يتندر اللبنانيون في هذه الأيام بحكاية طريفة يطغى وقعها على مجمل الأحاديث السياسية المتعلقة بموضوع رئاسة الجمهورية. تقول الحكاية ان شخصاً مجهول الهوية شوهد في مقهى عام من مقاهي بيروت الشعبية، وهو يدور حول الموائد يسأل الناس عن اسم الرئيس الجديد. واجمع الحاضرون على إنكار معرفتهم المسبقة باسم الفائز، واكدوا ان هناك مصدرين وحيدين يمكن اعتمادهما لحل هذه الاحجية: المنجم الهندي "عيروط" كاشف الأسرار وقارئ المستقبل... ثم الرئيس حافظ الأسد. وفوجئ الحاضرون بالسائل يكشف عن هويته، ويعترف بأنه هو المنجم الشهير "عيروط" وبأنه عاجز عن استحضار اسم الرئيس المرتقب. عندئذ أعلن رواد المقهى بصوت واحد: إذن، الجواب أولاً وأخيراً عند الرئيس السوري! والملاحظ ان رواة هذه النادرة يحرصون على ترديدها في حضور النواب كأنهم بذلك يذكرونهم بما حدث قبل ثلاث سنوات... وكيف اخطأ حتى حلفاء سورية في رصد اتجاهات رياح التمديد. ويدافع رئيس مجلس النواب نبيه بري عن موقفه بالقول انه تبلغ قرار التمديد، ولكنه تجاوب مع نصيحة عبدالحليم خدام الذي اقترح عليه اجراء مشاورات نيابية لعله ينجح في اقناع دمشق بضرورة مراجعة قرارها. ومع انه حصل في الاستشارات على دعم واسع لصالح العماد اميل لحود، إلا ان هذه الاعتبارات لم تستطع تغيير سياسة سورية بما يتلاءم مع رغبات حلفائها من أمثال: بري وكرامي وفرنجية وارسلان ودلول. ومع ازدياد صورة الغموض التي تلف معركة رئاسة الجمهورية، يحرص الهراوي على اشعار النواب بأن عهده ينتهي بعد سبعين يوماً تقريباً، وان الكرسي التي يجلس عليها ستكون قريباً من نصيب رئيس آخر. وهذه الولاية تعتبر قياسية 9 أعوام اذا ما قورنت بالمدد التي أمضاها الرؤساء العشرة الذين تعاقبوا على الحكم منذ عام 1943. ولا تماثلها في طول المدة سوى ولاية أول رئيس جمهورية في عهد الانتداب شارل دباس الذي جدد له مجلس النواب عام 1929 ثلاث سنوات اضافية، ولكن الشيء المرجح - كما هو متداول في الأوساط الديبلوماسية - هو الرأي القائل بأن الرئيس الأسد طرح فكرة التمديد للهراوي بهدف استدراج الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية للمشاركة في اختيار الرئيس، مثلما حدث عام 1988 اثناء مشاركة مورفي في انتقاء النائب مخايل الضاهر مرشح تسوية ولم تكن الغاية من هذه المشاركة الشكلية سوى تعزيز الشرعية الديموقراطية لرئيس تفضل سورية ألا تكون الدولة الوحيدة أثناء تمديد ولايته. ولما أحجمت الدول المعنية عن الدخول في لعبة التجاذبات المحلية، قررت دمشق تحمل مسؤولية التمديد بمفردها. ويرفض الرئيس الهراوي الأخذ بمنطق هذا التفسير، مؤكداً ان الرئيس السوري أبلغه قرار التمديد قبل ستة أشهر من موعد انتهاء ولايته. وعليه، فإن السنوات الثلاث الإضافية كانت ضرورية في نظر دمشق، لتجاوز مرحلة امتحان مشروع السلام في ظل رئيس لبناني نجح بامتياز في عمليات اختبار التعاون مع سورية. السؤال عن التمديد للمرة الثانية يجد مبرراته عند الذين يعتقدون بأن الظروف الاقليمية والدولية التي فرضت التمديد عام 1995، قد ازدادت سوءاً خلال السنوات الثلاث الماضية. اضافة الى هذه المعطيات، فإن أركان النظام في سورية لا يحبذون التغيير المعمول به في الدول الغربية لقناعتهم بأن الاستقرار هو وليد الاستمرار. هذا ما لخصه نائب الرئيس عبدالحليم خدام للوزراء الذين التقاهم في قصر "قريطم" عقب الاستقالة الأولى لرئيس الحكومة رفيق الحريري. وذكرهم بأن النظام في سورية استمر منذ عام 1970 واستقر