سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
من جبال حلبجة الى مدن العراق ... انتحاريون على خطى الزرقاوي . تحفظات الشيعة تحاصر الواقع الكردي الفيديرالي والمحيط الثقيل حال دون فتح القنصلية الأميركية في الاقليم 3 من 3
صوت أم كلثوم المنبعث قوياً من الراديو في المتنزه الكردي في مدينة اربيل في شمال العراق لا يُطرب الرجال المتزاحمين حول الطاولات. الكثير من هؤلاء الأكراد لا يجيدون العربية، ومن يجيدها منهم لا يعني انها بلغت منه مبلغ الإطراب. وعلى رغم ذلك فإن ام كلثوم تصدح في الكثير من مقاهي اربيل. ربما كان اصرار اصحاب المقاهي على اسماع زبائنهم ام كلثوم ناجماً عن استقدامهم ترف ارتياد المقاهي من بغداد، او ان الموسيقى الكردية هي موسيقى جبلية لا تناسب حال الارتخاء التي يتطلبها الجلوس في مقهى. لكن صوت ام كلثوم لا يشكل في الوسط الكردي اليوم حالة من الانسجام مع المحيط اللغوي العربي. انه صوت فقط، لا يُطرب ولا يغني عن الموسيقى الكردية، وربماء جاء في غير سياقه. فما تعيشه هذه الأيام المناطق الكردية في العراق، وما يشغل الأوساط السياسية والثقافية والاعلامية، هو "ريبة الأكراد بالنيات العربية حيال حقوقهم". الرسالة التي بعث بها السيد علي السيستاني الى الأممالمتحدة والتي يتحفظ فيها عن الفيديرالية الكردية، وعدم الموافقة على تولي كردي احد المنصبين الأولين في الدولة العراقية رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة، اجعلت احاديث كثيرة تتردد في كردستان يستحضر فيها تاريخ كامل من "المرارات الكردية" في العلاقة مع المحيط العربي وغير العربي، لكن الأهم من هذا كله ان ذلك يحصل اليوم مترافقاً مع شعور الأكراد ان الفرصة مواتية الآن لوضع حدٍ لهذه المرارات. فالنبرة مختلفة هذه المرة، وهي لا تصدر عن قوى سياسية او رسمية وانما اماكن لم يسبق ان اسمعت صوتها بهذا القدر من الوضوح. وما يردده المسؤولون الأكراد عن ان مسألة الفيديرالية هي الحد الأدنى الذي يطالب به الشارع الكردي في العراق ليس تهويلاً، فزائر المدن الكردية يمكنه بسهولة ان يرصد اتجاهات اكثر تشدداً من هذا. القصة تبدأ من سائق التاكسي الذي يتحدث عن الفيديرالية بصفتها استقلالاً كاملاً ولا تنتهي عند مثقفين قوميين اكراد باشروا بحثهم عن هوية كردية مستقلة بالكامل عن الثقافة الاسلامية التي تجمع دول المنطقة، فبحسب هؤلاء دائماً ما كان الأكراد ضحية انتمائهم الى دولة اسلامية اوسع، حتى في ايام القائد الكردي صلاح الدين الأيوبي الذي عمل لدولة اسلامية، عربية الثقافة والهوية. ويبدو ان الوضع الأمني والعسكري في العراق اليوم يعزز من وضوح الفيديرالية الكردية ويجعل من حدودها واقعاً لا تمليه الطموحات والأحلام، وانما ايضاً الوقائع. فالطرقات التي تربط المدن العراقية بالمناطق الكردية اشبه اليوم بمعابر حدودية لا تقتصر اجراءات عبورها على التفتيش الدقيق، وانما ايضاً تشمل هويات العابرين وغايات زياراتهم للمناطق، فتختلط هنا الدواعي الأمنية