قطع الرئيس اللبناني إميل لحود إجازته في"مونت كارلو"ليرجع الى بيروت يسبقه طلب الى وزير الدفاع محمود حمود وقائد الجيش العماد ميشال سليمان، بأن يأمرا القيادة العسكرية بضرورة نقل تمثال الشهداء الى ثكنة الكرنتينا. ومع ان التفسير الذي قدمه القصر يشير الى حرص لحود على صيانة رمز الشهداء من العبث، إلا ان المراقبين سجلوا هذا الحادث في مسلسل الاختلاف المتفاقم بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة. وكان الحريري قد اتفق مع رئيس بلدية بيروت عبدالمنعم العريس على اعادة التمثال الى ساحة الشهداء استعداداً لتثبيته فوق قاعدة لم يستكمل بناؤها. وربما توقع ان تمر عملية النقل من دون اعتراض لأن شركة"سوليدير"هي التي أنفقت 73 ألف دولار على ترميمه في جامعة الروح القدس، ولأن رئيس بلدية بيروت هو المسؤول عن تجميل شوارع العاصمة. ولكن هذا التبرير لم يقنع الرئيس لحود الذي قرأ في هذه العملية المستعجلة حركة التفاف على احتفال ضخم كان يعدّ له القصر كجزء من حملة الرئاسة. كما قرأ فيه تفرّداً بقرار يتطلّب استشارته كأن الحريري عازم على حرمانه من فرصة الاحتفال بإعادة التمثال الى ساحة الشهداء. وفي ظل أجواء النفور المتنامي بين رئيس الجمهوية ورئيس الحكومة اعتُبرت هذه الواقعة مثلاً صارخاً لعملية شدّ الحبل بين تيارين يتنازعان على تهيئة الظروف المؤدية الى اختيار الرئيس الجديد. ومن المؤكد ان الضوء الأخضر الذي أعطاه الدكتور بشّار الاسد بشأن"لبنانية"القرار المتعلق باختيار رئيس الدولة... هذا الضوء زاد من حدة البلبلة بين النواب الذين اعتادوا منذ سنة 1990 على الاهتداء بالإيحاء السوري في عملية انتخاب الرئيس. وكان من الطبيعي ان يواجه دعاة التمديد حملة ضغوط مربكة بعدها أعلن اربعة نواب من خوض المعركة هم: روبير غانم ونايلة معوّض وبطرس حرب ومخايل الضاهر، ومع ان الأربعة يختلفون على الرؤية السياسية لدور الرئيس، الا انهم متفقون على رفض ترشيح لحود لولاية ثانية بحجة انه لا يجوز تعديل الدستور من اجل شخص. ولقد أيّدهم بهذا الموقف كل الذين ترددوا حتى الآن في اعلان ترشيحهم مثل: نسيب لحود وسليمان فرنجية وجان عبيد وفارس بويز وبطرس حرب وميشال إده وفؤاد السعد. علماً ان بعضهم يتوقع وصول"كلمة السرّ"من دمشق مطلع الشهر المقبل، والبعض الآخر يتردد في خوض المعركة بانتظار الترجمة العملية لتصريح الرئيس الأسد القائل"ان الاستحقاق الرئاسي هو مسألة لبنانية داخلية". زوّار دمشق من النواب اللبنانيين ليسوا مطمئنين الى الأجوبة الغامضة التي يردّ بها المسؤولون السوريون على اسئلتهم الملحّة. وهم يؤكدون ان موعد صدور الجواب الحاسم قد يتأخر كثيراً عن الموعد الذي اختاره الرئيس حافظ الأسد لتطمين الرئيس الياس الهراوي بأن ولايته ستمتد حتى نهاية ثلاث سنوات اضافية. والسبب كما تبلّغ النواب ان ادارة بوش رفضت حتى الآن إجراء حوار مع دمشق حول مرشح تؤيده سورية ولا تعترض عليه الولاياتالمتحدة. وظهر هذا الموقف بوضوح من خلال الحديث الذي أدلى به ل"الحياة"نائب وزير الخارجية الاميركي ريتشارد أرميتاج. ذلك