المقطم... طريق خاص، ولجتُ فيه، ودستُ سرعة السيارة فضاعفت من جهدها، ومضت تعفر على الطريق الترابي الضيق، فوق الهضبة العليا، على يمين القلعة، وتحت نظري الهضبة الوسطى تشمها طرق جديدة تحت التشطيب، ثم خراب لا ينتهي يغرق في دخنة تحط مثل سحابة طباشيرية على بلد اسمها القاهرة.سور مبني بالحجارة، وبوابة من حديد اسود خلفها كشك خشبي بجانبه نخلتان مثمرتان ببلح أحمر. - على فين؟ سألني جندي الأمن المركزي وقد وضع وجهه بين حديد البوابة، ينظر ناحيتي متأملاً السيارة الزرقاء الغريبة على الجبل. - عاوز أشوف الجيوشي. قال باستغراب: - الجيوشي؟!.. جيوشي مين؟ اشرت ناحية المسجد القديم الذي يكمن في المكان محاطاً بالأسرار مثل اسير وقلت له: - الجامع. التفت متأملاً الجامع وقال: - الله، هو اسمه الجيوشي؟! - آه. أجابني منهياً الحديث: - ممنوع. وأعطاني ظهره ومضى.. قلت له: - وإيه اللي منعه؟! استدار وتأملني قليلاً ثم قال: - منطقة عسكرية... يا أستاذ هنا أمن الرئاسة.. وعلشان تزور الجامع لازم تجيب تصريح من المخابرات. - المخابرات؟ - أمال ولا تكونش سيادتك فاكرها سايبة؟! - لا العفو... أنا عارف إنها مربوطة كويس قوي. ابتسم الجندي بخبث ومفهومية ونظر في عيني وقال بقلة حيلة أهل الريف: - هه... اديك سيد العارفين وأنا لو أقدر أدخلك كنت دخلتك على طول. - صمت قليلاً، وقال لي: - ما أنت عارف الأوامر. - عارف. تهيأتُ للانصراف وأنا أودع المساحة الخالية إلا من صف شجر الكافور الذي يفصل المعسكر عن المسجد المقام على الهضبة، والذي يلوح لي مثل ضريح. ما إن أعطيتُ للجندي ظهري حتى جاءني الصوت... جاء مثل جلجلة الجرس نابعاً من الفراغ، صافياً ومؤاخياً، جاء من بعيد وأخذ يقترب، أشعر به يتسلل إلى روحي، وسرعان ما تجلت لي معاني كلماته: - سيبه... دهه أنا عاوزه... أنا في انتظاره من زمان. أجابه الجندي: - يا شيخ عطية ما أنت عارف الأوامر. شخط في بعزم الرجال... مشوحاً بيده: - الأوامر دي تمشي عليك... أنا هنا صاحب الأمر والنهي، أنا هنا خادم الأثر وكلامي يمشي على الكبير والصغيّر. نظرتُ من خلال حديد البوابة، ورأيته قادماً نحوي في ثوب قديم مرقع على صدره برقع ملونة، وذيله مشقوقاً حتى فخذه، وكلما اقترب مني تأملتُ لحيته التي خطّها المشيب، وصوته يجلجل في المكان... أنا خادم السلطانة... أنا المريد بالليل. خرستُ، وأربكني المشهد، وأنا أراه قادماً نحوي يمتلئ ثوبه بالهواء مشيراً نحوي بذراعه: - أنت... تعالى أنت... أنا في انتظارك. - أنا؟! - أيوه إنت. عدتُ ناحية البوابة التي انفتحت فدخلتُ منها. بوقار، وبغاية الاحترام، تقدمني وسرت خلفه. كنت مشوشاً وقلقاً، وحكاية أنه في انتظاري أنا بالذات من دون خلق الله، شوشتني، فارقني قليلاً إحساس برؤية المسجد وأنا أسير خلف رجل خرج لي من الخلاء الموحش. حاولت ألا أوليه أي اهتمام وهو يفسح خطواته التي تشدني خلفه، وحين اتسعت بيني وبينه المسافة ناديته: - انتظرني. أجابني: - إن كنت قادراً على الطريق اتبعني. ومضى يوسع من خطوه وأنا خلفه مكروش النفس، وأحسست لحظة كأنني حفنة من تراب. وقفنا في الساحة أمام مسجد سيدي الجيوشي، وأنا أتأمل قبته الملساء فوق المحراب، ومئذنته القصيرة التي تعلوها قبة صغيرة، استرعى انتباهي المدخل في منتصف الواجهة الشمالية الغربية ببابه المعقود بعقد مدبب أيضاً. لاحظت أن الرجل كان قد اختفى، وعبرتُ ردهة مسقوفة بقبو نصف اسطواني... حتى وصلت صحن المسجد حيث إيوان القبلة، وتأملت الأعمدة الرخام بتيجان زهرة اللوتس الفرعونية فهالني القديم في القديم. سمعت صوت الرجل مجلجلاً يأتي من حجرة مسقوفة بقبة، نظرت جدرانها الحجرية من النافذة المشغولة بالعرائس الخشب، والآيات الملونة والزجاج المضيء. - الحمد لله الطهور، خالق