بمشاعر الضيق لدى العابرين وتتولد اسئلة كثيرة حول الغاية من تكثيف اجراءات العبور، وما اذا كانت امنية ام سياسية. فالبيشمركة الكردية على الحواجز التي تفصل مدينتي الموصل وكركوك عن السليمانية واربيل، اشبه برجال الحدود، وسكان المدن العربية المجاورة لا تعوزهم الكثير من الأجراءات حتى يعززوا ظنونهم. وفي المقابل يعدد الأكراد عشرات الوقائع والحوادث التي يدرجونها في سياق ارتفاع نبرة العداء للحقوق الكردية، اذ يؤكدون ان اكثر من 25 كردياً قتلوا في حوادث منفصلة في مدينة الموصل، وفي مدينة كركوك يتعرضون يومياً لعمليات قتل واغتيال، اما الحادثة الأبرز فهي ما جرى قبل نحو شهر في مدينة سامراء لجهة قتل خمسة جنود اكراد من الجيش العراقي واحراق جثثهم. وقائع كثيرة يرويها الأكراد تعزز حقيقة سوء التفاهم القائم مع مواطنيهم العرب والتركمان اخرها الخبر الذي تناقلته اوساط كردية عن وصول طائرة تركية الى مطار كركوك نقلت الى المدينة نحو 50 عنصراً من الاستخابرات التركية بالاتفاق مع القوات الأميركية، وما زالت مهمة هذه القوة مجهولة مع ملاحظة ارتفاع عدد عمليات الاغتيال التي تستهدف الأكراد في المدينة منذ وصول هذه القوة، في مقابل روايات عربية مشابهة تتحدث عن تنسيق كردي - اسرائيلي في شمال العراق، وعن تولي شركات النفط الاسرائيلية ادارة مصفاة النفط في كركوك. لكن الثابت للمتجول في المدن الكردية ان اهل هذه المناطق يعدون انفسهم لادارة مناطقهم، وان مسألة العودة الكاملة الى العراق من دون حكم ذاتي لمناطقهم لم تعد جزءاً من حساباتهم. الاستقرار النسبي الذي تعيشه المدن الكردية يفسح لملاحظة درجة اكبر من الانتعاش في هذه المدن، فشوارع السليمانية واربيل واسواقهما وفنادقهما تعيش على وقع مختلف. ازدهار لا تمكن مقارنته بحال المدن العراقية الأخرى. منشآت سياحية جديدة، ومهاجرون اكراد عادوا من مغترباتهم الأوروبية، وسياح وشركات غربية. اما الليل في هذه المدن فهو ليس امتداداً لتلك العتمة الحالكة في مدن العراق الأخرى. منطقة سارتشنار في السليمانية تعتبر الخاصرة السياحية للمدينة. موسيقى كردية منبعثة من المتنزهات، وحلقات رقص فولكلوري يشترك فيها رجال ونساء، وازدحام شديد. غبطة داخلية وشعور عميق بأن ما فات لن يعود، وان التعثرات السياسية لمشروع فيديراليتهم مسألة عابرة. لا بل ان شعور هؤلاء السكان انهم بصدد دولة في المستقبل غير البعيد يمكن تلمسه بسهولة. الأضواء الملونة تطغى على ليل السليمانية، وعلى مناطق السهر فيها. اضواء صفر وخضر وحمر، ونساء لا يجدن السهر يرقصن الى جانب الرجال، وثياب براقة تزين اجساداً اكتشفت لتوها ضوضاء الليل والمدن. شرطيات السير الواقفات على المستديرة امام فندق "السليمانية بالاس"، ثمة رجال شرطة يتولون حراستهن في زاوية اخرى من الساحة، اذ يبدو ان تولي هؤلاء الشرطيات تنظيم السير ليس الا جزءاً من لغة ترغب المدينة في ان تخاطب فيها زوارها. ففي مقاهي الفنادق ثمة شابات جالسات وقد بدأن يتحسسن طريقهن الى عالم الموضة