يترك لورن تيسان مخرج "المتاهة: حرب جنرالين" المشاهد التي يصنع منها فيلماً عن "ما لم يقل عن الحرب اللبنانية" من دون إخراج على غرار المزارع الذي يترك أرضه تبور. ويعجز تيسان عن إخراج أفعال الحياة اليومية ركوب رجل سيارة أجرة، وترجله منها، وسؤال السائق عن المبلغ المتوجب عليه، إغلاق الباب، والدخول إلى مبنى من تفككها، وعن إظهار تماسك يحيك خيوط شخصية الممثل من جهة، وينذر بحبكة الفيلم، ويربط بين الصور المتلاحقة من جهة أخرى. ويبدأ الفيلم الذي يزعم "تقديم حوادث حقيقية عن الحرب اللبنانية" من قاعة ندوات في العاصمة البريطانية. ويتعرف المشاهد الى بطل الفيلم شارل لوشينغتن شارل دانس الصحافي "الكبير" الملم بقضايا الشرق الأوسط، والمصاب بعدوى نظرية المؤامرة المزدهرة في البلدان العربية. ويزور لوشينغتن بيروت تلبية لطلب صديقه شلومو أرغوف، السفير الإسرائيلي في لندن. ويحمّل أرغوف، الذي يستفظع احتمال مشاركة ابنه في حرب عبثية، الصحافي البريطاني مهمة تحذير اللبنانيين من نية آرييل شارون اجتياح بيروت. وبينما يقطع الصحافي الكبير خطوط التماس بين جزءي بيروت الغربي والشرقي ملبياً دعوة الى عشاء في منزل عريق في الاشرفية حيث يتعرف الى ليلى نبيلة خاشقجي التي سيتخذها عشيقة له، يحاول آرييل شارون إقناع المبعوث الأميركي في تل أبيب بضرورة إزالة "الإرهاب" الفلسطيني من لبنان. وإذا كان من الصعب التحقق من موقف شلومو أرغوف من الاجتياح الوشيك لبيروت، فإن استقالة السفير الأميركي في دمشق احتجاجاً على هذا الاجتياح الذي أفقده "الثقة بإدارة بلاده" هي فاتحة ضروب خيال المخرج العتيد، وبداية ابتعاده عن "الحوادث التاريخية الحقيقية". فالمقاتلون الفلسطينيون طلبوا بإلحاح من "أبو إياد" حمل السلاح، ومحاربة الإسرائيليين الذين وصلت جحافلهم إلى منطقة جزين في جنوبلبنان. ورفض أبو إياد الطلب هذا. فوصلت قوات الاحتلال إلى منطقة الدامور الساحلية من دون وقوع أي اشتباك بينها وبين مقاومين لبنانيين أو سوريين أو فلسطينيين. وفي الدامور، يمتعض ضابط إسرائيلي من سوء معاملة رجاله لسكان القرية المعتقلين، فيذكر زميله بالغيتو البولندي والنازيين. وتتابع "الحقائق" الخيالية من الدامور، ومروراً بجونيه، ووصولاً إلى بحمدون. ففي جونيه، يلتقي شارون بشير الجميل وبيار الجميل وسمير جعجع وإيلي حبيقة. ويشعر المرء بالحيرة أمام تشديد الشيخ بيار الجميل على انتمائه العربي، وحرصه على العلاقات اللبنانية بتسع عشرة دولة عربية ولماذا 19 دولة عوضاً عن 21 ؟، فهل هو مؤسس "رابطة اللجان الشعبية" أم مؤسس حزب الكتائب؟ ولا يقدم المخرج حوادث الاجتياح كسلسة من جولات قتال أفضت إلى اجتياح بيروت، بل يختار وفقاً لهواه حادثة مشكوكاً في صحتها ويجعلها علماً على مجرى حرب الاجتياح. فالقوات الإسرائيلية المعتدية تتوه في الصحراء اللبنانية، وتصل بالصادفة إلى بحمدون حيث تسقط في كمين أعدته القوات السورية، وتدمر تدميراً كاملاً. فيندهش المرء أشد اندهاش حينما يجد الإسرائيليين في شوارع بيروت الغربية بعدما هزموا هزيمة كاملة في المشهد السابق. وفي بيروت المحاصرة والمحتلة تتواتر مجموعة من الكليشيهات فنرى متشرداً أشعث الشعر يتحول إلى ضابط اسرائيلي، وفيليب حبيب الغني عن التعريف بالنسبة الى المخرج يندد بكذب القادة الإسرائيليين الذين يزعمون احترامهم وقف إطلاق النار، وياسر عرفات تحت مرمى قناص إسرائيلي في لحظة إجلائه عن بيروت، وفلسطينيي مخيم صبرا وشاتيلا العزل من السلاح يصفقون على وقع طحن القهوة ويعرضون مفتاح بيتهم المتروك في حيفا أمام الزوار الأجانب، وايلي حبيقة، الوزير السابق الذي نال بعد اغتياله ببيروت عام 2002 وسام شرف من حكومة لبنانية، مسؤولاً عن المجزرة التي ارتكبت بحق طاحني القهوة. ويواجه شارل لوشينغتن مشكلة مع ليلى التي أقام معها علاقة عاطفية وزار برفقتها بعلبك. فليلى تعيب على عشيقها انتماءه الغربي غير العروبي الذي يجعله عاجزاً عن فهم "نا". ويبدو غريباً بعض الشيء أن يكون القتل جواز عبور هذا الصحافي إلى "نحن" العربية. فليلى تستقبله بابتسامة وتضمه إليها قائلة: "الآن تفهم... لقد أصبحت واحداً منا" حينما يزفها خبر قضائه على القناص الذي يستهدف أبناء الحي. ومن عام 1982، يقفز المخرج إلى عام 1989 مهملاً كل فصول القتال والحوادث التي عمت المدن اللبنانية والقرى طيلة سبع سنوات. وبينما تشكل اللغة الانكليزية لغة غالبية المشاركين في الفيلم المسلحون المنتشرون على الحواجز، البائعون، والاطفال، والجنود الإسرائيليون تسود اللغة الفرنسية في القسم المخصص للحرب التي خاضها العماد ميشال عون على ميليشيا "القوات اللبنانية"، وينفرد الجنود السوريون بالتحدث بالعربية. فالفرنسية هي لغة الزعماء المسيحيين في الفيلم بدءاً بأمين الجميل، ومروراً بداني شمعون وإيلي حبيقة ووصولاً إلى سمير جعجع. ويعرض الرئيس أمين جميل وزارة الدفاع على العماد ميشال عون في حكومة مدنية. فيرفض هذا الأخير ويصر على محاربة ميليشيا "القوات اللبنانية" لإجبارها على إغلاق مرافئ غير شرعية. ويتحول الجيش اللبناني وقائده بعدسة المخرج الى ميليشيا مسيحية ترتكب مجزرة بحق أتباع "القوات اللبنانية" المسيحيين والعزل من السلاح. ويهمل المخرج ذكر تاريخ انتهاء حرب الجيش على القوات التي بدأت في شباط فبراير 1989 مكتفياً بالاشارة الى تدخل الجيش السوري لانهاء حركة العماد عون عام 1991. فيخال المرء أن حرب الجيش على ميليشيا "القوات اللبنانية" دامت سنتين لم يتخللهما ما سمي ب"حرب التحرير".