اذا كانت العولمة الآن بقيادة المايسترو الاميركي فلا يعني ايضاً أن عصر الهيمنة الاميركية ازلي. كل هذا تعلمناه عبر التاريخ. فاذا كانت العولمة "سريعة وشاملة وواسعة النطاق تفرض قواعدها على الجميع". وهو ما يقول به الكاتب الاميركي توماس فريدمان "فإن الجانب الذي يتحكم بها الآن لا احد يضمن استمرارية خطابه الاقتصادي و"الثقافي". لا سيما ان مجرد التحليل العقلاني الموضوعي لعناصره، يُظهر الكثير من نقاط التطرف والتسلط والعنف فيه، مما يجعل الغالبية الساحقة من سكان الكوكب تعبر عن عدم دعمها له. فقد لا يتحمل المايسترو الاميركي وحده تبعات الجانب السلبي لهذه العولمة، الا انه يشكل الوجه البارز فيها والنموذج الاكثر حضوراً في تجديد خطاب الفلسفة الداروينية الاجتماعية المطعمة بالروح البراغماتية. فالحياة للأقوى ومقياس الشخصية المثلى من يكسب معركة الربح والنجاح. فأضحى المعنى الجوهري لعولمة كهذه يتمثل في كسب المال من اجل تثبيت القوة واستخدام المعارف التقنية وغيرها، من اجل الحفاظ على السلطة. فالعولمة بهذا المعنى تكون "اقتصادوية" بامتياز. وتسعى لتعميم "ثقافتها" الجماهيرية العالمية المتميزة بثلاث سمات: السمة التي تجعل من اللغة الانكليزية ومن الدولار بمثابة "العجل الذهبي" الذي يوجب ان تمارس الشعوب خضوعها وتبنيها التام لهما. اما السمة الثانية وهي احتكارية ايضاً، تتمثل في قدرة هذه "العولمة المؤمركة" لأن تقصف العقول والنفوس والاذواق بكل ما تنتجه مخيلاتها السينمائية والروائية والغنائية والتي يغلب على القسم الاكبر منها ذلك الطوفان المرعب من افلام العنف والجنس والترويج لشخصية "البزنسمان" على الطريقة الاميركية. والسمة الثالثة، وقد تكون الاكثر خطورة بالنسبة الى سائر الحضارات العالمية، حيث ان الثمن الكبير تدفعه تلك الحضارات التي تصنف ضمن محور بلاد "الجنوب"، وهي القدرة على الامتصاص الهائل للأشياء. انها القدرة المرعبة لامتصاص كل الاختلافات القائمة في العالم. انها القدرة والرغبة الجامحة بأن يتحول العالم كله الى سوق استهلاكية. ما يهم المحركون الاساسيون لعولمة كهذه هو الحفاظ على الكم السكاني على هذا الكوكب من اجل شراء سلعها. ولا قيمة لثقافات الشعوب وأخلاقياتها وجمالياتها وروحانياتها. هاجس "العولمة الاقتصادوية" هو ان يكون التقدم العلمي والتقني في حال نمو مستمر. وفي هذا السياق، فإن الجميع على هذا المركب الانساني الذي يشكله كوكبنا يصفقون لذلك. وخيار العلم والتكنولوجيا هو عظيم بلا شك. الا ان العلم أو الاقتصاد الذي يفتقد الى الاخلاق هو بمثابة الصنم الجبار الذي لا روح فيه. فأصحابه الذين يعملون على التشغيل الاقصى لطاقة الغريزة في الشخصية الانسانية الموجهة للمزيد من الترف واللذة والرخاء، والمكونة لما سماه البعض وهم على حق بذلك، "بحضارة الشهوة" يخرقون التوازن داخل الشخصية الانسانية نفسها. تلك التي تستدعي ايضاً وبالنشاط نفسه تشغيل الطاقة الوجدانية والعقلية والروحية. فأرباب "العولمة الاقتصادية" يعملون بسرعة من اجل استلاب الطاقة الروحية عند الكائن الانساني. ومع تزايد سلطة المال والقوة الداعمة له، تسرق الانتهازية والمادية روح الناس .... ومن الطبيعي ان يحدث رد فعل قوي من اصحاب الهويات القومية والثقافية في كل اصقاع الارض على الجانب السلبي المهيمن في العولمة. فالركون الى الهوية يرادف عند صاحبه رغبته بأن يبرز خصوصيته الاتنية او