انطلاق مهرجان الحنيذ الأول بمحايل عسير الجمعة القادم    «الأونروا» : النهب يفاقم مأساة غزة مع اقتراب شبح المجاعة    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    م. الرميح رئيساً لبلدية الخرج    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    باص الحرفي يحط في جازان ويشعل ليالي الشتاء    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    المنتخب السعودي من دون لاعبو الهلال في بطولة الكونكاكاف    الذهب يتجه نحو أفضل أسبوع في عام مع تصاعد الصراع الروسي الأوكراني    الكشافة تعقد دراسة لمساعدي مفوضي تنمية المراحل    الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    «الأنسنة» في تطوير الرياض رؤية حضارية    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    إطلالة على الزمن القديم    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    صرخة طفلة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    فعل لا رد فعل    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    ترمب المنتصر الكبير    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    فرع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بحائل يفعّل مبادرة "الموظف الصغير" احتفالاً بيوم الطفل العالمي    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    «المسيار» والوجبات السريعة    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثقافة العربية الاسلامية وعلاقتها بالثقافات الاخرى 3 من3

إن العصر الذي نعيش فيه هو عصر الهيمنة الثقافية التي هي جزء من الهيمنة الاقتصادية والسيطرة على رأس المال والأسواق، وعلى بنية مصادر التمويل الدولية. وفي هذا الجو تتعاظم أهمية العلاقات الثقافية الدولية بقدر تعاظم الصراع من حول الاتصالات الثقافية. ويذهب الكاتب الأميركي هربرت شيلر Herbert I. Schiller في كتابه "الاتصال والهيمنة الثقافية" الى أن الامبريالية الثقافية تنمو في نظام عالمي ينطوي على سوق واحدة، ومن الضروري أن يتطور قطاع الاتصالات الثقافية في النظام العالمي بما يتسق مع أهداف النظام العام وغاياته، وبما ييسر تحقيقها. ومن ثم فإن الناتج الإعلامي والثقافي تحدده بقدر كبير، ان لم يكن كلية، ضرورات السوق ذاتها التي تحكم ما ينتجه النظام الشامل من سلع وخدمات. ويخلص الكاتب الى القول: "إن مفهوم الامبريالية الثقافية هي جماع العمليات التي تستخدم لادخال مجتمع ما الى النظام العالمي الحديث، ولاستمالة الطبقة المهيمنة فيه والضغط عليها واجبارها ورشوتها أحياناً كي تشكل المؤسسات الاجتماعية في أنساق مع قيم المركز المهيمن في النظام وبُناه، أو حتى الترويج لها" 1.
وهذا الذي ذهب إليه الكاتب الأميركي يؤكد بصورة قاطعة على أن اتجاهات النظام العالمي الجديد المفروض على المجتمع الدولي، في مجال الثقافة، تسير نحو طمس الهويات الثقافية، ومحو السمات الحضارية للأمم والشعوب. وفي ذلك - وكما يظهر بداهة - خرق سافر لمبادئ القانون الدولي، كما لا نحتاج أن نقول، لأن كل المواثيق والأوفاق والإعلانات الدولية تؤكد على احترام الهويات الثقافية للأمم والشعوب في جميع الأحوال.
وأمام هذا الوضع المتداخل والمعقد، يتعين على الثقافة العربية الاسلامية أن تحدد مواقعها، وأن توفق أوضاعها. وهذا يتطلب الخروج على العالم بمواقف محددة تعبر عن حقائق الأمور في العالم العربي الاسلامي أصدق التعبير من جهة، وتترجم أشواق الأمة وأحلامها وآمالها بكل أمانة، من جهة ثانية. والمسألة هنا ذات بعدين: البعد الثقافي، والبعد المجتمعي السياسي والاقتصادي والاجتماعي، على النحو الذي تتداخل فيه المسؤوليات والمهام التي ينبغي القيام بها للتغير وإعادة البناء.