والأزياء الحديثة، كذلك الأمر في حديقة السليمانية العامة حيث يمكن مصادفة شاب يجلس في مواجهة شابة. تشعر ان انفراجاً مفاجئاً ثمة من دأب على احداثه وهو اليوم في طور الاختبار. شيء ما تريد المدينة ابلاغه للقادمين الغرباء اليها، فالأكراد مدركون على ما يبدو ان مخاطبة العالم تقتضي لغة من هذا النوع. المتجول في اسواق السليمانية وبين المحال التي تبيع تلك السلع الرخيصة كآلات التصوير والسكاكر التركية والساعات والهواتف الجوالة والأدوات الكهربائية، يشعر ان الأكراد مسرعون في الاقبال على شراء هذه الأنواع من السلع. لقد جاؤوا مباشرة من الجبال الى استديوات التصوير بهدف التقاط صور لأنفسهم. هذه الأستديوات هي الأكثر انتشاراً في السوق من اي نوع آخر من المتاجر، واهل الجبال هؤلاء لا يكفون عن التوافد الى هذه الاستديوات. الأكراد يريدون عرض اختلافهم عن محيطهم على زوار مناطقهم. فمحيطهم المغرق في اضطهاد النساء مثلاً لن يقبل بشرطيات تنظم السير في مدنه، وابناء الجبال النازلين الى سوق السليمانية يتجولون من دون تردد بين نساء السوق ويعرضون صور بناتهم في الأستديوات. استنتاجات سريعة ربما ولكن المتجول في اسواق السليمانية سيرصد علاقة مختلفة تربط هؤلاء الناس بالعالم الخارجي. صلة غير مضطربة بصور الحياة الحديثة. صلة جديدة تستبطن اخفاقات الجدة، ولكنها لا تستبطن عنفاً حيالها. ويبدو ان ازدهار الوضع الكردي لا يقتصر على مناطق ومدن الشمال العراقي، اذ يتحدث المسؤولون العراقيون عن دور اقتصادي كردي في بغداد، فثمة قطاعات اقتصادية كاملة يسيطر عليها الأكراد في العاصمة العراقية، خصوصاً قطاعي الفندقة والصناعات التحويلية. ويؤكد مسؤول عراقي ان الطموحات الكردية في الحكومة المركزية لا تقتصر على مسألة الأمن ونجاح الفيديرالية وانما ايضاً يتغذى هذا النجاح من قنوات اقتصادية صارت واضحة لكل القوى العراقية. كلام كثير يتردد في الأوساط الكردية، مرتبط بما يجري في العراق اليوم. لكنه كلام مفعم بالخيبة ولا يمت بصلة الى ذلك الانتعاش في نواحي الحياة المختلفة التي تسير في الاقليم. ومركز الخيبة الكردية هذه الأيام هم الشيعة في العراق، اذ يردد جميع من تلتقيهم ان انقلاب الموقف الشيعي من الفيديرالية الكردية يؤشر الى مكابدة جديدة تنتظر الأكراد في علاقتهم بالدولة العراقية الجديدة. الجميع مستغرق بمحاولة تفسير "انقلاب القوى الدينية الشيعية على ما سبق ان التزمت في مؤتمري لندن وصلاح الدين". البعض يقول ان ايران وسورية هما من يقفان وراء هذه المواقف الشيعية، وآخرون يعيدون هذه المواقف الى ضعف الثقافة الديموقراطية في الوسط السياسي الشيعي، وفي الحالين شكل الأمر بالنسبة الى الأكراد انتكاسة جديدة في العلاقة مع المحيط. انه المحيط الثقيل كما يردد الأكراد. تركياوايران وسورية، لجميع هذه الدول قدرة على النفاذ الى الوضع العراقي، واذا كانت مواقف الحزبين الكرديين الرئيسين واضحة حيال العلاقة مع هذا المحيط، فإن هذا الوضوح يتلاشى في نظرة الشارع