اللغوية او الدينية او الثقافية امام العالم. فأمام انفجارات التاريخ وانقطاعاته، يخلق الانتماء الى الهوية نوعاً من الشعور بأن شخصيته الحضارية ما زالت مستمرة. بيد ان هذا الاستقرار السيكولوجي النسبي لم يستطع الصمود امام ضغوط الحداثة والعولمة بشقيها السلبي والايجابي. وما التآكل التي تعيشه تلك الهويات الجماعية الا نتيجة لحال الضعف الحضاري التي تعيشه الثقافات التي لا تزال على ضفاف الحداثة وما بعدها. المطلوب هو التجانس الخلاق بين الخاص والعام، بين المحلي والعالمي. ولقد كان المهاتما غاندي على حق حين قال: "لا أريد لداري ان تحيط به الاسوار وان تسد نوافذه من كل جانب. اريد ثقافة العالم كلها ان تهب على داري بحرية تامة، لكنني ارفض ان تقتلعني احداها من الارض". فالتصدي للجوانب السلبية من العولمة والافادة من ايجابياتها مهمة مطروحة لدى كل الحضارات ومنها الحضارة الروسية والحضارة المشرقية العربية. هناك منظمات دولية وطاقات جماعية وفردية تعمل بجهد مشكور من اجل اضفاء الطابع الانساني والاخلاقي على العلاقات بين الدول والمؤسسات والجماعات والافراد وفي طليعتها "الاونيسكو"، هي بحاجة لتقديم كل انواع الدعم لها. إن مهمة الذوات المفكرة على كوكبنا الانتقال من حال الضعف الى عصر القوة من خلال ابتكار اساليب اقتصادية وأخلاقية وثقافية جديدة للحياة. فالطاقة المبدعة في النفس الانسانية هي المؤهلة لأن تكون بوصلة الخلاص الحقيقية. والبوصلة تشير الى الثقافة بأوسع معانيها الروحية والعلمية والمادية. فلندع الفرصة للثقافة كما قال الأمين السابق لهيئة الأممالمتحدة خافير بيريز ديكوييار، "من اجل ان تشكل فكرنا وتحكم سلوكنا". فالثقافة بالنسبة الى المجتمعات والشعوب والأمم هي الطاقة والروح والامكانية والمعرفة والاعتراف بالتنوع والتعددية. واذا كانت العولمة ساحة للصراع بين من يريد هيمنة الاقتصاد والتسلط عليها، ومن يريد ان يعطيها منحى ديموقراطياً انسانياً فإن الرد وكما يشير الى ذلك الرئيس الفرنسي جاك شيراك في: "التنوع الثقافي. التنوع المرتكز الى الاقتناع بأن كل شعب يملك رسالة فريدة من نوعها لكي يسلمها للعالم وان كل شعب يستطيع ان يغني الانسانية بنقل حصته من الجمال والحقيقة". بهذا المعنى يمكن ان يكون التنوع مصدراً للخلق. وأهمية التنوع هي في ان يدفع المؤمن به لأن يجدد نفسه وعقله دائماً. وتجديد النفس لا تكمن مساحتها في داخل الذات بل من خلال التفاعل الخلاق مع الآخر. والتفاعل بدايته هو معرفة الآخر على حقيقته. فالآخر بهذا المعنى هو امتداد للأنا. انه فضاء الحياة المتنوعة وصور الوجوه المتعددة. وكلما شرع الانسان في معرفة الآخر، كلما اكتشف مجالات جديدة للقاء والتعاون والشراكة. كما ان معرفة الآخر لا تأتي من بعيد من خارجه بل بمحاولة الغور في اعماقه. ولعل التعرف الحقيقي الى الآخر يساعد المرء على ان يكون اكثر موضوعية برؤيته لنفسه وذاته الحضارية، كما انه يساعده من خلال المقارنات المنهجية على ان يعثر ويحلل المناطق المعتمة في شخصيته. فلا يُقبل ان يبرر الواحد منا المظالم لا بل الجرائم التي ارتكبها ابناء جلدته حيال الذين خالفوه الرأي من ابناء قومه، او حيال الذين لا يوافقونه الرأي او العقيدة، او المذهب من ابناء الحضارات الاخرى. فالجميع افرزت تجربتهم المعاشة جوانب مظلمة من التعصب والاحتقان والبغض والقتل. فالسراديب الخفية في النفس البشرية، تجعل البعض