السعودية ترفع حيازتها من سندات الخزانة 1.1 مليار دولار في شهر    نائب أمير جازان يطلع على جهود تعليم جازان مع انطلاقة الفصل الدراسي الثاني    الذهب لأعلى مستوى مع تراجع الدولار وترقب إشارات «الفائدة».. والأسهم ترتفع    النفط يستقر رغم انقطاع الإمدادات والمخاطر الجيوسياسية    خيم نازحي غزة تغرق.. ودعوات دولية لزيادة المساعدات    القافلة الطبية لجراحة العيون تختتم أعمالها في نيجيريا    فيتو روسي ضد وقف إطلاق النار في السودان    التزام سعودي - إيراني بتنفيذ «اتفاق بكين»    مصير «الأخضر» تحدده 4 مباريات    المملكة تتسلّم علم الاتحاد الدولي لرياضة الإطفاء    تسريع إنشاء الميناء الجاف يحل أزمة تكدس شاحنات ميناء الملك عبدالعزيز    المملكة تؤكد خطورة التصريحات الإسرائيلية بشأن الضفة الغربية    يوم الطفل.. تعزيز الوعي وتقديم المبادرات    ياسمين عبدالعزيز تثير الجدل بعد وصف «الندالة» !    تحالف ثلاثي جامعي يطلق ملتقى خريجي روسيا وآسيا الوسطى    22 ألف مستفيد من حملة تطعيم الإنفلونزا بمستشفى الفيصل    العصفور ل«عكاظ»: التحولات نقطة ضعف الأخضر    رهانات زيارة ماكرون للمملكة العربية السعودية    سهرة مع سحابة بعيدة    «قمة الكويت» وإدارة المصالح الخليجية المشتركة!    رغم تناقضاتهم.. تجمعهم كراهية السعودية !    العامودي وبخش يستقبلان المعزين في فقيدتهما    فرص تطوعية لتنظيف المساجد والجوامع أطلقتها الشؤون الإسلامية في جازان    الشورى يطالب «التنمية الاجتماعية» بتغطية المناطق كافة    أمير القصيم يستقبل السفير الأوكراني    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود الجمعيات الأهلية    الرومانسية الجديدة    واعيباه...!!    الشؤون الإسلامية في جازان تقيم عدد من الفعاليات التوعوية والتثقيفية وتفتح فرصاً تطوعية    خبر انطلاق منتدى مكة لريادة الأعمال وحفل التدشين    تحت رعاية خادم الحرمين.. مركز الملك سلمان للإغاثة ينظم المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة    وطن الطموح    كلب ينقذ سائحاً من الموت    الترقيات الاستثنائية ودورها في حياة الموظف    نيابةً عن سمو ولي العهد.. وزير الخارجية يرأس وفد المملكة في قمة» العشرين»    إدارة الخليج.. إنجازات تتحقق    في مؤجلات الجولة الثامنة بدوري يلو.. النجمة في ضيافة العدالة.. والبكيرية يلتقي الجندل    25% من حوادث الأمن السيبراني لسرقة البيانات    أرامكو توسع مشاريع التكرير    المعداوي وفدوى طوقان.. سيرة ذاتية ترويها الرسائل    القراءة واتباع الأحسن    جمع الطوابع    تعزيز البنية التحتية الحضرية بأحدث التقنيات.. نائب أمير مكة يستقبل رئيس الشؤون الدينية    صدور موافقة خادم الحرمين الشريفين.. استضافة 1000 معتمر من 66 دولة    ثقافات العالم    سفارة كازاخستان تكرم الإعلامي نزار العلي بجائزة التميز الإعلامي    مراحل الحزن السبع وتأثيرتها 1-2    الاستخدام المدروس لوسائل التواصل يعزز الصحة العقلية    تقنية تكشف أورام المخ في 10 ثوانٍ    نائب وزير الدفاع يلتقي وزير الدولة لشؤون الدفاع بجمهورية نيجيريا الاتحادية    نائب أمير مكة يستقبل رئيس الشؤون الدينية بالمسجد الحرام والمسجد النبوي    محافظ الطائف يستقبل الرئيس التنفيذي ل "الحياة الفطرية"    مجمع الملك فهد يطلق «خط الجليل» للمصاحف    أمير تبوك يستقبل المواطن ممدوح العطوي الذي تنازل عن قاتل أخيه    سلطنة عمان.. 54 عاماً في عز وأمان.. ونهضة شامخة بقيادة السلطان    163 حافظا للقرآن في 14 شهرا    لبنان نحو السلام    عودة للمدارس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحضارة الإسلامية ودورها في الحوار بين الشرق والغرب
نشر في الحياة يوم 23 - 04 - 2001

أخذ المدخل الحضاري يحتل الموقع المحدد لدراسة أوضاع البلدان والشعوب والأديان والثقافات. بينما أضحى المدخل التقليدي والثقافي والاجتماعي يتراجع بالتدريج محتلاً الموقع الخلفي. يعرف الباحث صامويل هنتنغتون في كتابه "صدام الحضارات" بأن الحضارة هي الجماعة التي يتمثل فيها العمران بأعلى مظاهره وفيها المستوى الثقافي الأوسع لأصالة الناس.