إن الثقافة انما هي مرآة المجتمع، تعكس صورة الحياة العامة في جميع مرافقها وأحوالها وأوضاعها. ومن الحق والصدق مع النفس أن نقول إن الثقافة العربية الاسلامية، في ظل الظروف الحالية التي يمر بها الوطن العربي والعالم الاسلامي، تستمد ضعفها من ضعف المجتمعات العربية الاسلامية، وتكتسب ملامحها الباهتة - وهذه حقيقة لا مناص لنا من الاعتراف بها - من الحالة العامة التي تسود البلدان العربية الاسلامية. ولذلك فهذه الثقافة غير قادرة على المنافسة في سوق العرض والطلب الدولي، على مستوى الابداع والابتكار، وعلى مستوى التجديد والاجتهاد. ومرد ذلك كله الى ما يطبع الحياة العامة في الوطن العربي والعالم الاسلامي، وفي الغالب الأعم، من ضعف، ومن تفريط، ومن إهمال شديد للأخذ بأسباب التقدم الحقيقي في المجالات كافة.
وما دامت جوانب كثيرة من الثقافة السائدة في المجتمعات العربية الاسلامية اليوم غير منسجمة مع مقومات الأمة وقيمها الأساس، وما دامت لا تعبر عن حقائق الرسالة الحضارية التي تحملها، فإن هذه الثقافة ستظل في وضع غير قابل للمنافسة التي تقتضي التكافؤ في عناصر القوة. وان كان هذا الوضع لا يعني بحال من الأحوال بقاءها جامدة لا تتحرك، وعاجزة لا تشارك في ميدان التنافس الثقافي العالمي.
اننا نعيش عصراً أرادت القوى العظمى فيه أن يكون عصر الصراع في كل مجالات الحياة. ولكننا على رغم ذلك لا نؤمن بالصراع، وانما نؤمن بالتدافع الحضاري. وإذا ووجهنا بالصراع، تصدينا له من منطلق قيمنا ومفاهيمنا، وبدافع الحرص على مصالحنا. ونحن موقنون تمام اليقين أن الصراع الذي يروَّج له اليوم في بعض الدوائر الغربية هو صراع بلا منطق، وأنه صراع القوة مع الضعف، والغنى مع الفقر، تستخدم فيه أدوات ووسائل وامكانات لا يخضع اختيارها الى قيم أخلاقية، وانما يخضع الى قانون الغاب، ان جاز أن يكون للغاب قانون. وهو بذلك صراع محموم يكتسح أمامه كل الحواجز.
ونحن نؤمن أيضاً، إيماناً عميقاً، بأن قوة الثقافة العربية الاسلامية هي في جذورها وأصولها وعناصرها الأساس المكونة لها. وفي الوقت نفسه نعتقد بأن هذه القوة المعنوية هي جوهر الحضارة، إذ لا تقوم حضارة إلا على أساس القوة المعنوية الكامنة في النفس الانسانية، والتي يعبر عنها الفكر المبدع القادر على التغيير والبناء وعلى التعمير والنماء. ولا بد أن تقوم علاقة الثقافة العربية الاسلامية بالثقافات الأخرى على هذه القاعدة الصلبة.
ان من الحقائق التي علينا أن نجلوها دائماً، لأنها تتعرض لضروب من التغطية والتعمية والتزييف، أن ضعف الثقافة العربية الاسلامية في هذا العصر لم يصل الى الجذور. ولذلك فإن هذه الثقافة قادرة على العطاء، وتستطيع المواجهة مع الثقافات الأخرى، لا في ساحة النزال والعراك والصراع وانما في ساحة الحوار والتواصل والتدافع. فهي ثقافة تملك مقومات البقاء والتأثير والنفاذ الى كل المواقع، لأنها ثقافة غنية، لا بالإرث الذي تملكه وتختزله، ولكن بالقيم التي تحملها، وبالمبادئ التي تقوم عليها، وبالرسالة التي تنهض بها. ومن ثم فإن الثقافة العربية الاسلامية لا بد وأن تقيم علاقتها مع الثقافات الأخرى المعاصرة على أساس قدر معقول من الندية والتكافؤ، ان لم يكن في الشكل والمظهر، ففي العمق والجوهر.