يفضلون الاعتكاف في ظلمات الهوية الضيقة على الانفتاح النوراني على العالم، فبهذا يعزلون انفسهم عن الألق الساطع للفضائل وللفرح. فالبعض يختار خطاب التعصب والكراهية بدل المودة والأخوة. انها مسألة الصراع الأزلي بين النور والظلام، الانفتاح والتعصب، الصراع والحوار، التنافر واللقاء، الحرب والسلام. ولعل الجنس البشري بأسره هو بأمس الحاجة الى ثقافة اخلاقية عالمية تجدد في نفسه روح التعاون والشراكة والأمل. وقد أختتم محاضرتي هذه بعدد من الافكار والاقتراحات لمثل اخلاق مرجوة كهذه. فمن اجل اغناء القواسم المشتركة التي تجمع بين الثقافات المتنوعة على كوكبنا، لعل من الاهمية الحياتية بمكان ان يُتفق على ميثاق شرف انساني عام يتمثل بوجود مبادئ اساسية لأخلاقيات عالمية، نبني على اساسها ثقافتنا في الاسرة والمدرسة والشارع والمعبد والدولة، ملخصها: اولاً: الدعوة والعمل الحقيقي من اجل الاتفاق على عقد اجتماعي دولي لتقليص مساحة الفقر والبطالة والجهل والمرض. فالحرص الانساني على مكافحة كل انواع المعاناة الانسانية والتساوي بين البشر في الاخلاقيات على الاقل هو الذي يجب ان يشكل نقطة البداية لأي اخلاقيات عالمية. ثانياً: احترام الحرية الثقافية التي تشجع على التجريب والتنوع والخيال والابداع. ثالثاً: ارساء الديموقراطية المعتمدة على مبدأين اساسيين على مستوى الوعي والممارسة. الانتخابات الحقيقية وضمان الحقوق المدنية. فالأول يضمن امكان تنحية السلطات اياً كان نوعها، بصورة سلبية والثاني يعمل على ضمان عدم اقدام الحكومات على خرق القوانين اثناء توليها الحكم. ومن جهة اخرى، العمل الدائب على دفع عملية المشاركة الديموقراطية للجميع وفي شكل خاص للنساء والشباب من اجل رفع الغبن عنهم. رابعاً: حماية حقوق الاقليات. ففي كوكب يسكنه ما يقارب العشرة آلاف جماعة اتنية ويتحدث فيه البشر بحوالى خمسة آلاف لغة، يسكنون في حوالى مئتي دولة، فإن حماية الاقليات من المطالب الاساسية للمجتمع الدولي. خامساً: العالمية الاخلاقية المرجوة تهدف الى علاقة جدلية متوازنة بين الحق والواجب، الحرية والضوابط، التوفيق الحكيم بين الأنا والآخر. سادساً: ان مستقبل الثقافات لا يكمن في الانطواء داخل اسوار التقليد والجمود ولا بالتماهي والذوبان مع حضارة الاقوى. فالسياسية الثقافية المنفتحة والواثقة من نفسها هي التي تشجع النشاطات المتعددة الثقافات، وهي التي تغذي التنوع. سابعاً: ان السؤال الملح في زمننا الذي تشوب فضاءه غيوم داكنة من الفوضى العالمية، هو كيفية استبدال خطاب الكراهية بالاحترام وخطاب العنف بالسلام، والتعصب بالانفتاح والصراع باللقاء. والجواب الاخلاقي ليس تقنين الاحترام بالتشريعات ولا اكراه الناس على احترام الآخر في سلوكهم، بل الدعم المطلق للحريات الثقافية ودعم كل انواع المؤتمرات واللقاءات مثل لقائنا هذا الهادف الى ترسيخ مبادئ الحوار والتعاون والشراكة والصداقة. دعونا نغتبط بظاهرة التنوع الثقافي في حضارتنا، وفرحنا الانساني يكتمل في حال حرصنا معاً للحفاظ على المعايير الاخلاقية المطلقة لكل ما هو ايجابي وخير وجميل. * عضو أكاديمية التعليم الروسية، استاذ فلسفة الحضارات في الجامعة اللبنانية، والنص من مداخلة قدمها في المؤتمر الدولي "التنوع الثقافي: تجربة روسيا والمشرق العربي" الذي نظمه البيت اللبناني - الروسي أخيراً بالتعاون مع منظمات روسية وأوروبية وعربية، في بحمدون لبنان.