إن كلاً من المسيحية والإسلام حاول منذ البداية ان يعطي لنفسه طابع الحضارة التي تعكس أصالة الإنسان والتي لا تحصر التعريف بنفسها على أساس القومية أو الجنس أو أية ضوابط أخرى.
مفهوم "الأمة الإسلامية" يضم في ثناياه كل المسلمين. وينظر الى الطابع الإسلامي على أساس كونه العامل الأهم في أصالة الناس. هناك الكثير من العلماء الذين تصل بهم الأمور الى القول إن الدين يشكل الامتداد الأعرق لتكوين الحضارة. وإن الفوارق القومية والثقافية واللغوية يمكنها ان تأفل، إلا العامل الديني. هذا ما يؤكده ص. هنتنغتون والكثير من زملائه. لذلك من الطبيعي ان يتوجه الاهتمام نحو الأديان بما في ذلك الإسلام في المرحلة المعاصرة.
ظهر الإسلام كدين جديد بين الأديان السماوية العالمية معبراً عن نفسه في فترة الفتوحات من خلال منظومة متشابكة من الأفكار الدينية والفلسفية المشبعة بالكثير من التأثيرات اليهودية والمسيحية والمتواصلة مع الثقافة العربية العريقة والتقاليد الدينية. إن واقع الحال يؤكد ان كل أتباع الديانات السماوية يعبدون الإله الواحد، عبر مواقع وطرق مختلفة.
تمكن الإسلام في مرحلة انتشاره الأولى ان يقوم بتذليل العوائق الاتنية وأن يظهر كدين عالمي وأن يهيئ الظروف الروحية الجديدة لحوار ثقافي وديني على المستوى العالمي. إضافة الى ذلك فإن للإسلام دوراً مؤثراً على الكثير من ثقافات الشعوب وحضاراتها وله إسهام ملحوظ في تنقية الأجواء الهادفة لتدشين اجواء ملائمة من أجل الحوار الناجح. والواقع يعطي نماذج عن نوع جديد من الحضارات تستند بشكل أساسي على الإسلام. وإن تحليلنا للإسلام لا يعتمد على كونه ديناً، بل على كونه فلسفة وتجربة معاشة. فالإسلام يطمح لأن يشمل كل المظاهر الحياتية للإنسان ....
لا شك في أن الإسلام واحد من أعظم الديانات والقيم والحضارات وأنماط الحياة. فالإسلام تشبع بإنجازات العرب والفرس والمسيحيين المشارقة والقفقاسيين والعلوم الإغريقية والفلسفات والثقافات. ويشير منتغمري وايت الى أنه عندما أضحت أوروبا القروسطية الباهتة تهتم بالحياة الروحية لعدوها، فإنها كانت مبهورة بإنجازاته، وهي التي شكلت بلا شك نقطة البداية للتطور اللاحق والعاصف للثقافة والعلم في أوروبا. وبهذا المنحى يلحظ الاختصاصي الروسي في الإسلاميات سيو كيانين "إن الحضارة المتوسطية، التي تنتمي إليها روسيا علماً أن هذا الرأي موضع تساؤل وشك. ملاحظة من المؤلف تشكلت من خلال تأثير الديانات السماوية الثلاث. اليهودية قدمت مفهومها للقانون أو الشريعة، تصورها لمسؤوليات الإنسان، وأدخلت المسيحية مفاهيمها حول الأخلاق، الخطيئة، التكفير عن الذنوب، الكمال الذاتي، في حين أضاف الإسلام المعنى العظيم للمعرفة".