إن حوار الثقافات لا صراعها هو الموقف الذي ينسجم مع روح هذا العصر الذي قطعت فيه البشرية شأواً بعيداً في تقنين الضوابط التي تحكم علاقات الأفراد والجماعات، وعلاقات الأمم والشعوب بعضها مع بعض. ففي ظل القانون الدولي لا يبقى للصراع بين الثقافات والحضارات مدلول، إلا أن يكون خروجاً على ما اتفقت عليه الارادة الانسانية في هذه المرحلة من التاريخ، وهو ما يتمثل في قواعد القانون الدولي وأحكامه التي من المفترض فيها أنها تنظم العلاقات الدولية على أساس التعاون والتعايش والعمل المشترك من أجل إقرار الأمن والسلم في العالم.
معالم الخريطة الثقافية العالمية
إن المتأمل في تضاريس الخريطة الثقافية في عالم اليوم يتبين له أن معظم الثقافات المعاصرة اما أنها نبعت من التراث اليوناني والروماني، أو امتزجت بتعاليم المسيحية واليهودية المحرّفة التي وصلتها، أو انبثقت عن تراث الشرق القديم القائم على تعاليم البوذية والزرادشتية. وتشترك الثقافة الغربية الليبرالية مع الثقافة الغربية والشرقية الماركسية حتى بعد انهيار الماركسية في الاستناد الى التراث اليوناني والروماني. وفي الجملة فإن منظومة الأفكار الثقافية الكبرى التي تسود معظم العالم المعاصر تعود في أعماقها وجذورها الى تراث أثينا وروما القديم. وهو كما نعلم تراث وثني لا يمت الى تعاليم السماء بأدنى صلة.
إن معظم الثقافات السائدة في هذا العصر يعبّر بصورة متعددة عن روح الحضارة الغربية الحديثة التي تتسم بالتركيز الشديد على التكنولوجيا باعتبارها أداة للتحكم، بدلاً من التركيز على التفسير وتوسيع نطاق التفاهم والتواصل بين الناس. ولكل هذا تم تهميش الاتجاهات التأملية والنقدية والجمالية في النفس البشرية. وهذا التركيز الاحادي الذي هو في جوهره سيادة للعقل الأداتي يعني أن الانسان لا يستخدم كل امكاناته الانسانية النقدية والجمالية... الخ في تنظيم المجتمع، ويركز على الترشيد على هدى متطلبات النظم الادارية والاقتصادية والسياسية التي يفترض أنها ستزيد من تحكمه في الواقع. ويؤدي كل هذا بالطبع الى ضمور حياة الانسان، ويصبح الترشيد هو "استعمار عالم الحياة" 2.
وهكذا فإن معظم الثقافات المعاصرة يمتح جميعها من نبع الحضارة الغربية الحديثة التي نحَّت الدينَ من الحياة، وأبعدته عن الفكر والأدب والفن والعمل الثقافي الابداعي على وجه الاجمال. فالحضارة الغربية حضارة تكنولوجية تُعلي من قيم المنفعة والكفاءة والانجاز والتقدم مهما كان الثمن المادي والمعنوي المدفوع فيها، وترى أن البقاء للأصلح والأقوى دائماً، وتهمل كثيراً من القيم التقليدية، مثل البر بالضعفاء، والشهامة، والتقوى، ومساعدة الآخرين 3، أي أنها حضارة لا تعرف الرحمة تنتج ثقافات لا ترحم.
