في سباق الفضائيّات العربيّة الى جذب المشاهدين، تبدو البرامج الاجتماعيّة "سلاحاً" في منتهى الأهميّة والخطورة. ليس سراً أن تحقيق الاقبال في مجتمعات تتحكم فيها الممنوعات والتقاليد، يفترض اللجوء الى أحط وسائل التشويق... أي تشجيع "البصبصة" بكل اشكالها وأنواعها. لذا نجد أن الشاشات العربية غارقة تحت وابل من البرامج التي تعتمد التلصص على حياة الآخرين، واستعراض مشكلات الناس ومصائبهم بطريقة سطحية وفضولية وقحة، لا تأخذ في الاعتبار تعقيد الواقع وكرامة الافراد، ولا تراعي الخصوصيات أو تحترم حدود الحياة الشخصية. البرامج الاجتماعيّة سيف ذو حدين... من جهة هي منبر ضروري وحلقة صحّية ومطلوبة، لطرح قضايا أساسيّة تتعلّق بحياة الجماعة وأحوالها، وفتح مجال التعبير أمام الناس. البرنامج الاجتماعي بهذا المعنى هو المرآة التي يبحث فيها كلّ مشاهد عن شيء من ذاته، والوسيط الذي تلتقي عنده مختلف أطراف المجتمع المدني. يوفّر فرص التفكير والتأمّل والنقد، ويلعب دوراً اصلاحياً وحيوياً... ويساعد - ربّما - على "معالجة" بعض المشكلات والظواهر، من خلال تحليلها وكشف خلفياتها وأبعادها، وأشراك باحثين ومتخصصين في تلك العمليّة الدقيقة القائمة على احترام الناس أولاً وأخيراً. ومن جهة أخرى، ولعلّه الاحتمال الأكثر شيوعاً على شاشاتنا، تنطوي البرامج الاجتماعيّة على كل مخاطر الانحراف الى مطبات التهويل والتسطيح والابتذال والتلصص الرخيص... ناهيك بالاعتداء على أفراد في موقع ضعف، واستغلال جروحهم وعذاباتهم والاتجار بالأخلاق وقلّة الاخلاق على السواء، وتوسّل الوعظ الكاذب بإسم القيم، لتحقيق أكبر قدر من الانتشار والرواج. نذكر ذلك المقدّم الذي يسأل طفلاً شهد جريمة قتل مروعة ذهبت ضحيّتها والدته: "وماذا كان شعورك في تلك اللحظة؟". والضحيّة، في هذا النوع من البرامج "المسفّة"، ضيف الحلقة ومشاهدها على السواء. ولعل الضحيّة الكبرى هي الذوق العام الآخذ بالانحدار في مجتمعاتنا المعولمة التي تعاني اهتزاز القيم والخوف من المستقبل. وفي انتظار برنامج جورج قرداحي الجديد "افتح قلبك" فضائية LBC، لا شكّ في أن برنامج "حدّث ولا حرج" الذي تقدّمه الاعلامية لينا صوّان على فضائيّة دبي، هو من الاستثناءات النادرة التي تستحقّ التحيّة والثناء، وتقف في الموقع النقيض لفضائحية زافين في الحلقة الأخيرة من برنامج "سيرة وانفتحت" فضائية المستقبل. نبرة البرنامج هادئة ورزينة، وهو حريص على الموضوعيّة، وعلى حماية الضيف من النزعة "الفضائحيّة" والاستعراضيّة، أو من أية عمليّة استغلال ومتاجرة بالجروح. وحلقة الأمس عن "الخيانة الزوجيّة" خير تجسيد لذلك النهج. كلّنا نعرف أن هذا الموضوع حافل بعناصر "الاثارة" والضجة المجانية، والفضائحيّة والتهويل الرخيص الذي يعجب الجماهير، ويدفعها الى تفريغ كبتها والتطهّر من مشكلاتها ومخاوفها. لكن الحلقة كانت نموذجاً في احترام الناس، واحترام الذكاء البشري، ومخاطبة الوعي النقدي، وتوسل المعرفة والاجتهاد لولوج جوهر المشكلة. بدت لينا صوّان متمكّنة من ملفاتها، تحترم الناس، وتدير دفّة الحوار بليونة، كما تمتاز بحضور ذهني، وأسئلتها دائماً محكمة، متواضعة، بعيدة من الوعظ. وهذا لم يمنعها من مساجلة من تستضيفهم من أهل الاختصاص. حين أوضح الدكتور عرفان الشيخ في حلقة الأمس، وهو مأذون شرعي وباحث اجتماعي من الامارات، أن من شروط تفادي "الخيانة"، أن يقوم الزواج على أساس تفاهم وحبّ، أوقفته صوّان: "لكن حتّى في حالات الحب، المشاعر تتغير، والبشر يتغيرون". أما عالمة الاجتماع الدكتورة موزة غباش التي اعتبرت أن "الفنّ الهابط الذي يصلنا مسؤول عن انتشار الخيانة الزوجيّة !"، فتجاوزت صوّان نظريتها بتهذيب، محوّلة الكلام الى إحدى "الضحايا" التي تتكلّم عن مسألة معيوشة جذورها اجتماعيّة ومادية وانسانية... أياً كانت الفنون هابطة! وختمت لينا صوان بمجموعة احصاءات ومعطيات ومعلومات تنير المشاهدين، وأوضحت أنّ تلك المعطيات آتية من الغرب الذي يواجه المشكلة بمعالجتها ودراستها... فيما نمضي نحن في سياسة النعامة، إذ نهرب من الواقع، ونرفض الاعتراف به كخطوة أساسية لمواجهته!