يعيش الآن في العالم أكثر من بليون إنسان يؤمنون بالإسلام. من هنا اهمية ان يدخل الإسلام للناس والشعوب فكرة رفع لواء المعرفة. إن تأكيد المعرفة هو تأكيد لحضور الإسلام، وليس التطرف او العدوانية التي ينحاز إليها البعض. المهم هو ان يتم إبراز الجوهر الروحاني للإسلام أثناء توجهه للناس، والطموح الى الحقيقة، التي تكمن فيه. انطلاقاً من خبرتي وملاحظاتي، أرى في نمو الفرق داخل الإسلام وفي نشاط البعض منها إساءة للإسلام، لروحانيته ومكانته المرموقة. بهذا فإن الصورة السائدة عن الإسلام التي تتحامل عليه ستزداد نمواً وانتشاراً. وتستمر الرؤية السلبية المنمطة عن دور الإسلام في الساحة الدولية، حيث يستغل أصحابها النشاط العنيف للفرق والتنظيمات التي تعطي لنفسها تسميات إسلامية. والحصيلة هو هدر الطاقات الإسلامية في الصراعات بدل الاهتمام والتركيز على العلوم والمعارف. وهناك موقف آخر ينبغي التوقف عنده، وهي الحال التي كان يعيشها العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. هنا تكمن الأسباب العميقة وراء نمو الإسلام المكافح. ينبغي عدم نسيان الحال التي كان يعيشها حوالى 90 في المئة من سكان العالم الإسلامي، حيث أنهم كانوا تحت نير الاستعمار ومعظمهم كانوا تابعين للدول الأوروبية. وأية حركة تحرر وطني كانت قد رفعت شعارات دينية، دفعت بالأوروبيين لإطلاق النعوت عليها مثل "الإرهاب الإسلامي، والتطرف الإسلامي". وهذا بدوره أدى الى أن ينبت حول الإسلام الكثير من التيارات الراديكالية. كما في الإسلام نفسه، كذلك في الديانات العالمية الأخرى، نشأت تصورات جديدة مختلفة وانتعشت توجهات الرجوع الى الأصول، وهذا ما حدث بالتدريج وانطلاقاً من المسببات الموضوعية والاجتماعية التي أتينا على ذكرها. الأمر الذي أدى الى حدوث التشرذم أو الى ظهور جماعات طائفية متنوعة الألوان والطروحات العسكرية. يبين الباحثون عن حق العناصر الرجعية - المتطرفة التي نشأت حول الإسلام والتي برزت بشكل أساسي في البلدان ذات النمو البطيء في المجالات الاجتماعية والاقتصادية، في البلدان التي دمرتها الحروب أو التي شهدت انقلابات متنوعة. بيد أنه ليس من المبرر القول إن الإسلام يخرج عن الخط العام للتطور الحضاري العام لاتباع الديانات الإبراهيمية. إن أي استنتاج يصل به المرء حول الإسلام له علاقة طبيعية بشكل أو بآخر باليهودية أو بالمسيحية. فالحديث يجري عن مكانة ودور الدين في العملية الحضارية.
