً؟ هذا هو مسرح الشارع بكل حيويته وطزاجته، والممثلون هنا تم تدريبهم على مدار سنوات طويلة على اللصوصية والقتل والجريمة! قال صاحبي: الأفضل لنا أن نفكر بمهنة غير المسرح! لأن المسرح لم يعد ممكناً أبداً! فكرة جيدة! لنبحث عن مهنة أخرى، ولنسمّها "الصمت المطلق"، الموت المطلق، العذاب المطلق! أو الانتظار. * * * كأن الدروب والأرصفة والبيوت انزلقت كلها الى الفرن، لتصير حطباً للنار الأصولية، المتعددة الأقنعة والذرائع والحجج، وصولاً الى مأتمية سياسية أورثتنا جحيماً يفوق في خرائبه ودمويته جحيم دانتي أو تطاحن الأخوة الأعداء في قبائل المهابهاراتا الهندية! بدت لي تلك البغداد وكأنها فتاة يأكلها أهلها في ذروة الصبا المنشود بشهوانية غير مسبوقة في التاريخ، أو كأن ثمة برابرة خرجوا من بطون امهاتهم حاملين فايروس الجريمة، لإطاحة ذلك الإرث الأسطوري، المدني، والشعرية الفذة الآتية من نصوص خالدة. وبغداد، تلك المهرة الجامحة، آلت بها الأيام الى أن تتحول مدينة مريضة، تفضل البقاء في غرفة انعاش ضخمة، لتبدو ذات ذبول أبدي، بحدائق أضرموا النار في شجرها المقدس لتظل تشتعل حتى النهاية! السائق الأردني بعد نهار طويل من الأرق والتوتر رمى حقائبي وجسدي أمام الباب نفسه، باب البيت نفسه، الذي غادرته سنة 1976، نظرت الى الباب ملياً، لم يتغير في ثناياه شيء، بينما التهدم وضربات النفي والقهر بدت على ملامحي، حيث تغيّر وجهي بعدما كان نضراً، فتياً. وجهي يموت أمام باب عاش كل الدهور، وتلك الحديقة الرائعة التي كنت أنعم بظلال نخلتها، ما زالت كما هي، وأمي التي رمت الماء على غيابي، انحنى جسدها وتهدمت روحها. مع ذلك عندما دققت الباب، فتحت أمي الباب لي، ولكن هذه المرة على انهمار الدمع، تعبيراً عن فرح ملتبس عمّ الجميع، خصوصاً خالي خضير شنان الذي كان من أشد المتنورين السياسيين في كربلاء. عانقتهم جميعاً، زغردوا ورفرفت عباءة الوالدة عالياً، دماء النذر تسفك، تسللت الى البيت الذي آواني ذات يوم، تفرجت على الصالون الذي يشهد على كل يومياتي منذ كنت طالباً في أكاديمية الفنون الجميلة، وجدتي التي غيّبها الموت، كم كانت حاضرة بقوة على رأس تنورها الصباحي وخبز المحبة الذي توزعه على العائلة! ثمة أولاد وصبيان أتوا الى العالم في فترة غيابي: ربى، حنين، بسام وهشام، وأولاد أخي الحاج حسين وأولاد جمال السبعة، صار عندي جمهورية رائعة من أولاد لم أرهم مطلقاً، ها هم يحيطون بي من كل صوب، انها الفة العائلة التي كنت دائماً أشتاق لها! وضعت روح جسدي على الكرسي نفسه، في الحديقة نفسها التي بدت مشمسة بقوة. السياج وخضرة الأرض والأرجوحة ومفردات اليفة أعادت لي نهارات المؤانسة الفذة. بي لهفة عارمة للانفلات من البيت نحو الأمكنة الأخرى التي عشتها، شارع أبو نواس، اكاديمية الفنون الجميلة وشارع الرشيد تحديداً، الذي كان أكثر غواية وجذباً