"جئتكم بالسلام"... هكذا هتف نيلسون مانديلا وسط مواطنيه وعلى مسمع من العالم بعد عدة خطوات خارج السجن الذي قضى فيه 27 سنة، واستطرد: "أنبّهكم مواطنيّ من السود والبيض ان سياسة الفصل العنصري اصبحت بلا مستقبل...". ادرك مانديلا خلال سجنه ان القوى التي تساند المساواة والسلام والحرية اكبر بكثير مما كان يعتقد، ومنها قوى مؤثرة من البيض في جنوب افريقيا نفسها. وفي حديث مع الاذاعة البريطانية يوم خروجه قال: "... أوهن السجن جسدي، ولكن كان لدي الفرصة لأعرف اننا لسنا مجموعة من الزنوج الفقراء الضعفاء، وان اغلب العالم يساندنا، وان قيم الانسانية كلها معنا، ومن معه كل هؤلاء لا يحتاج الى السلام...". وكان تنظيم "روح الأمة"، الجناح العسكري لحزب المؤتمر الوطني، قد انهار منذ وقت طويل، فيما أضاف مانديلا الملاكم، القديم القديم، الى الايمان العميق بقضيته المعرفة العميقة بوجدة الجماعة البشرية. وفي تراثه تشكيل لجنة المصارحة والمصالحة برئاسة مناضل ومفكر يؤمن بالوسائل السلمية هو القس ديزموند توتو. ولم يكن غريباً ان يوافق على تفكيك الاسلحة النووية التي كانت بلاده تمتكها. ترك مانديلا الحكم مكتفياً بمدة رئاسة واحدة، ووجد بعد ذلك الوقت لكي يحب ويتزوج ارملة رئيس موزامبيق الراحل بعد ان انفصل عن زوجته ويني التي انحازت الى العمل السري والعنف، ووجد الوقت ايضاً كي يتجول في انحاء العالم محاضراً وداعية للسلام، بعد ان اصبح بذاته قوة اخلاقية ذات وزن عالمي. وهكذا انتظم مانديلا عضواً في باقة ممن ساهموا في وحدة الجماعة الانسانية وقضية الضمير العالمي ورفعة حق الشعوب خلال القرن العشرين، ومنهم غاندي واولوف بالمه وليوبولد سنغور وغورباتشوف وكلينتون. في المقابل، كانت صور صدام حسين وهو يطلق النار من بندقيته التشيكية الشهيرة، وكانت صور "الأستاذ" عدي تنتشر في الصحف والمجلات وعلى الجدران وهو في وضع بروفيل مزدوج مع أسد هائل. وكان كل ذلك مجرد استدعاء للمخيلة الذكرية البدوية المقاتلة، ولم يكن صدام وابنه ومجلس حربه هم فقط الذين يؤكدون تلك التقاليد العربية. فمشهد العصابات العسكرية العربية التي قامت بالانقلابات ثم اصدرت البيان رقم واحد بتحرير فلسطين من النهر الى البحر، تؤكد ذلك. وكانت خطب الزعماء العرب الذين يستعدون للمعركة الحاسمة التي لم تقع ابداً وحتى بعد اتفاقيات السلام، او من دونها، تحيي ذهنية الحرب للاستهلاك المحلي، وعلى سبيل الإدمان للجعجعة التي كانت طوال نصف قرن او يزيد مجرد غرائز سياسية. كل ذلك كان سبباً ونتيجة للبينة الثقافية السياسية والاجتماعية العربية، التي تشكل في جانبها الأكبر انصياعاً لطريقة في تناول التاريخ العربي الاسلامي، والذي تحول مع سبق الاصرار والتعمد الى مجرد سجل للحرب والغزوات والفتوحات وسيرة للأبطال المقاتلين أو المجاهدين. حتى الانبياء والصحابة تم تقديمهم فقط كرموز للقوة البدنية والقتالية، حتى انه من النادر ان تقابل شخصاً يقرأ او حتى يعلم شيئاً عن كتاب جميل هو نهج البلاغة لعلي بن ابي طالب. ومن المنطقى ان يقوم كل ذلك على حساب التاريخ الحقيقي للبشر، وهو تايخ التقدم، ونتج هذا الخلل عن اختلاق ما سمي بعلم الكلام الذي كان متراساً ضد الفلسفة، واغلاق باب الاجتهاد ووضع المعرفة في خدمة الايمان والاخلاق. وفي ظل ثنائية الفقيه ورجل السيف اصبحت جماعة الطاعة الايمانية هي نفسها جماعة الطاعة السياسية. وهكذا توقفت المعارف عن النمو، واصبحت الاخلاق تلك الدائرة المحدودة السطحية حول النسب والجسد، وأورث كل ذلك للمجتمع العربي مزاجاً عسكرياً يتبع الطغاة، وذهنية معسكرات التجميع الفاشية، كما راكم زخماً معادياً لوحدة البشرية ومجتمع السلام وحرية الفرد وابداعه. ونجحت تلك القراءة في تكوين قاموسها الخاص من الانتقاء والتلفيق في المادة التاريخية، متجاهلة كل علوم الانثروبولوجيا والدراسات المقارنة والتحقق والتوثيق. وعلى سبيل المثال تم تجاهل مشاركة قبائل بني تغلب المسيحية للقبائل العسكرية العربية في غزو بلاد فارس. وطوال هذا التاريخ لم تنقطع سلسلة القتل لكل من يُظَن انه خارج على جماعة الطاعة الدينية أو السياسية لا فرق. فقتل الحلاج والسهروردي وابن الراوندي وغيرهم كثيرون، وكُفر ابن رشد والفارابي وابن سينا وأُحرقت كتبهم واستعيدت بعد ذلك من اللاتينية والعبرية. وتواصلت السلسلة في عصرنا حين قُتل كامل مروة ثم حسين مروة وسليم اللوزي في لبنان، وفرج فودة في مصر، كما حاولوا قتل نجيب محفوظ. وفي الجزائر اغتيل الطاهر جعوت، وعبدالقادر علولة، وفي ايران بوينه ومحمد مختاري وفروهار وزوجته، ناهيك عمّن مثلوا أمام القضاء وأُنزلوا السجون بالتهم نفسها، والحبل على الجرار. وشهد عقد الثمانينات نهاية ثلاثة زعماء عرب حمل كل منهم مهمة مختلفة ومتباينة عن طينته العربية، فتم تقديمهم قرابين الى النظام العربي. أولهم كان السادات، وارتبط بمهمة السلام وأعدم جسدياً، وثانيهم كان الحبيب بورقيبة وارتبط بمهمة العلمانية ومحاولة الترويج للحل السلمي مع اسرائيل فأعدم مدنياً، والثالث كان سوار الذهب الذي وعد بفترة انتقالية هي عبارة عن عام واحد بعد انتفاضة 85 يُرسى بعدها نظام ديموقراطي ونفذ ما وعد به في 1986 فأعدم بالنسيان وبالانقلاب العسكري الديني عام 1989. ويبقى السؤال معلقاً: هل يمكن في بيئة من هذا النوع ان يولد نيلسون مانديلا؟