الديانات العالمية متشابهة، لكونها تنطلق من الينبوع الواحد، من الإله الواحد. الجهل التاريخي يفرق المؤمنين ويبعد الناس عن الله. اما الإسلام بروحانيته وثقافته فيغني الحضارة الإنسانية، وهذا ما ينطبق أيضاً على أي دين عالمي آخر. لذلك من الواجب اتباع نفس التعامل معه، علماً أن النظرة الى الناس المسلمين كبشر من فئة ثانية ما زالت تحتل مكانتها في مطلع القرن الواحد والعشرين. يعيش الآن في الولايات المتحدة 6 ملايين مسلم، في فرنسا 5،2 مليون، في ألمانيا 2،2 مليون، في بريطانيا 3،1 مليون، حوالى 500 ألف في بلجيكا. بيد أن الأكثرية الساحقة من المسلمين الذين يعيشون في هذه البلدان هم مهاجرون، أقليات، وهؤلاء لا يتمتعون بالحقوق نفسها التي يتمتع بها الأوروبيون المعاصرون. هنا لا أتطرق الى مستوى حياة الجمهور العريض للناس في الحكومات الإسلامية فلدى الكثير منها نشهد مستوى متدنياً جداً من الحياة، وبالذات البلدان التي تعيش تبعات الاستعمار. زد على ذلك ان السكان المسلمين يعانون مصاعب جدية تنشأ عن ظروف التأقلم والانصهار في المجتمع الغربي، في حين أن الأخير يعتقد بأنه ليس في حاجة للتأقلم مع الإسلام. وبهذا يجد المسلمون انفسهم امام نتيجة مفادها أنهم مواطنون من الفئة الثانية، ليست لديهم الحقوق نفسها المتوافرة لبقية المواطنين في تلك المجتمعات. ومن هذه التربة تنشأ بسهولة التنظيمات الراديكالية المتنوعة. الحصيلة فقط في ألمانيا، تنشط ليس أقل من 14 منظمة متطرفة إسلامية. في أوروبا تستخدم بطرق قاسية جداً اليد العاملة الرخيصة المتوافدة من البلدان الإسلامية. إلى جانب ذلك يجري الكثير من الكلام على أن مصدر النزاعات يرجع السبب الأساسي فيها الى مصاعب النمو الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية والثقافية.
ينبغي لفت النظر الى عدم الخلط بين الحالات المتطرفة التي تنمو في الأطراف المهمشة وبين الجانب المعاصر التنويري في الإسلام. من مصلحة الكثيرين من هؤلاء الحديث عن نمو "العامل الإسلامي". وما يؤسف له ان كلاماً كهذا يجد من يناصره في روسيا المعاصرة، علماً أن روسيا لم تشهد هذه الحال منذ فترة مديدة. على العكس من ذلك ان روسيا، والاتحاد السوفياتي خصوصاً، وجدا في تعاملهما مع الحكومات الإسلامية الاحتياطي الكبير لانتشار مجالات التعاون والتأثير. ويعيش الآن في روسيا حوالى 20 مليون مسلم. وتوجد في روسيا جمهوريات ذات طابع إسلامي غالب. الإسلام والمسيحية عاشا في روسيا مراحل معقدة من التأقلم المتبادل. غير أن بروز وزيادة انتشار النزاعات المحلية والانقسامات في روسيا المعاصرة يهيئان الظروف للصراعات الداخلية بين الطوائف والأديان. في روسيا تنمو النزعة المتطرفة "الإسلامية والأرثوذكسية" وهذا أمر في غاية الخطورة.
من الأهمية الإشارة الى أنه يوجد اتجاهان في الإسلام نفسه: واحد ينظر الى الإسلام كمنظومة اقتصادية وإيديولوجية متكاملة على مستوى القرن السابع في التاريخ الوسيطي للمجتمع ولا يخضع لأي تغيير أو إصلاح، والاتجاه الثاني الذي ينظر الى الإسلام كجزء عضوي من حاضر ومستقبل الكثير من البلدان والشعوب وهو ينمو في إطار التطور العام للحضارات الإنسانية وثقافتها وفلسفاتها.
إنه لمن الإساءة الكبرى في مكان لأية فكرة تأسر نفسها في الماضي، سيما انه لا في حاضر الإسلام ولا في مستقبله نفس الظروف الاجتماعية والفلسفية والثقافية التي كانت متواجدة في القرن السابع.
من مصلحة الكثير من المنظمات المتطرفة ان يستخدم شعارات "الإسلام النقي" و"التقاليد الإسلامية". وهم بهذا يأسرون الإسلام في الماضي ويجعلون منه، ليس أداة للتنوير الروحي والأخلاقي، بل أداة للانغلاق والعنف والعدوان. في الفترة الأخيرة تبرز في روسيا العوامل السلبية المتأتية من الحركات التي تطلق على نفسها "إسلامية".
ان مواقع الفاعليات السياسية والاجتماعية المؤثرة الإسلامية بما في ذلك كل الحكومات الإسلامية ترى أن مستقبل الدول الإسلامية لا يمكن ان يكون مرتبطاً بالإسلام الراديكالي. الراديكالية والعنف تناهضان الجوهر الروحاني للإسلام وكل فضاء معانيه.