الكردي. احداث مدينة القامشلي السورية، مثلاً، لم تتحول قضية تشغل الأحزاب، لكن الشارع الكردي استدخلها كواحدة من المكابدات الكثيرة مع المحيط، وبصفتها مؤشراً على "رفض عربي فطري لحقوق الأكراد". واعاد صحافيون اكراد القرار الأميركي بعدم فتح قنصلية اميركية في اي من مدن الاقليم واختيارهم كركوك التي لم تحسم مسألة كرديتها بعد مركزاً لهذه القنصلية الى ضغوط تركية على الأميركيين، وتبدو الاستجابة الأميركية لهذا الطلب التركي بالنسبة الى الأكراد حلقة من سلسلة استجابات يتخوف الأكراد من ان تفضي الى استجابة اخيرة تطيح بالمطالب الكردية. وهنا ايضاً نوع ثانٍ من المكابدة مع المحيط. اما التعويض الذي قبل به الأكراد في مقابل سحبهم التهديد بالانسحاب من الدولة العراقية المزمعة بعد قرار مجلس الأمن الجديد، فهو على ما يبدو ضمانات اميركية وبريطانية تتعلق بجدية النيات حيال الحقوق الكردية، وجاءت زيارة مساعد وزير الدفاع الأميركي بول وولفوفيتز الى كل من مسعود البارزاني وجلال الطالباني واستقبالهما له في ظل العلم الكردي بمثابة اشارة خففت من المخاوف الكردية واعادت بعض الثقة للقادة الأكراد بأن قوات التحالف ملتزمة وعودها حيالهم. جوان مدرس كردي من مدينة دهوك العراقية الواقعة على مثلث الحدود السورية - التركية - العراقية. لكن جوان موجود هذه الأيام في السليمانية. فهو قصدها كناشط في نقابة المدرسين في كردستان بهدف استكمال الأنشطة المتعلقة بحملة التواقيع التي انجزتها مجموعة احزاب ومنظمات اهلية ونقابية لمطالبة الأممالمتحدة باجراء استفتاء في كردستان حول مسألة الاستقلال الكردي. ويقول جوان: "جمعنا مليوناً وثمانمئة الف توقيع وارسلنا البطاقات الى الأمانة العامة للأمم المتحدة". ويبدو ان التصعيد في اتجاه الاستقلال الكامل هو جزء من الرد الكردي على عدم الترحيب العربي بالفيديرالية، ويشير جوان الى تذمر قوى "المجتمع المدني" الكردي من تركيز الحزبين الرئيسين، الاتحاد الوطني والحزب الديموقراطي، على قضية الدولة المركزية على حساب قضية الفيديرالية. ويضيف: "بعد رسالة السيستاني الى الأممالمتحدة، اكتشفنا ان القوى الشيعية والسنية ترفض الاعتراف بحقوقنا، فجئنا الى السليمانية لنقول امام جلال الطالباني: انتم تراهنون على قوى لا تلتزم وعودها وبالتالي فإن مصيرنا في خطر". ويسهب جوان في الحديث عن "القلق الكردي من الجيران الكثر، مستثنياً ايران التي تسمي اقليمها الكردي كردستان ولا تمنع الأكراد من استعمال لغتهم وانتخاب ممثليهم الى البرلمان الايراني، في حين نقل عشرات من الذين هربوا من سورية الى كردستان العراق ابان احداث القامشلي الأخيرة صوراً تؤكد الضيق العربي بالحقوق الكردية". لكن في ظل ارتفاع لهجة الخطاب القومي في الوسط الكردي، لا تقتصر ردود الفعل على الدعوة الى الاستقلال الكامل، بل تتعداها في الأوساط القومية الأكثر تشدداً الى الانفصال عن المنطقة بصفتها حاضنة لثقافة لطالما كان الأكراد ضحيتها. يقف وراء هذا الكلام مثقفون اكراد يرون ان