جمعتني الصدفة بقنصل عراقي حضر الى بيت أحد الإخوان ليصدق على وكالة لزوجة هذا الأخ، ودار بيني وبين هذا القنصل الحوار التالي: هل من الممكن الحصول على جواز سفر عراقي؟ أنا لا أحمل جواز سفر عراقياً منذ سنة 1970. أجاب: نعم ممكن ولكن... فأصخت السمع لأستوعب ما يجيء بعد ولكن: عليك إحضار شهادة الجنسية العراقية التي تثبت انك عراقي، أو وثيقة الأحوال المدنية التي تصدر عادة من الجهات الرسمية العراقية المختصة، ثم تملأ استمارة، ثم ثلاث صور، وتدفع الرسوم، ونحن تحت الخدمة... مع ابتسامة. فقلت: لكنني يا أخي الكريم لا أملك شهادة الجنسية العراقية، فأنا كما تعلم أو لا تعلم، تركت العراق سنة 1970 بجواز سفر عراقي ما زلت احتفظ به، وأن داري في العراق دوهمت اكثر من مرة، وتعرضت عائلتي للترويع، وعُبث في أوراقي وكتبي وسُرق وتلف منها الكثير إذ كنت مطارداً من النظام السابق لأنه يعتبرني من خصومه وسُجنت أكثر من مرة إلى أن تركت العراق ناجياً بروحي، وإن شهادة الجنسية وغيرها فُقدت أو سُرقت. فقال: بسيطة، يمكن الاعتماد على شهادة جنسية أخيك. فقلت: وحال أخي كحالي تماماً فهو الآخر كان مطارداً وملاحقاً ولا أظنه يملك أو يحتفظ بشهادة الجنسية العراقية التي تطلبها. فقال: إذاً هات وثيقة الأحوال المدنية التي تُبيّن حالتك الاجتماعية من تاريخ الميلاد، ومكان الميلاد، والحالة الاجتماعية، والوظيفية وما إلى ذلك، فقلت له: إن هذه الوثيقة لم يكن معمولاً بها إلى حين مغادرتي العراق وبالتالي لا أملكها أيضاً. ثم سألته: لِمَ كل هذا الاهتمام الآن بشهادة الجنسية العراقية والذي أعرفه أنها الشهادة لم تنفع عشرات الألوف من العراقيين الذين طُردوا من العراق وصودرت أموالهم المنقولة وغير المنقولة بحجة أن أصولهم غير عراقية، على رغم أنهم يحملون شهادة الجنسية العراقية التي تتحدث عنها الآن؟!. شعرت أن الرجل أسقط في يده، لكنه سرعان ما أجاب: أنت تعرف، أستاذ، أن العهد السابق كان قومياً وقد أصدر كثيراً من جوازات سفر عراقية لعناصر غير عراقية لأسباب سياسية قومية، ونحن الآن في صدد التوثق أو التأكد من عراقية العراقي، بحسب التعليمات... وأنه أولاً وأخيراً موظف ينفذ التعليمات. فعاجلته بالقول: صحيح انك موظف تنفذ التعليمات التي تأتيك من بغداد حتى لو كانت ملاحقة أو مضايقة او تصفية أي عراقي يعتبره النظام السابق عدوا له أو مصدر خطر عليه، وقد تعرضت أنا شخصيا لمثل هذه الملاحقات تنفيذاً للتعليمات، فسكت ولم يعلّق. وعدت إلى مسألة الجواز لأحسم الأمر معه. وسألته عما اذا كنت استطيع السفر الى العراق بجواز سفر مصري، فأجاب: لا تستطيع أيضاً إلا بتأشيرة تطلبها، فنكتب إلى بغداد لأخذ الموافقة على منحك التأشيرة، فإما أن توافق بغداد أو ترفض، فقلت باستغراب: ترفض بغداد اعطائي التأشيرة وأنا عراقي؟ أجاب: لأن جواز سفرك مصري. فقلت له: ألا تعلم أخي الكريم أن كل العراقيين وأقول كل لا بعض الذين يديرون أمور العراق الآن مع سلطات الاحتلال التحالف من وزراء ومدراء وخبراء وسفراء وأمناء وشركاء، لا يحملون جوازات سفر عراقية ولا شهادات جنسية عراقية، بل دخلوا العراق وهم عراقيون بجوازات سفر أجنبية غير عربية، وتسلموا المناصب السياسية والإدارية والديبلوماسية والفنية وخلافه وهم بحسب تعليماتك غير عراقيين!!. فضحك وأجاب مسرعاً: يا سيدي أنا موظف أنفذ التعليمات كما قلت. نعم أنت موظف نفذت بأمانة تعليمات العهد السابق على البعض وها أنت الآن تنفذ تعليمات العهد الجديد على البعض أيضاً. أدركت صعوبة موقفي، وأن الحصول على جواز سفر عراقي موقت مدته سنة واحدة أصبح من المستحيلات، فأنا لا أملك شهادة جنسية تثبت أنني عراقي، ولا أملك وثيقة أحوال مدنية، ولا أظن أن عراقياً مجنوناً سيتبرع ويقدم على تقديم طلب يدعوني فيه إلى العراق تحت ضمانته وكفالته ومسؤوليته من أنني سألتزم الهدوء والسكينة ولا أقوم بما يعكر صفو الأمن والأمان الذي ينعم به العراق اليوم! وأنا بالطبع مشاغب وغير منضبط. وران صمت قصير، قطعته متسائلاً: وما هو الحل أخي الكريم فبادر قائلاً: يمكن أن أزوّدك بورقة مرور ليسيه باسيه استناداً ا لى جواز سفرك القديم، وأنت وحظك! فسكتُ، ثم سألته: أن زوجتي وهي قريبتي ولكنها لا تحمل الجنسية العراقية فكيف تدخل العراق مثلاً؟ أجاب: ما يجري عليك كمصري يجري عليها. لا بد من التأشيرة، أو الدعوة، وكلتاهما تأتيان من الجهات الرسمية في بغداد. فأردفت قائلاً: لكن الأجانب الذين يحملون جوازات سفر أجنبية غير عربية سواء كانت اميركية أو بريطانية أو هولندية أو كندية أو يابانية لا تنطبق عليهم هذه التعليمات... فسكت الرجل. وهنا أدركت معنى الشعار الذي رفعه الاميركيون عندما قرروا غزو العراق أو احتلال العراق فقد كان الاسم الكودي للعملية الحرية للعراق.... ولا أكتمك أخي القارئ، فقد عزّت عليّ نفسي وشعرت بالمهانة، وكأنني بحاجة وأنا في هذا الموقف إلى إثبات عراقيتي من خلال ورقة، مجرد ورقة. وتنازعتني شتى المشاعر من غضب، وإحباط، وقنوط، إلى الحد الذي كدت أن أفقد أعصابي وانفجر في الرجل، فتمالكت نفسي وسيطرت عليها، ولسان حالي يقول: ليس هذا القنصل هو المسؤول. هناك خطأ كبير تراكم إلى الحد الذي وصل إليه عراق اليوم. اخطاء كبيرة أُرتكبت من الجميع أوصلتنا إلى الحال التي نحن عليها اليوم ويجب أن نتداركها سريعاً وإلا سيضيع العراق. أدرك القنصل أن الموقف يقتضيه أن ينسحب ويخرج من البيت سريعاً تلافياً لتداعيات هذا الحوار. وما أن خرج حتى قفزت وراءه ورحت أصرخ بصوت عال: اسمع أيها القنصل سأذهب إلى العراق ولو زحفاً على بطني، فأنا لا أعرف لي وطنا غيره، فلا أنت ولا رؤساؤك يملكون منعي من دخول وطن قامت دعائمه على جماجم آبائي وأجدادي. وأنا هنا أدعو كل عراقي مغترب مثلي أن يشد الرحال إلى هناك حيث المعركة الكبرى من أجل أن تتضافر جهود كل الخيرين من ابناء العراق الغيورين لإعادة بناء العراق الجديد على أسس جديدة، عراق الحرية والكرامة، عراق التآخي والمحبة، عراق ليس فيه عرقية أو طائفية أو مذهبية، عراق كل العراقيين من دون تمييز أو تفريق، يكون رديفاً لأمته العربية وعالمه الإسلامي والإنساني، وقد تحرر واسترد سيادته كاملة غير منقوصة في ظل ديموقراطية وشفافية، وتكون الكلمة العليا فيه للشعب العراقي العظيم. * وزير عراقي سابق.