فلا يمكن ان تكون هناك لغة مطابقة للعصر في الوقت الذي تنشط الحركات الراديكالية الإسلامية الهادفة لإقامة الدولة الدينية. فمجمل الخطابات الراديكالية تحمل في ثناياها الكثير من الكلام الإيديولوجي والسياسي. ويدخل الله والدين والإسلام في أدق التفاصيل الحياتية والاجتماعية والسياسية. وكل هذا يجري تحت اسم "الطوفان الإسلامي"، "النهضة الإسلامية" غير أن الأرجح في هذا هو التدخل غير الطبيعي للإسلام في الشؤون الاجتماعية والسياسية لحياة الدول هو التسيس والراديكالية الإسلامية بأم عينها. فكما يشير الباحث اللبناني سهيل فرح "عندما يقتحم السياسي الديني" تكون النتيجة "إقامة الجدران العالية بين عالم الإيمان وعالم العلم. وتضيع الصورة الواضحة عن الأساسي والفرعي. ويبتعد المرء عن الرؤية المنسجمة والإنسانية حول هذه الظاهرة أو تلك". من الجلي القول إنه لا يمكن ان يكون الإسلام خارج السياسة. والحديث يدور هنا حول المعايير السياسية والعقلانية للإسلام المنطلقة من اعتبارات ومصالح الحال التاريخية المحددة لتطور المجتمع المحدد للدين دوراً مؤثراً على المجتمع وليس بالضرورة ان يكون ذلك الدور مرتبطاً بالسياسة. الإسلام هو روح وأخلاق وأنماط سلوك وليس فقط وبالضرورة ان يكون سياسة.
في وصية الإمام الخميني تأسيس لعلاقة لا تنفصم بين الدين والسياسة وحاجة لإقامة الحكم الإسلامي وكل هذا كان موجهاً للقضاء على نظام الشاه. مثل تلك الأفكار كانت موجودة عند الديموقراطيين الروس الذين خاضوا معركتهم مع ميخائيل غورباتشوف، أو عند البلاشفة في بداية القرن العشرين. الجميع كان يطمح لإقامة الظروف المتساوية للناس لأولئك الذين يملكون الطاقات الواحدة والعمل على إلغاء الامتيازات للناس الذين لا يستحقون ذلك. ومطالب كهذه حول العدالة والمساواة والحرية لا تروق للبعض.
إن فكرة المساواة الاجتماعية كانت محط أنظار كل خطاب سياسي وإيديولوجي ينشد هذا المثال. بيد أن السؤال الملح كيف ومتى يتم تحقيق المساواة. هي أفكار ليست مرتبطة فقط بالإسلام. استخدمت هذه الأفكار في الكثير من الثورات. والتاريخ العالمي مملوء بالأمثلة بما في ذلك الثورات التي حملت شعارات دينية. في الحصيلة العامة ينبغي تقويم مستوى تطور المجتمع، إمكانات ومعايير تطبق العدالة والمساواة. خارج هذا فإن النداءات الصادرة عن أي مصدر كان عن الماركسيين أو المتطرفين الطائفيين والساعية لإنهاض الناس للكفاح، تكون نتيجتها، الكارثة والبؤس علماً أن رسالة القرآن وجوهره تقترح الخط المتنامي للتطور والداعي الى تحقيق العدالة والمساواة والفضيلة. من الناحية المبدئية: إن في أساس اليهودية والمسيحية والإسلام دعوة الى توحيد الناس من أجل السعي الى الحقيقة، والرغبة في العيش في سلام ووئام بين الإنسان وأخيه الإنسان. بيد أن الواقع يجب ان نأخذه في الاعتبار، فالعلاقة بين الحضارتين الإسلامية والمسيحية لم تكن دائماً على ما يرام وحتى الآن ما زال يخيم على فضائهما الضباب. الى ذلك أن أوروبا والغرب والمسيحية لا تزال حتى الآن تحب الكلام بمباهاة عن تفوق الثقافة الغربية على الشرقية.