الروح، واهب حفنة التراب الإيمان. حل صمت كدر بعد جلجلة الصوت، ولم أعد واعياً بذاتي في نهاية يوم لم يكن في الحسبان. من النافذة شاهدتُ الشمس توغل في الرحيل، كانت تكوّر نفسها فوق بر الجيزة، والأهرام في شبورة مدخل الليل متوحدة وغامضة. بعد وقت خرج لي الرجل - كأنه ليس هو - اختفى الثوب المشقوق ورأيته يرتدي ثوباًَ أبيض تضيئه لمعة الزهرة، ويفوح منه عطر برائحة الزنجبيل فيما اعتمر عمامة بشال أبيض ينتهي بعدبة تصل حتى كتفه، كما شط ذقنه في تناسق غريب، كأنه غير الذي قابلني عند البوابة - الروح غير الروح، والبدن غير البدن. هبت ريح فتضوعت في المكان روائح زهر وزنجبيل. قلت: - كأنك خارج من حمام قديم. - فعلاً أنا خارج من حمام قديم. - هكذا كل يوم؟ - عليّ كل مدخل ليل أن أهتم بنظافة البدن والروح. صمت قليلاً ثم نظر ناحيتي: - حتى أليق بمقابلة السلطانة. - سلطانة؟!.. سلطانة مين؟! - السلطانة شجرة الدر. - تقصد الملكة شجرة الدر؟ شخط في وجهي مشوحاً بيده: - السلطانة من فضلك. قلت مستغرباً الأمر: - الله!! هي مش ماتت؟! لم يجبني، ودار حول نفسه كمن في حضرة، يتأمل قرص الشمس الأحمر وهو يغيب. رأيته ينفصل عني ويغيب في جذبة الدراويش، وسمعته يتمتم بين نفسه في وجل: - دبت عقارب الفتن بين العسكر الأوغاد الذين يحكمون الوطن... واختلف الملك عز الدين مع السلطانة فأرسلت له ليطلع القلعة، كانت أضمرت له الشيء الكثير، وبعد أن نام معها نومته الأخيرة دخل عليه غلمانها الحمام وخنقوه، كان ابن العبيد قد أهان السلطانة وجلالها فكان عليه أن يأخذ عقابه، بعدها جاء ابنه الأهبل الداعر وقبض عليها، وسلمها لأمه التي أمرت جواريها أن يقتلوها بالقباقيب والنعال، وحين ماتت السلطانة سحبوها من رجلها وألقوا بها على سور القلعة وتركوها ثلاثة أيام تلغ فيها الكلاب... كانت عريانة إلا من لباس في تكته قارورتان من مسك ولؤلؤة سرقها أحد الحرافيش... في اليوم الثالث حملوها في قفة وووريت مقابر الصدقة. أصابني الذعر من مشهد الرجل، وخُيل اليّ كأنني في عالم غير حقيقي، ومع أنني كنت أعرف تفاصيل ما اسمع إلا أنني خفتُ، والظلام الذي بدأ يزحف أرجفني. - تصور... سلطانة السلاطين تلغ فيها الكلاب، فعل شائن لا يليق... رفس الهواء، وكوّر قبضته في وجه الماء، اقترب مني وقال: كلما أوغل الليل تأتيه، تقطع الطريق من القلعة حتى الجيوشي، قال أيضاً: إنها تقف هناك، وأشار ناحية السور تحت شجرة السرو القديمة، أضاف: إنها تكشف له جسدها فيرى قضمات الكلاب في لحم السلطانة، وكان يرى الجروح تشع بشيء مثل النار... عاد يصرخ في وجهي: - كلهم خانوها ونهشوا لحمها... الحرافيش وحاشية السلطان وعلماء المسجد الجامع وهي من هي. مرق من أمامي داخلاً الحجرة، وخرج حاملاً إناء الفخار الكبير عليه الرماد وفحمات... أشعل النار فعلت، وألقى عليها حفنة من البخور، أفحمتني الرائحة، وصعد من أسفل التل قرع طبلة وغناء به توازن عجيب، كأنني أسمع عزفاً مغربياً، وأصوات جوقة من بنات ينشدن موشحات من الأندلس. كنت موزعاً بين نشوتي، وأحوال هذا المعتوه الذي يوغل بي في ليل لا أعرف كيف سينتهي؟! صرخ: - انتبه... ليست أوهام... إن بقيت، سترى بعينك ما أقصه عليك. انشد بصوت رخيم "الله... الله" وغرق في الذكر وبدا كمن يمارس ذكره في حضرة داخل رواق قديم... قال: انتبه، يبحث الجسد كل ليلة عن روحه، والأمر لم يعد يُحتمل، وأنت لا تنتظر من الآخرين فعل كل شيء، أعلم سوف تقوم القيامة، ولسوف يجد الجسد روحه. اختلطت عليّ الأمور، وبدت السماء أكثر ضياءً عندما اشتعلت المصابيح عند القلعة، وبدا خوفي مثل عمود من نور، كأنني انتظرتُ هنا عمري كله. انطلقت خارجاً من أسر اللحظة، وعدوتُ عبر عالم غير مرئي، يشتد فيه صوت غناء الموشحات، وقرع الطبول.