على نحو ثابت، الأمر الذي يجعل من هذه السابقة تجربة ناجحة يجدر الاقتداء بها. وابلغ الوزراء في حينه ان الحريري باق حتى سنة الفين، وربما اكثر. ويتساءل المراقبون في بيروت ما اذا كانت هذه القاعدة تنسحب على رئيس الجمهورية أيضاً على اعتبار ان الرؤساء الثلاثة يمثلون مرتكزات النظام المتعاون مع سورية؟! يميل عدد من النواب الى الاعتقاد بأن حظوظ التمديد لا تزال قائمة بالرغم من المؤشرات التي يطلقها عبدالحليم خدام ورفيق الحريري وغيرهما. ومع ان الهراوي يصرّ على تذكير زوار القصر بأنه يعد الايام القليلة الباقية من ولايته، الا ان انصاره يراهنون على احتمال حدوث مستجدات على الساحة الاقليمية قد تخدم حظوظ التمديد. ويمثل الطوق العسكري - السياسي الذي تضربه اسرائيل وتركيا حول سورية التطور الاخطر الذي يخدم احتمالات التمديد. وربما تضطر دمشق الى مواجهة هذا التكتل الاستراتيجي بانشاء تحالف اقليمي يجمعها مع لبنان والعراق وايران. خصوصاً وان الشلل السياسي - الاقتصادي الذي تشهده القيادتان الاميركية والروسية يجعل الساحة مستباحة امام أي عمل عدواني تخطط لتنفيذه اسرائيل وتركيا. ولقد تلقف الرئيس الهراوي على الفور اشارات القلق السوري، معرباً عن مخاوفه من مشروع الطوق التركي - الاسرائيلي - الاميركي الذي يستهدف دور سورية والمقاومة اللبنانية. ويرى الديبلوماسيون الاجانب في بيروت ان التصعيد العسكري في جنوبلبنان سوف يأخذ مدى اوسع في الاسبوعين المقبلين اذا كانت اسرائيل تريد الايحاء بأنها قادرة على ارباك الساحة اللبنانية، وعلى خلق ظروف غير مواتية لسير العملية الانتخابية. ويرى هؤلاء ان ازدياد عمليات المقاومة في الجنوب ربما يخدم ظروف التمديد، علماً بأن سفراء لبنان في الخارج اوصوا بتجميد النشاط حالياً لأن اسرائيل عازمة على استغلال الهجمات لتوسيع غاراتها. ومن خلال هاتين الثغرتين يمكن للتمديد ان يطل برأسه مرة ثانية بحجة الظروف الاقليمية المربكة للأمن القومي. ويزيد مسوقو فكرة التمديد على هذين السببين سبباً ثالثاً خلاصته ان الانتخابات البلدية الغت الدوافع الموجبة لاستخدام الجيش على اعتبار ان الآلة الديموقراطية ابرزت صورة الحرية في لبنان. وبما ان استخدام الجيش لا يتم عادة الا في ظروف استثنائية للمحافظة على سلامة النظام ومنع الفوضى… فان التطور الايجابي الذي عبّرت عنه الانتخابات قلل من حظوظ العسكر. في مقابل هذه الفرضيات تبرز حجج المطالبين بضرورة انتخاب رئيس جديد لأن الصورة الديموقراطية في لبنان لا تكتمل بدون هذه الخطوة. خصوصاً وان الوضع الاقتصادي المتقيح يحتاج الى مرحلة جديدة توحي للمواطنين وللمستثمرين بأن هناك نقلة نوعية من شأنها ان تبدل في الأداء السياسي بحيث تتمكن المؤسسات الوطنية من اضفاء شرعية جديدة على المرحلة المقبلة. وهي مرحلة بالغة التعقيد لا يتأثر بها منصب رئيس الجمهورية بقدر ما يتأثر منصب رئيس الحكومة ايضاً. خصوصاً وان الحريري تحدث عن ضرورات التغيير الجذري بطريقة تمنع لبنان من السقوط في الهوة التي سقطت فيها روسيا. ويدعي بعض المصرفيين المعارضين لسياسة زيادة الدين العام ان الحريري قد يحتجب عن المهمة لفترة قصيرة، مفسحاً المجال "لكيرينكو" لبناني يقوم بتخفيض قيمة الليرة. ثم يظهر في فترة لاحقة كمنقذ، الامر الذي يعزز مركزه في عملية الاصلاح الاقتصادي الموعود. والطريف ان نسبة 70 في المئة من اصحاب الرواتب في لبنان ترتبط اجورهم بالدولار الاميركي. ومثل هذه المقارنة تنسحب على روسيا التي يعتمد الدولار فيها