ومن جهة المسلمين فإنهم يحبون الكلام بدورهم عن تفوق قيمهم على قيم المجتمع الغربي المعاصر. من هنا نلمس المستوى المتدني من تسامح الجماعات المسيحية والإسلامية حيال بعضها البعض. لذلك تدعو الحاجة من اليونيسكو والمنظمات الدولية الأخرى الى تقديم برامج شاملة وملموسة من أجل حلول لإبعاد النزاعات بين الحضارات والأديان. ولكون الإسلام موجهاً للبحث عن الحقيقة، المعرفة، فليس بإمكانه وقف عجلة الزمن، عليه ان يمضي الى الأمام. فعندما يجري الحديث عن الإسلام ويقصد بذلك البحث عن المعرفة والحقيقة فلا يمكن ان تكون الحقيقة موجودة فقط في الماضي. الإسلام ليس الحفظ المكرر للمعارف القرآنية، إنه المعرفة في الحياة والمجتمع والإنسانية. إن "انبعاث الإسلام" في بلادنا مرتبط بمجموعة من الأسباب. جاء كنتيجة الى حاجة المجتمع الى الأفكار الحرة والديموقراطية والى حرية الخيارات الدينية. غير انه ونظراً لتفاقم الأزمة الاجتماعية والاقتصادية ولتقهقهر القيم الأخلاقية والسياسية، والتي كان للغرب فيها الدور البارز في إدخال فكرة الخطر الإسلامي الى الحاضرة الروسية "الخطر على الديموقراطية هو دين التطرف والتعصب". وهذا ما يبدو وكأن الإسلام يستخدم كوسيلة للحفاظ على الحال المتأزمة للاقتصاد والسياسة والأخلاق، علماً أنه في واقع الحال فإن بإمكانه المساعدة على فتح آفاق واسعة للخروج من الأزمة، وذلك من خلال الاستناد الى فكرته الباحثة دائماً عن الحقيقة والمعرفة. الحال السلبية المعاشة بروسيا والمرتبطة بمثل ظاهرة كهذه يعمل على إبرازها التحضير المتدني للكوادر الإسلامية العاملة في المؤسسات الدينية الروسية. فهؤلاء عادة ما يتعلمون في بلدان اخرى، حيث النظام السياسي فيها مغايراً، عما هو عليه في روسيا، ظروف الحياة مختلفة، الثقافة مغايرة. لذا فمن الواجب الحديث هنا ليس عن الصراع مع الإسلام كدين، بل مع نوع ما من "الإسلام" ينتمي الى منظومة سياسية وثقافية مغايرة.
من الأهمية بمكان تركيز الانتباه على العصرنة الحتمية للإسلام نفسه، مع الحفاظ على أسسه الروحية والأخلاقية. إن محادثاتي المتعددة مع مجموعة من الفاعليات الدينية في مصر وسورية والعربية السعودية ودولة الإمارات كلها شاطرتني هذه الفكرة. يتحدثون عن ضرورة وإمكان عصرنة الإسلام بشكل يتطابق مع متطلبات الحضارة المعاصرة. وعندما يجري الكلام على الصراع بين المسيحيين والمسلمين تتضح الصورة عندما يتبين أن العامل المحرك والمشارك ليس الديانات القديمة بل الفرق الإسلامية هؤلاء بالذات هم الذين يؤججون التنافر بين التصورات الدينية الأصلية وبين الحضارات المعاصرة ليتم إدخال طريقة استيعاب أنماط حياة المجتمع في ميدان الصراعات.
عندما يجري الحديث عن الأصولية في السنوات الأخيرة سرعان ما يقفز الى ذهن البعض "الأصولية الإسلامية" علماً أنه ينبغي الأخذ في الاعتبار أن الأصولية يمكنها ان تظهر في أي ايديولوجية لتتحول الى أداة للتعصب وعدم التسامح.
تحصر الأصولية أفكارها ضمن أطر ضيقة وتقفل فضاء الحوار العقلاني في أي مجال حضاري. فكما يشير فينوغرادوف رئيس تحرير المجلة الموسكوفية "كوتنيت": "لم أرغم نفسي على الانتظار طويلاً. فلذة كبدي، ابنة الدار، أصوليتي "الأرثوذكسية" تلك اليافعة وغير المتسامحة، المولودة بلا انتظار، الفاتحة أمامنا الجانب المشاكس والشديد الهيجان والذي أصبح ما يوازي الإيديولوجية الروحية لسلطة الدولة في البلاد". الأصولية بهذا المعنى يمكن ان تكون يهودية وبروتستانتية وكاثوليكية وإسلامية وأرثوذكسية.