لتسكعنا بين مقاهيه التي كانت الفتها تشبه الفة بيوتنا، حيث يلتقي الشعراء والمسرحيون والتشكيليون والموسيقيون، ممن يرفعون حياة النهارات الى منصة الألق المعرفي. * * * مرة أخرى مع صديقي العذب صاحب نعمة. تخرجنا في أكاديمية الفنون الجميلة وفي السنة نفسها، مع صديق آخر كان يكمل جنون أيامنا، انه عقيل مهدي. ثلاثي مشاكس يشتكي منا الأساتذة وقتذاك والطلاب في آن واحد، ربما لأننا كنا الأكثر موهبة والأكثر شراسة في تقديم الأعمال المسرحية. كان ذلك في سنة 1972، قبلها وبعدها، وقد صار لاسمنا رنين خاص بين الطلاب وعلى المسرح. رافقني صاحب نعمة الى ساحة الميدان حيث سندشّن صباح يوم الجمعة بالذهاب الى مقهى أم كلثوم، الذي كان بالنسبة الينا والى عدد كبير من المثقفين الملاذ المكاني الحر، حيث نتأبط النصوص الكبيرة مثل "الجريمة والعقاب" لديستويوفسكي أو "هاملت"، أو أعمالاً مهمة نتعطش قراءتها. كان مقهى أم كلثوم هو المكان الأنسب لنا في قضاء فترات استراحة عذبة، نقرأ في الكتب وفي الوقت نفسه نسمع أم كلثوم، متعة فريدة في مزج فريد، أكثر من ست ساعات تمضي من دون أن نحس لا بالزمن ولا بالجالسين، وقهوة أم كلثوم بعد ستة وعشرين عاماً هي هي، قلت لصاحبي: انظر، انه يقرأ نصاً لابن عربي، الآخر يقرأ جريدة "طريق الشعب"، الثالث يكتب بمتعة كبيرة، لا أحد ينظر الى أحد، لا أحد يحكم أحداً، جميع مريدي المقهى شغوفون بصوت أم كلثوم. انما الشيء الوحيد الذي تغير، هو سحنة الوجوه، والأردية والمناخ العام للمقهى، كأنْ تحس فعلاً كأنك في "عنبر رقم ستة" لشيخوف، كأن عالم المقهى هو نفسه عالم المصح: الوجوه ملطخة بالقهر، الملابس ممزقة، النفوس مسحوقة، لا أمل في العيون ولا شهية في الشراب، حركتهم بطيئة، يرشفون الشاي وكأنه دواؤهم المقدس، يجلسون، مسمرين في الفراغ، ينتظرون الفرح. أم كلثوم تصدح "يا ظالمني"، وأنا أرقب الوجوه، يا إلهي، أقسم: لم تكن وجوه العراقيين على هذه الدرجة من المرارة والإحباط، لم يكونوا رثين الى هذا المستوى من الرثاثة، من الذي أوقعنا في مغطس القهر والظلم؟ وهذا الخنزير البري صدام حسين، الذي صنع لنا كل هؤلاء الرجال القتلة، اية شهوة كانت تسكنه وهو يرى شعباً كاملاً يموت تحت ضربات جزاريه وحماقته، وبربريته! فعلاً حوّل العراقيين الى ما يشبه التراب كما قالها ذات يوم، والعراقيون صاروا تراباً، نفوساً مكسورة، أرواحاً تنزف، ولا أمل! أين هو الأمل؟ الدبابات والصواريخ الأميركية هي القاموس الأحدث لكيان يذهب كله الى مطحنة الجوع والسرقات والخطف والقنص والسلامة والقنابل التي تنفجر تحت أرجل العامة من الناس. ذبحتني تلك الوجوه في مقهى أم كلثوم، كنت أود لو أحدثهم! أحس وجعهم، وددت لو اني أستطيع أن أعوي أو أصيح أو أبكي... الجلوس في مقهى أم كلثوم بعد سنوات طويلة من الموت في المنفى أعاد لي جمال الناس آنذاك وموتهم الآن.