العملة الاولى لتحديد قيمة السلع والمبادلات التجارية. ويتخوف الاقتصاديون من تمديد ولاية الرئيس سنة واحدة بحجة مواجهة الفترة الحرجة التي تنتهي فيها ولاية نتانياهو وتخرج اميركا من ورطة الرئاسة. وهذا يعني تمديد الازمة الاقتصادية اللبنانية على نحو يصعب على الحكم احتمال مضاعفاتها الخطرة. لهذه الاسباب وسواها تميل الدول المعنية بشؤون لبنان مثل فرنسا، الى اهمية تعاقب السلطة بطريقة ديموقراطية لا توحي وكأنه ليس لسورية في لبنان اي مرشح غير الهراوي يستطيع ان يتعاون معها بالقدر الذي تريد. والملفت ان التمديد السابق ظهر وكأنه حاجة سورية وليس حاجة لبنانية، الامر الذي يشوه دور الدولة الراعية المكلفة بعملية الاشراف على سير الحياة الديموقراطية بطريقة سليمة وشرعية. والمعروف تاريخياً ان اللبنانيين بطبيعتهم يرفضون مبدأ التمديد الذي قاوموه مرتين: مرة في عهد بشارة الخوري 1952 والمرة الثانية في عهد كميل شمعون 1958. ومع التسليم باختلاف الظروف تجاه السابقتين، الا ان المشترع حدد مدة ولاية رئيس الجمهورية بست سنوات لكي يستطيع انجاز الاصلاحات المطلوبة خلال اطول فترة لأي رئيس آخر في العالم. وكل نقض لهذا الاتجاه يحوّل لبنان الى نظام حكم سلالي لا يميزه اي شيء عن حكم السلالات والانظمة الواحدة في العالم الثالث. يبقى السؤال الآخر: من هو المرشح الاكثر حظاً اذا اتجهت الامور الى الغاء فكرة التمديد؟ اثناء عرضه لمرحلة التغيير، طالب رئيس الحكومة جميع المرشحين لمنصب الرئاسة بأن يعلنوا برامجهم ومشاريعهم، علماً بأن الدستور يعطي مجلس الوزراء وحده حق وضع السياسة العامة للدولة. ولقد تجاوب بعض المرشحين لهذا الطلب، مثل النائب بطرس حرب، فقدموا برامجهم للرأي العام. ويبدو ان الحريري كان يهدف من وراء هذه الدعوة الى اظهار المسافة السياسية التي تقرب كل مرشح من دمشق. وكان من الطبيعي ان تتبارى الاغلبية في اظهار حماسها لترسيخ تعاون الشقيقتين، الامر الذي تعتبره سورية تجييراً لاستخدام ارادتها في الشأن اللبناني، بما في ذلك مستقبل الرئاسة. ويرى المراسلون الاجانب في بيروت ان هناك ضوءاً اخضر اضيء لصالح العماد اميل لحود في عيد الجيش يوم امتلأت جدران الشوارع بملصقات تقول: "حامي الديموقراطية". وفسرت هذه العبارة بأنها موجهة الى الدول الغربية المتحفظة على انتقال لبنان من حكم مدني الى حكم عسكري، على اعتبار ان سقوط الشيوعية الغى المبررات التي تذرعت بها الولاياتالمتحدة في الخمسينات والستينات لتأمين وصول العسكر في اكثر من ستين دولة في العالم الثالث. ومع تحفظ الاوروبيين يفضل العميد ريمون اده التمديد للهراوي، يسانده في ذلك وليد جنبلاط الذي يطالب بتخفيض عدد الجنود الى ثلاثين الفاً لانهم يرهقون الخزينة من دون ان يقوموا بالمهمة الموكلة اليهم، ويتركون للمقاومة مسؤولية التحرير. وترد القيادة عليه بأن القرار العسكري خاضع للقرار السياسي في لبنان، وانها على استعداد لممارسة هذه المهمة شرط تكليفها من السلطة السياسية. من هنا يرى المراقبون بأن سورية قد تكون بدلت موقفها السابق القائل بأن قائد الجيش هو الافضل في موقعه. ومعنى هذا ان الانتقال الى قصر بعبدا سيعطي العماد لحود مسؤولية القرار السياسي ايضاً. اللهم الا اذا جرى تعيين قائد جديد ليس على شاكلة عادل شهاب في عهد نسيبه فؤاد شهاب. عندئذ يصبح الرئيس منفصلاً عن قاعدته، وعن جيشه، وعن مصدر قوته! وفي ضوء هذا الاحتمال يبقى خيار سورية مفتوحاً لمفاجأة جديدة لا يتصورها احد… * كاتب وصحافي لبناني