لجوهر الهوية الكردية عمقاً غير اسلامي يجب اعادة بعثه في الحياة الاجتماعية والسياسية، اذ يعتبر هؤلاء ان الاسلام بصفته هوية جامعة لسكان المنطقة، كان دائماً ذريعة تعيق قيام كيان كردي مستقل. اصحاب هذه الوجهة نخبة قومية ما زالت تتحسس طريقها، ولكن يبدو ان ظروف الانقسام العراقي حول الحقوق الكردية قد تعزز من حظوظ صعودها، وهي على قدر ما تثيره من مخاوف في اوساط المعتدلين الأكراد تشكل مركز جاذبية للكثير من المصابين بالحمى القومية الصاعدة. عناصر الانقسام العربي - الكردي في العراق كثيرة هذه الأيام، وهي لا تقتصر على الطموحات الكردية المتعلقة بالفيديرالية ولا على الظروف الأمنية والسياسية التي يعيشها العراق. ثمة ما هو اثقل من ذلك، فالسنوات التي استقل فيها الأكراد في حكمهم الذاتي عام 1991 خلقت اوضاعاً متفاوتة لا يمكن تجاوزها، حتى بات الكردي الذي عاش في كركوك في ظل النظام السابق مختلفاً عن الكردي الذي عاش في ظل الحكم الذاتي. اجيال كاملة من اكراد مناطق الحكم الذاتي لا تجيد العربية، وانخرطت في اساليب عيش مختلفة، ولم يعد الالتحاق بالعراق من جديد مسألة بديهية بالنسبة اليها. لم يمثل سقوط النظام بالنسبة الى هؤلاء زوالاً لكابوس فحسب وانما اصطدام بواقع جديد ايضاً. لم يؤد هذا السقوط الى اتساع الحدود وزوال الحواجز، فهذه في آخر الأمر تضاعفت، ثم ان الذهاب الى الموصل بالنسبة الى رجل من اربيل ما زال امراً محفوفاً بالمخاطر، كما ان مهجري كركوك الذين اقتلعهم النظام السابق من احيائهم ضمن حملة تعريب المدينة ما زالوا في مخيمهم في بنصلاوة في جنوب اربيل. لا تثير هذه الوقائع الكثير من الزوابع في الفنجان الكردي، اذ تشعر ان الحفاظ على الوضع الذي كان سائداً قبل سقوط النظام امر لا يضير الأكراد، باستثناء بعض التقدم الذي قامت به عناصر البيشمركة في اتجاه الموصل وكركوك وهو ما املته الظروف الأمنية. يقول لطفي من سكان مدينة اربيل انه لم يذهب الى الموصل منذ سقوط النظام العراقي على رغم ان زوجته من المدينة، اما السائق العراقي الموصلي فبدوره لم يدخل اربيل منذ انتهاء الحرب وقبلها، وهو عندما دخلها قبل ايام كان يعتقد ان الوصول الى اربيل يتطلب اختاماً على وثيقة سفره، تماماً كما يتطلب الدخول الى اي دولة مجاورة، ويبدو ان الحواجز الكردية لم تبدد اعتقاده بالمعنى الكامل، فدخول سائق عربي الى مناطق الأكراد سيظل محفوفاً بالظنون ما دامت السيارات المفخخة متأهبة لمغافلة الحواجز الكثيرة. ويقول مسؤول امني كردي انه على رغم كثافة هذه الحواجز فإن محاولات الانتحاريين الدخول الى المدن الكردية ما زالت تتكرر، مشيراً الى محاولة اخيرة قتل صاحبها وهو يمني كان قادماً من الموصل الى اربيل. اربيل تختلف عن السليمانية لجهة انحسار اوجه الاختلاط فيها. انها المدينة التقليدية في كردستان. من الصعب على نسائها ان يقصدن المقاهي، واسواقها الداخلية اقل عرضاً للسلع الحديثة. انها اسواق القماش والعسل والمنتجات اليدوية والحرفية. الرجال اكثر اقبالاً