أعرف جيداً ان خدمات البريد تشبه حائط جدي الطيني المهترئ، لكنني لم أتوقع أن تكون بهذه الدرجة من التأخر، كأن تصلني رسالة بعد سنة وأربعة أشهر. في أي دِرج تاهت هذه الرسالة كل هذا الزمن؟ أي أصابع شيطانية خنقت هذا الحب والوله كل هذه الأيام؟ لا أعرف. فتحت المظروف الوردي الصغير للمرة العشرين، وتأملت كلمات تشبه قلائد فضة، صغيرة ومنمنمة، ومرتبكة بعض الشيء. قرأت آخر كلمة: لا تنسَ أرجوك حبيبي!! منذ أن وطأت قدماي هذه المدينة للدراسة، لم يكن لي عنوان واضح. كل غرفة استأجرها لأشهر لا يزيّن صمتها ضجيج هاتف. وإن كنت محظوظاً في غرفة ما بهذا الجهاز الذي يربطني بالعالم والأنفاس والحزن الطويل، فلا ألبث أن يطردني المالك لأسباب كثيرة، أشدّها تأخري عن سداد الأقساط الشهرية للإيجار، وأبسطها دعوى الجار انني عازب ومثير للشك، ولا أصلِّي مع جماعة المسجد، حتى لو كنت أول من يدلف وآخر من يتوقف لسانه عن اللهج بالدعاء والاستغفار. هكذا كدتُ أصطدم بسيارة نقل ضخمة، بعد أن دفعت ثلاثمئة ريال رسوم امتلاك صندوق بريد خاص، كنت فرحاً حتى كادت سيارتي الكورولا طراز 88 أن تغفو تحت عجلات الناقلة الضخمة، وأغفو أنا كحشرة طائرة تتشرنق بغباء في شبك "الراديتور" في مقدم الناقلة المسرعة. كنت أقول لأصدقائي في الجامعة: الآن أصبح لي عنوان ثابت في ضياع هذه المدينة الضالة. الآن يمكنني التواصل مع العالم عبر هذا الصندوق السحري: البريد، ولا يملك أحد في الدنيا أن يسلبه مني. فتحت الرسالة وتأملت أسطرها الثلاثة، والتوقيع، والقلوب المشروخة في الزوايا، والتاريخ الهجري واليوم. قرأت الأسطر سريعاً: أنتظرك الجمعة المقبلة، السادسة مساء، عند سوق الزهرة، على المقاعد الحجرية. إذا ما وصلتك الرسالة قبل الموعد، يكون الجمعة بعد المقبل. أمانة... ضروري أشوفك... مسألة مصير. يا إلهي... كم جمعة مرّت!! حاولت أن أعدّها، لكنني توقفت، هل كانت الجمع مثل أسراب الحمائم، التي تمرّ سرباً سرباً فوق رأسي قبيل يقظة الشمس، فلا أسمع سوى حفيف أجنحتها المتدافعة. ثم لا تترك أثراً. كان اليوم أربعاء، طالعت حائط الغرفة، حيث ينظر تقويم أيام السنة نحوي بسخرية، كأنما يقول لي: كم أهدرت من جمعة أيها العاشق التائه!! كنا فقدنا الاتصال تماماً. لم يعد رقمها يجيب لأيام، ثم صار يردد نغمة: فضلاً تأكد من الرقم الصحيح!! بينما لا أملك في غرفتي المتواضعة هاتفاً يربطني بصوت يشتت الليل، ويطرد برنينه الصراصير التي لا تكف عن الشقلبة داخل حذائي، وهي تقاسمني الغرفة. قررت أن أزور السوق، وأتفحصه قبل أول جمعة. زرت المكان مراراً، تأملته من كل الزوايا، وجلست على المصطبة الحجرية المسودة. مساء الجمعة، وقبل السادسة بساعة كاملة لبست ثوبي وشماغي، ورششت عطراً رخيصاً جعلني أسعل طوال الطريق. كنت أعرف أنه مضى أكثر من ستة عشر شهراً، أي ما يقارب ستين أسبوعاً أو جمعة: يا للجنون، أتظن أنها تنتظرك كل جمعة، طوال هذا الزمن؟ همست لنفسي. هل أنا فعلاً مجنون؟ تلمّست ظهر عنقي الموسوم بكي نار قديم، أيام الطفولة. كنت أجمع الأحجار آنذاك، في السابعة بدأت أخفيها في بيت الدرج، وبعد عام تكوّمت لديّ أحجار متنوعة، قضيت معها ليالي رائعة، كنت أعشقها، أهيم بها، أحادثها، أقسم انني كنت أسمع أصواتها المخنوقة، ووسوساتها. أقبلها وأعتب على بعضها. أصفُّها بنظام دقيق، وأرتب مخدع كل منها!! كنت مبتهجاً ومتفاعلاً جداً مع الأحجار: ألوانها، أشكالها، أرواحها. الى حد انني عرفت كلاً منها باسم وعمر وملامح. كانت أحجاري قبائل وعائلات. لا أعرف، ربما كانت القبائل والعائلات مجرد أحجار. بعد أن اكتشفت أمي مخبأي تحت الدرج، لم تقل لي شيئاً، ولم تعتب عليّ. بل انني لم أعرف انها وقعت بالكصادفة على عالم أحجاري المعشوقة، إلا بعد أن عدت ذات ظهيرة من المدرسة، وخلعت ثوبي بسرعة، وانسللت الى صحرائي، فلم أجد غير الفراغ، بعد أن حملها أبي ورمى بها في مكان بعيد. أخذتُ أصرخ بلا شعور، أضرب الجدران بجنون، خفّت أمي نحوي، وبسملت كثيراً، واحتضنتني، وهرع أبي على صراخي، وما إن عرف سبب لغطي هذا، حتى انهال عليّ ضرباً وركلاً. ظللت مريضاً لأيام وليال. لم أعد استطيع الرؤية، كنت أستند الى الجدران وأتحسس الدرج والباب، وانقطعت عن الدراسة، حتى زارنا عمي، ليقنع أبي بأنني ممسوس، ولا بد لي من قراءة عند إمام المسجد. بعد أن عرف الإمام حكايتي أكد لأبي أن جنياً مشركاً يعبد الأصنام قد تملكني، وهو ما جعلني عاشقاً للأحجار ومهووساً بها. أشار بعد زيارات قراءة ونفث لم تنفع، الى أن أعرض على طبيب شعبي في منفوحة يستخدم الكي بالنار علاجاً. كان يسخّن أنبوباً حديدياً فوق النار، ثم لسعني بخفة على ظهر رقبتي، حتى ضجّت غرفته بزعقة صغيرة مصحوبة برائحة شواء ودخان أبيض. تحسست مؤخرة رقبتي وأنا أدلف سوق الزهرة التجاري. كان عقربا الساعة يشيران الى السادسة الا عشر دقائق. حركة المتجولين داخل السوق كانت خفيفة. ثمة نساء يحملن أكياساً ويجررن أطفالهن، وأطفال آخرون يمسكون بعباءات أمهاتهم ويبكون. جامعو التبرعات يصوّتون: تبرعوا لإخوانكم في الشيشان... ما نقص مال من صدقة. بعض الباعة يقفون على أبواب متاجرهم منتظرين المشترين، وينسل نفر منهم داخل متاجرهم حين يلمحون رجل الهيئة بمشلحه الوبري ولحيته الكثة يتبعه كظله جنديان. أنا أيضاً ارتبكت لرؤيته، وقررت أن أحتمي مثل فأر بمحل ملابس رجالي، لأخرج بكيس بلاستيكي