انه شدد على القول ان بلاده لا تختار مرشحين للرئاسة، وإنما هي تترك الأمر لتفاهم الدولتين السورية واللبنانية. ثم كرّر الالتزام بالمطالب التي قدّمها الوزير كولن باول كانتشار الجيش على كامل الاراضي اللبنانية وانسحاب الجيش السوري الى ما وراء الحدود واحترام النص الدستوري المتعلق بتحديد مدة الولاية بست سنوات. ويستنتج من دلالات هذا التصريح ان سورية لم تنجح حتى الآن في التوصل الى تفاهم مع واشنطن على الغاء قانون المحاسبة او إلغاء المرحلة الثانية من سياسة العقوبات. ويبدو ان واشنطن تتوقع من دمشق مساعدتها على نشر اجواء آمنة في العراق تستفيد منها حكومة اياد علاوي، كما يوظفها جورج بوش لمصلحة حملته الانتخابية. كذلك هي مهتمة بأن تلعب دمشق دوراً مؤثراً مع طهران لعل وساطتها تؤدي الى تجميد برنامج صنع السلاح النووي الايراني. ويتخوّف جورج بوش من ان يستغل شارون انشغاله بالانتخابات لكي يسدد ضربة استباقية للمنشآت النووية الايرانية، تماماً كما فعل اثناء الانتخابات الاميركية سنة 1981 عندما اتفق مع مناحيم بيغن على قصف المفاعل النووي العراقي. ولقد حذّر وزير الدفاع الايراني الأدميرال علي شمخاني اسرائيل والولاياتالمتحدة من عواقب هذه المغامرة، لأن بلاده قادرة على زعزعة أمن المنطقة، بدءاً من جنوبلبنان، مروراً بالبحرين، وانتهاء ببغداد. ولكي لا تصل الامور الى هذا الحد من خطورة المجابهة، قررت ادارة بوش اخراج كل العناصر المؤيدة لإيران من الساحة العراقية. ولم تكن الحملة العسكرية الاخيرة ضد ميليشيا مقتدى الصدر سوى بداية تحجيم سياسي لكل المراهنين على نقل نموذج النظام الايراني الى العراق. والمؤكد ان أحمد الجلبي وسيط اميركا السابق لدى طهران لم يكن يتوقع ان يتخلى عنه الأصدقاء الكثر داخل البيت الابيض. كذلك لم يحسب الزعيم الشاب مقتدى الصدر ان آية الله علي السيستاني سيسافر على عجل بحجة الاستشفاء في لندن. وربما سهّل غيابه عملية الاقتحام لأن واشنطن استغلّت وجوده خارج البلاد لكي تضرب"جيش المهدي"باعتباره يمثّل أقوى خيوط التعاطف والتعاون العراقي مع ايران. والمعروف ان السيستاني وحده يمثل في العراق المرجعية الشيعية المؤهلة لإصدار الأحكام والنصح للأمة والأئمة. يقول الديبلوماسيون في بيروت ان دمشق تراقب باهتمام بالغ ما يجري في النجف وبغداد والبصرة لأن نتائج تصفية حلفاء ايران في العراق ستؤدي تلقائياً الى حدوث تجاذبات سياسية واسعة ستتأثر بها سورية أولاً، ولبنان ثانياً. ومن المتوقع ان يؤدي تضامن شريحة من اللبنانيين مع تيار مقتدى الصدر ومحافظي ايران، الى فتح معركة التمديد للحود من بوابة الجنوب، خصوصاً ان دمشق تركت لحلفائها اللبنانيين هامشاً واسعاً للتحرك في هذا الاتجاه. ويبدو انها طالبتهم بالرد على بيان مجلس المطارنة الموارنة الذي حدّد أهم مواصفات الرئيس المقبل بأن يكون قادراً على الغاء الوصاية على لبنان. وتبرع للردّ على هذه النقطة بالذات عدد كبير من زعماء الأحزاب والوزراء والنواب الذين كرّروا ما قاله نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي من ان