جورج بوش والارهاب هما أفضل دعاية للأنظمة العربية. كنتُ أطالب بالديموقراطية في كل بلد عربي، ثم وجدت ان المعروض منها هو من صنع الرئيس الأميركي، كما في النموذج العراقي، وقنعت من غنيمة الديموقراطية بالاياب. وكنتُ أطالب بالتغيير في كل بلد عربي، ووجدت ان البديل الوحيد من الأنظمة الموجودة هو ارهاب مجنون، أي ان لا بديل عملياً، وقنعت بالنحس الذي أعرف. لا أقارن بين جورج بوش والارهاب، خصوصاً ان الأول يخوض حرباً على الثاني، ولكن ثمة وجه شبه أكيداً، هو القفز من هدف الى هدف بحسب الحاجة. والرئيس الأميركي بدأ بوعد تحرير العراق وإزالة أسلحة الدمار الشامل، وعندما لم توجد أصبح الهدف في العراق جعله نموذجاً للديموقراطية في العالم العربي، وعندما عجزت سلطات الاحتلال عن كبح المقاومة المشتدة ونشر الديموقراطية أسرعت بتسليم حكومة انتقالية السلطة، وأخذت تتحدث عن الديموقراطية في العالمين العربي والإسلامي، وهو موضوع طرح للمرّة الأولى في تشرين الثاني نوفمبر الماضي، أمام المؤسسة الوطنية الأميركية للديموقراطية، بعد ان كان الهدف في السابق تخليص العالم من أسلحة الدمار الشامل في العراق، والقضاء على العلاقة مع القاعدة، وغير ذلك من كذب صريح، أما الارهابيون فيمثلهم أسامة بن لادن الذي بدأ مطالباً بخروج القوات الأجنبية من الأراضي المقدسة للمسلمين، وعندما خرجت أصبح يطالب بتحرير فلسطين، ثم بإقامة دولة الإسلام. وهو في الواقع يمارس سياسة هدفها ان نعود الى المغاور والكهوف. الارهابيون بديلاً من الانظمة القائمة موضوع لا أحتاج الى طرحه، لذلك أكتفي بالرئيس بوش وما يعرض علينا. المعروض خفّف كثيراً منذ تشرين الثاني الماضي، كما خفف من جديد بين قمة الثماني الشهر الماضي في الولاياتالمتحدة واجتماع الناتو في تركيا. بين هذا وذاك اكتشف الرئيس بوش ان العراقيين يكرهون الاحتلال، فكان ان ترك السيادة للعراقيين، فلا تعود القوات الأميركية هدفاً للمقاومة، وإنما يواجه العراقيون بعضهم بعضاً. وهو قال في تركيا: "الصراع أولاً وقبل كل شيء صراع عراقي". وأجد هذا الكلام حديثاً عن حرب أهلية. غير اننا لم نسمع هذه النغمة في الماضي فالصراع أصبح عراقياً لأن ادارة بوش أطاحت صدام حسين، وربحت الحرب وخسرت السلام فألقت بأثقالها على حكومة انتقالية يريد منها الرئيس بوش "تحمل المسؤولية كاملة عن أمن بلدها". أما القوات الأميركية فتبقى في العراق "بقدر ما يحتاج اليه استقرار العراق"، وهو موقف غريب لأن أهم سبب لعدم الاستقرار هو وجود هذه القوات. عندما يكون سجل ادارة بوش في العراق كنموذج للديموقراطية هو ما نرى فإنه لا يجوز للرئىس الأميركي ان ينتقد سورية وايران لأنهما بلدان مستقران، مع مطالبتنا بالديموقراطية الحقيقية فيهما. غير ان الرئيس الأميركي لا يكتفي بهما، وإنما هو ينتقد زعماء في الشرق الأوسط "بمن فيهم حلفاء الولاياتالمتحدة... يجب ان يفهموا ان اي دولة تتنازل أمام المتطرفين تشجعهم مما يزيد العنف في المستقبل؟" هل هو يتحدث عن المملكة العربية السعودية أو مصر أو غيرهما؟ مهما يكن الأمر فالرئيس الأميركي يتجاوز النقطة الأساسية في الارهاب، وهي ان سببه الأول والأخير هو السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. أجد ان من الصعب جداً ان يصدّق مواطن عربي، على رغم ما يعرف من سذاجة هذا المواطن وقابليته لتصديق ما يسمع، كلام الرئيس بوش، فالحرب على العراق خطط لها المحافظون الجدد لأسباب معلنة ثبت كذبها المطلق، مما يؤكد ان السبب الحقيقي هو خدمة اسرائيل، والديموقراطية المقترحة ليست ما انتهى اليه العراق، وليست النسخة المخففة باستمرار لتناسب الوضع الآني. وليس هذا رأيي وحدي. ففي يومين متعاقبين الشهر الماضي وقبل يومين، كنت أقرأ لخبراء في حقلهم ان الديموقراطية لا تصدّر... أوين هاريز، وهو باحث كبير في مركز الدراسات المستقلة في سيدني، كتب مقالاً في 21 من الشهر الماضي في مجلة "أميركان كونسرفاتف"، أو الأميركي المحافظ، تحت عنوان "أخطار الهيمنة" قال فيه ما خلاصته ان أميركا بدأت تتعلم ان الديموقراطية لا تصلح للتصدير. ومارتن جاك، الاستاذ الزائر في كلية الاقتصاد في لندن، كتب في "الغارديان" في اليوم التالي ان الديموقراطية أصبحت شعار الغرب، الا ان تطبيقها عالمياً يظل موضع شك، وهي ليست أفضل طريقة متوافرة لبدء نهضة اقتصادية. وجمع صندوق مارشال الألماني برلمانيين وسياسيين من الاتحاد الأوروبي وأميركا أقروا دراسة تقول: "ان الغرب لا يستطيع تصدير الديموقراطية الا ان عليه ان يلعب دوراً أساسياً في دعمها في الخارج، كما فعل في اختراقات وتحوّلات ديموقراطية اساسية في مناطق اخرى من العالم... هذا مشروع أجيال ويحتاج الى قوة استمرار تاريخية". من يؤيد جورج بوش في نشر الديموقراطية في البلدان العربية؟ يؤيده المحافظون الجدد ومثلي عليهم واحد منهم هو جوشوا مورافشيك الذي نشر له معهد "أميركان انتربرايز" المحافظ في الثاني من هذا الشهر مقالاً يقول فيها ان جورج بوش يروّج للديموقراطية في الشرق الأوسط لأنها الحل الوحيد الطويل المدى للقضاء على أسباب الارهاب. وكنتُ أعتقد ان تغيير السياسة الأميركية هو أول خطوة على الطريق. ثم يزعم الكاتب اليهودي الأميركي الشاروني النفس ان الديموقراطيات أقل رغبة في بدء حرب من الديكتاتوريات وأقل احتمالاً لتفريخ الارهاب. وأقول انه اذا كانت اسرائيل ديموقراطية كما يزعم هو وأمثاله فإنها تنقض كلامه لأنها شنّت حروباً ومارست الارهاب، وبدأت صناعته في الشرق الأوسط. ويقرر مورافشيك بعد ذلك ان من أصل 22 بلداً عربياً لا يوجد بلد ديموقراطي واحد. وأصرّ على ان هناك ديموقراطية في الأردن والكويت، وأن لبنان بلد ديموقراطي على رغم الوجود السوري، وأن في مصر قسطاً من الديموقراطية. وأصرّ مع هذا كلّه على حاجة كل بلد عربي الى مزيد من الديموقراطية. غير انني لا أريد ديموقراطية من نوع ما طبخ الأميركيون في العراق، ولا أريد بديلاً من الانظمة العربية هو الارهاب، مع انني عشت العمر كله وأنا أطالب بالديموقراطية والتغيير في كل بلد عربي.