أحمله كي يشفع لي بالتجول. لحظتُ بطرف عيني المصاطب الحجرية. كانت امرأة تجلس وفي حضنها رضيع. نظرت الساعة، كانت السادسة تماماً، ارتبكت وتسارعت خفقات قلبي، حتى كاد يقفز من أضلعي ويرتمي على بلاط الرصيف. اقتربت منها، ومررت بجوارها ببطء. عيناها الظاهرتان خلف نقابها تحدّقان. تجاوزتها ثم التفتُ، فضبطتها وهي تلاحقني بنظراتها. يا إلهي هل كانت هي؟ بعد ستين جمعة، وقد أدمنت الانتظار كل سادسة؟ قررت أن أعود مرة ثانية، لكن هل أمرّ بجوارها؟ أم أكون شجاعاً أو وقحاً فأجلس بجوارها، أليس المقعد الحجري يتسع لثلاثة أشخاص؟ وليس هناك سواها تجلس على طرفه؟ هذا صحيح، ولكن لا مكان لعاشق في هذه المدينة!! بعد أن اقتربت منها تبادر الى ذهني مظروفها الوردي الصغير. سأخرجه وأمسك به في يدي اليسرى التي ستكون بموازاتها. ربما تتذكر مظروفها، ستين جمعة ليست كثيرة لدرجة نسيان رسالة تحدد مصير. لكن من هذا الرضيع في حضنها؟ هل تزوجت وأنجبت خلال سنة وأربعة أشهر؟ هل كان الموعد مصيرياً لها؟ لحظة مررت أمامها بخطابي الوردي في يدي، لمحت عينيها تضجان بالارتباك، وهي تفزّ فجأة كأنما ستتبعني. أسرعت مهرولاً، وأحسست بوقع حذائها يلاحقني، التفتّ بغتة، فوجدتها تتبعني!! انعطفت نحو مواقف السيارات، فانعطفت معي، لكنها توقفت، فالتفت خلفي حيث كانت تركب سيارة فارهة وجديدة. تسمّرتُ قرب سيارتي. وما إن مرّت السيارة، حتى لمحتُ عينيها تنظران نحوي، لدرجة أنها أدارت رأسها الى الخلف بعد أن تجاوزتني السيارة. رفعتُ يدي ولوّحت لها، ثم لمحت فجأة رجل الهيئة والجنديين يركبون سيارة "جي إم سي"، ويغادرون السوق. عدت الى المقعد الحجري، لربما تركت شيئاً هناك. جلست مكانها بالضبط. تفحصت المقعد والبلاط تحته. لمحت رباط شعر وردياً أيضاً. رفعته وشممته. نظرت يميناً نحو جذع شجرة بنسيان ضخمة تكاتف المقعد. تذكرت حكاية عجيبة تقصّها جدتي لي قبل النوم، عن رجل يسير في الصحراء، فيسمع أنيناً خافتاً وحزيناً، وبعد أن يبحث عن الصوت، يدرك أنه إما كان صوت شجرة عوسج كبيرة، فيقترب منها، ويسمعها تردد: خلّصني... خلّصني!! يسألها: كيف؟ لكنها كانت تردد كلمتها: خلّصني... خلّصني!! يخرج سكينه ويرسم على جذعها، فتتحول فجأة الى امرأة طاغية الجمال، لتقول له أنا الآن ملكك!! ثم تضيف: لقد مسختني جنية حقود الى شجرة... وقالت لن يخلّصك إلا فنان أو شاعر!! أخرجت مفاتيحي من جيبي، ورحت أرسم قلباً وعينين، وما إن مشيت حتى سمعتُ حفيف امرأة طاغية الجمال تتبعني وتهمس في أذني: سأعيش معك، حتى لو في بيت درج!! كنت أسمعها وأحاورها، لكن كثيرين لا يرونها معي. شبكت أصابعها بأصابعي ومشينا معاً. * قاص وروائي سعودي.