الانتخابات يجب ان تُجرى على قاعدة التحالف المميزة مع سورية. وأيّده في هذا التصور وزير الصحة سليمان فرنجية الذي رأى ان السوري لا يزال الناخب الأكبر في الاستحقاق الرئاسي. في حين أعطى وزير البيئة فارس بويز لناخبيه وصفاً غامضاً قابلاً للتأويل عندما قال ان الرئيس المقبل ينبغي ان يكون صديقاً لسورية، الأمر الذي يساعده على تجميل العلاقات وتعميق الثقة. حتى الرئيس امين الجميّل طالب برئيس يقيم اطيب العلاقات مع سورية شرط ان يتميز تعاطيه باحترام مصالح كل دولة وخصوصية كل نظام. أما النائب نايلة معوض فقد لخّصت موقف الأكثرية الصامتة بإطلاق شعار يحترم سيادة الدولتين عندما قالت:"ان لبنان لا يُحكم باستعداء سورية... كما انه لا يجوز ان يُحكم من سورية". وفي هذا السياق حاول الرئيس إميل لحود احياء نظرية التمديد تحت وطأة الحاجة الى حماية الأمن القومي المهدد بالمخاطر. وهي النظرية التي استخدمها الرئيس حافظ الاسد لتبرير تعديل الدستور لصالح تمديد ولاية الرئيس الياس الهراوي. أي النظرية التي ابتكرتها انظمة الحزب الواحد لفرض استمرارية حكمها ومصادرة الحريات العامة. ففي أكثر من مناسبة قال لحود لزوّاره انه مستاء"من الذين يحاولون الهاء الناس بنقاش عبثي حول الرئاسة كأنهم غافلون عما يتهدّد لبنان من مخاطر تطال وحدته ومصيره". ووصف السجال القائم حول موضوع الرئاسة بأنه"هرج ومرج وطبل سياسي يسبب بلبلة وشللاً في الحياة العامة من دون طائل، كما انه يترك هامشاً للتشويش الخارجي ستستغله اسرائيل لإرباك الساحة اللبنانية". وقرأ خصوم العهد في هذا الكلام منطق الرئيس الذي يعتبر معركة الرئاسة التي تمارس في كل الدول الديموقراطية، بأنها مظهر من مظاهر العبث، موحياً بذلك ان النتيجة محسومة سلفاً ويرى هؤلاء ان خلافه المستمر مع رئيس الوزراء هو السبب الأول والأخير في انتشار الشلل الإداري والإفلاس السياسي. أما بالنسبة الى اسرائيل فهي ليست بحاجة الى التشويش الداخلي لكي تبرر اعتداءاتها المتواصلة منذ سنة 1948. عندما اعلن النائب بطرس حرب ترشيحه للرئاسة، تمنى على إميل لحود اعلان عدم رغبته في التمديد، معتبراً ان المحاولات السابقة تسبّبت في ثورات وأحداث دامية. وهذا ما طالب به الوزير فارس بويز الذي أعرب عن اعتقاده بأن كلفة تعديل الدستور ستكون غالية جداً على البلاد وعلى سورية ايضاً. ويبدو ان نداءهما ذهب أدراج الرياح بدليل ان الرئيس لحود أعطى اشارات واضحة تؤكد إصراره على التجديد او التمديد. وحجّته انه سينفّذ ما وعد به في خطاب القسم، وانه في الولاية الثانية سيتخلص من معرقلي مسيرته وفي طليعتهم رفيق الحريري. ومثل هذا القرار يعود الى رغبة دمشق التي تملك أكثر من 110 اصوات في البرلمان. كما يعود بالتالي الى الخيار الاستراتيجي الذي ستعتمده لمنع احداث العراق من التسلل عبر حدودها، ومن التأثير على أمنها القومي. وضمن هذا التصور سيتم انتقاء الرئيس المقبل القادر على حماية خاصرتها الليّنة، والمؤهل بأن يقنع اللبنانيين بأنه افضل من يعيد اليهم نظامهم الديموقراطي المصادر منذ سنة 1976. * كاتب وصحافي لبناني.