الأساسي هنا هو تماهي القيم الإيديولوجية مع التشكيلات السياسية المغرقة بتطرفها، والذي على أساسه يتحدد المبتغى الرئيسي أي "التوجه نحو الإمساك بالسلطة" بأي ثمن كان. وبهذا السياق نرى أن الاختصاصي الروسي في الإسلاميات مالاشنكا على حق عندما يشير الى أن "التوجهات الأصولية موجودة عند كل الأديان العالمية". وفعلاً فلا يمكن إلصاق صفة الأصولية بإيديولوجية معينة أو بدين معين.
من الأهمية ملاحظة الحال التي ترافق الأصولية الإسلامية، فهي في الواقع موجهة لتأجيج الصراعات والتناقضات بين المسلمين انفسهم. وهي تدمر الإسلام من داخله. وهذه الخصوصية ترافق أية أصولية دينية. ولعل الصورة الأكثر فائدة هي تلك التي تبين دور الأصوليين والمتطرفين المسلمين في توظيف الإسلام لتحقيق مآربهم السياسية.
وقول العالم الروسي سفيستيانوف يستند إلى أساس متين من الحق عندما يفيد أنه "ما من أحد يأتي بالضرر الأكبر على الإسلام والمسلمين اكثر من الإسلام المعاصر المتطرف". وفي معرض تشديد على هذا الكلام ينبغي القول إن ما يسمون بالأصولية والتطرف في داغستان والشيشان جاؤوا بالضرر والإساءة الى الإسلام والمسلمين ما لم يأت به أي عدو للإسلام منذ 1400 عام.
وفي هذا السياق فإنه لمن الأهمية بمكان بالنسبة الى روسيا المسألة المتعلقة بتحديد المعالم الخاصة لشخصيتها التي تضم في ثناياها ألواناً متعددة من الإثنيات والثقافات والطوائف والمسألة المتعلقة أيضاً في توجهاتها الجيو - سياسية. شاخت تلك المداخل غير المطابقة للواقع والتي تسعى للتأكيد ان عنوان الحضارة الغربية هو التقدم، النزعة الإنسانية والحضارية. بينما في الشرق يكمن الركود والخمول. وهذه التوصيفات الأخيرة سرعان ما تطلق على الإسلام. فإذا ما توجهت روسيا نحو الغرب، كما ينصح بذلك هنتنغتون وأنصاره في الرأي، فإنها ستصطدم مع الشرق وبخاصة مع العالم الإسلامي والصين. أما إذا غلب التوجه الروسي نحو الشرق والتعاون مع الصين والحكومات الإسلامية، فإن العلاقة بين روسيا والغرب ستأخذ طابع التنافر والعدوان. هذه معضلة روسية تاريخية عمرها آلاف السنين. انطلاقاً من الحفاظ على الذات وعلى الهوية الحضارية فإن التوجه الصحي والناجح لروسيا نحو الغرب، نحو الخيار الليبرالي - الديموقراطي يتطلب كما يبدو لنا توجهات أكثر قوة نحو الشرق.
على روسيا الاتصاف بالحكمة. وهذا يعني ألا تكون متأرجحة بين الشرق والغرب. عليها ان تمتلك خصوصيتها. ليس من الافتخار السير ضمن القاطرة الأوروبية، كما أشار الى ذلك غرتسين. من الضرورة التعلم من أجل استخدام معالم القوة في الغرب والشرق. وفي هذه الحال من الممكن ان يحل "الزمن الخاص" لروسيا. من الزاوية الداخلية للتركيبة الاجتماعية والدينية، وانطلاقاً من لعبة المصالح على الساحة الدولية من الجلي القول إن في مصلحة روسيا تطور العلاقات مع الإسلام الحضاري والشراكة مع العالم الإسلامي، لعله من الاستحالة ان يسكن الشرق فينا ونحن على احتكام مع العالم الإسلامي إذا تم اختيار طريق الظل الغربي الوحيد هذا يرادف الصدام مع الشرق حتى أن مضمون مفهوم "الشرق" و"الغرب" تدعو الحاجة الى تغييره. في ظروف العالم المعاصر في عصر العولمة فإن التقارب بينهما أمر محتوم.