على الزي التقليدي الكردي والنساء ملتزمات بالعباءة العراقية التي لا ترتديها النساء الكرديات في المدن الأخرى. وما ان تصل الى المقهى حتى خلفك القدح الوحيد وهو الشاي. وتغادر المقهى مخلفاً قدحاً مليئاً بالشاي الى مقهى آخر لا يقدم الا الشاي. الطاولات الرطبة من جراء تناوب الأقداح عليها هي نفسها في كل المقاهي، وكذلك وجوه الأكراد التي امتص الجفاف ماءها فقربها من سحنة الجبال. معظم حكايات الأكراد اليوم تفضي الى سوء التفاهم القائم مع حلفاء الأمس، وربما المستقبل وليس حلفاء اليوم. للحزبين الرئيسين اساليبهما في التعاطي مع هذا الأمر. في مراكز الأحزاب ومكاتب الصحف والأندية النقابية والثقافية ورشات عمل وكلام كثير. اصدقاء القضية الكردية من العرب جاؤوا ليبحثوا مع الأكراد سبل رأب الصدع. وصل الى اربيل السياسي العراقي حسن العلوي، وهو بعثي سابق وصديق قديم للقضية الكردية. وفي لقاء مع مثقفين اكراد شرح جذور التحفظ العربي حيال الاستقلال الكردي، على رغم عدم ايمانه بأن الأكراد يستعدون للانفصال، فرأى ان جاذبية المسألة العربية في العراق تأسست مع تأسيس الدولة العراقية في عهد الملك فيصل، والمشكلة كانت دائماً في قومية السلطة في العراق. وفي المقابل ينشط الكثير من المثقفين الأكراد الذين تربطهم بالعرب روابط مختلفة في اتجاه دعوة مثقفين عرب الى المجيء الى شمال العراق والاستماع الى المخاوف الكردية. لكن المأزق الكردي في العراق يتعدى العلاقة بالقوى العربية، اذ ثمة جانب داخلي يتعلق بالعلاقات الكردية - الكردية. فقد مر اكثر من سنة على سقوط النظام في العراق وما زالت المناطق الكردية خاضعة لسلطة حكومتين، واحدة يتزعمها مسعود البارزاني واخرى جلال الطالباني، ولا يبدو ان الخلافات تبددت على رغم ما يوحي به الانسجام الكردي في ما يتعلق بمسألة الفيدرالية والحقوق الكردية. وبحسب الكثير من المطلعين على ملف العلاقات الداخلية الكردية فإن التنسيق بين الاتحاد الوطني والحزب الديموقراطي لا يشكل انعكاساً لطبيعة العلاقات الفعلية التي تربطهما. لكن مواجهة الاستحقاق العراقي في ظل عدم الاعتراف بالحقوق الكردية تتطلب علاقة من نوع آخر شرع الأكراد اكثر من مرة في صياغتها من دون ان ينجحوا على ما يبدو. وتقول مصادر كردية ان الاتفاق على تفاصيل عملية الدمج تمت بكل تفاصيلها وهي تنص على توحيد الحكومتين برئاسة نيتشرفان بارزاني ابن شقيق مسعود، على ان يتولى كمال فؤاد مساعد جلال طالباني رئاسة البرلمان. لكن الخلاف تجدد على ما يبدو على مسألة ان تستلم الحكومة الفيديرالية حصة الاقليم من الموازنة العراقية. فبعد الحرب قرر الأميركيون توزيع الأموال على الحكومتين بالتساوي تقريباً، وهو امر طرح مسألة الجهة المخولة توزيع الأموال على المنطقتين، مع ما يترافق مع ذلك من حسابات تتعلق باتساع المناطق التي يسيطر عليها الحزب الديموقراطي وبالتالي تطلبها لانفاق يزيد على الانفاق الذي تحتاجه مناطق الاتحاد، فوقع الخلاف مجدداً وأجلت مسألة توحيد الحكومتين.