أكرر أن المسيحية والإسلام ظهرا كنتاج ملموس للحضارة الغربية والشرقية. ومتطلبات الحياة تدعو الى ضرورة وحدة الشرق والغرب كحال تعكس جوهر المجتمع الروسي والدولة معاً. هي مسألة تكلم عليها بشكل خاص بيوترستالين عندما لاحظ: "أن النسر الروسي ذا الرأسين هو من التراث البيزنطي. من الطبيعي القول إن النسر ذا الرأس الواحد قوي وجبار، إلا أنه إذا تم انتزاع واحد من رأس نسرنا الروسي وتم توجيهه نحو الشرق، بهذا لا يمكنكم ان تجعلوا منه نسراً ذا رأس واحد، بل تجبروه فقط على أن ينزف دمه". الكلام هنا صحيح وإن كان أخذ طابع الاستعارة.
الحديث يجري هنا عن وحدة العاملين الشرقي والغربي في روسيا نفسها، في جوهرها يكمن البعدان الشرقي والغربي معاً. من هنا وعلى ما أتصور ان في سيادة الفكر الأوراسية في الوعي الوطني الروسي لأمر يدعو الى التفاؤل. في روسيا يوجد الكثير من العلاقات التاريخية والإثنية والروحية المتواصلة مع الثقافات الشرقية والإيديولوجيات الشرقية. الحضارة الروسية قريبة جداً من الحضارة الإسلامية وتجلياتها التاريخية بدت في الكثير من الحقول الثقافية والحضارية الروسية، بدءاً من التتر والمغول وصولاً الى مسلمي روسيا المعاصرين.
يضاف الى ذلك ضرورة الأخذ في الاعتبار تقارب الأرثوذكسية مع الإسلام. فكلاهما يروج للبداية الروحانية في حياة المجتمعات والبشر. في الأرثوذكسية والإسلام بالذات لا تعمم الرؤية المطلقة عن حقوق الفرد، دائماً يجري تأكيد ضرورة الأخذ في الاعتبار مصالح الجماعات والمجموعات.
ويرتدي هذا أهمية خاصة في هذه الفترة بالذات بعد أن تنطحت الولايات المتحدة لتفرض سيطرتها على العالم ذي القطب الواحد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. فهذا التوجه يمكن ان يثير، في الحقيقة لقد أثار، حالاً نزاعية ما زالت حدودها ضيقة الى حد ما. بيد ان هذا التنطح قد ينقلب مع الزمن ضد الولايات المتحدة نفسها. إنه لمن المفروض الاّ يتم السماح للصراع بين الحضارات، والاّ يتم تكسير الحضارة الإنسانية في عصر الذرة. على العكس من ذلك من الضروري الاستخدام الأقصى لإمكان التكامل في عصر العولمة في ظل نمو التواصل المشترك في هذا العالم المعاصر. من الواجب وحدة الحضارات الغربية والشرقية وتفاعل القيم الدينية المطابقة مع الواقع الروسي، وهذا يرتدي أهمية عالمية كبرى من أجل استقرار وأمن وتطور المجتمع البشري والحضارة العالمية. إن التجربة التاريخية لروسيا يتوجب أن توظف بكل أبعادها من أجل النمو المطرد للقيم الروحية والأخلاقية، ومن إجل إبعاد خطر النزاعات ليس عن روسيا فقط بل عن الحضارة الإنسانية المعاصرة. أما رسالة الدين المحددة من الله فهي ممثلة بتقديم هبة الإيمان للناس، الخير والفضيلة: ولعل فضيلة كل مؤمن في هذا الدين أو ذاك تتجسد بمثال واحد: بالتقوى والوداعة وخدمة الله. المهم الحفاظ على بعضنا بعضاً في القضايا الخيرة من اجل خير انفسنا وعائلاتنا وشعوبنا وحكوماتنا. هذه رسالة الإسلام ورسالة كل دين وحضارة في حياة كل مؤمن تقي. وكذلك حياة المجتمع والدولة. الإيمان ليس السياسة، هو الحقل الذي تغتني فيه الروحانيات والأخلاق والحقائق والمعارف.
* كاتب في شؤون الفكر والسياسة، نائب رئيس وزراء روسيا سابقاً، ورئيس اتحاد شعوب روسيا الحالي. والمقال محاضرة ألقاها في مؤتمر "حوار الثقافات" الذي عقد في طرابلس لبنان بدعوة من البيت اللبناني - الروسي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.