وفي خضم هذه الأمواج المتلاطمة من الثقافات تكتسب الثقافة العربية الاسلامية طابعاً بالغ التميز، لأنها، ومهما يكن من أمرها، تستند الى النبوّة ورسالة السماء ودعوة الخير ونداء الفطرة الانسانية السوية. ولكن الثقافة العربية الاسلامية مع ذلك كله لم تبرأ من التأثر بثقافات العصر، وقد يبلغ هذا التأثر أحياناً حداً يتفاوت بعداً وقرباً من الجذور والأصول. ولكن في معظم الأحوال، يفقد هذا التأثر في جانبه السلبي الثقافة العربية الاسلامية قدراً من خصائص هويتها.
حوار الثقافة العربية الاسلامية
مع الثقافات الأخرى
وفي ظل غبار هذا المعترك الثقافي الذي يفرض الصراع فرضاً، والذي يقهر في أعماق الانسان إرادة الخير والمحبة والجمال، تتجلي ضرورة تعزيز علاقات الحوار والتواصل بين الثقافات والحضارات والأديان السماوية، حفاظاً على البقاء والتعايش بين شعوب العالم. ففي الوقت الذي تهيمن ثقافة السوق والسلع والاستهلاك المادي، يتوجب على المجتمع الدولي أن يتحرر من قيود ما عرف بالامبريالية الثقافية التي يفرضها النظام العالمي الجديد بقيادة محور قوة واحدة يقول ادوارد سعيد: "يتوجب أن لا تغيب عن بصرنا الحقيقة الساطعة بأن الولايات المتحدة تحكم رباطاً متيناً حول العالم، وأن المسألة لا تعود الى ريغان أو كلينتون اليوم ونفر من شاكلة كيركباترك فقط، بل تعتمد كثيراً على الخطاب الثقافي وعلى صناعة المعرفة وانتاج النصوص وتسويقها. انها باختصار لا تعتمد على "الثقافة" كميدان أنثروبولوجي عام يناقش ويحلل روتينياً في دراسات ثقافية، بل على ثقافتنا نحن بوجه الحصر" 4.
ولكننا على رغم ذلك كله يمكن أن نستخلص من التجارب المريرة التي عاشتها البشرية أن العلاقة المتحضرة التي ينبغي أن تسود بين الثقافات المعاصرة، هي علاقة الحوار بكل الدلالات التي ينطوي عليها. والحوار هو نقيض الصراع، لأن العلاقة الأولى تهدف الى فهم الجانب الآخر، والتفاهم معه على أسس ثقافية أخلاقية منطقية، أما العلاقة الثانية فهي تتغيَّا الاقتحام والاكتساح والغزو والحاق الهزيمة بالجانب الآخر للهيمنة عليه.
إن الحوار بين الثقافات لا تكتمل عناصره إلا اذا توافرت له شروط التكافؤ والندية والإرادة المشتركة والاحترام المتبادل. فالحوار على أي مستوى وحول أي موضوع كان لا يكون من طرف واحد، وانما الحوار يتم بين طرفين يملك كلاهما إرادة الحوار، وإلا كان فرضاً للهيمنة وممارسة للسيطرة التي هي المدخل الى الغزو الثقافي.
ولقد راج في الآونة الأخيرة القول بأن الغزو الثقافي وهم من الأوهام. ونعتقد بأن هذا الزعم جاء رد فعل على الغلو في افتراض الغزو الثقافي والمبالغة في الحديث عن محاذيره ومخاطره.
والحقيقة التي نستخلصها من تحليلنا لطبيعة العلاقات التي تسود الأمم والشعوب والثقافات والحضارات في هذا العصر، وفي العصور السابقة، تؤكد لنا ان الغزو الثقافي، بشقيه الايجابي والسلبي، هو مظهر من مظاهر هذه العلاقات لا سبيل الى إنكاره.
ولكن دعونا نمعن النظر في دلالات هذا المصطلح الغزو الثقافي والفكري. هل الغزو، من حيث هو غزو، فعل شر دائماً؟ أم يكون فعل خير في بعض الأحايين؟ هل الغزو الثقافي والفكري مطبوع بالطابع السلبي على الدوام، أم تراه ينطبع احياناً بالطابع الايجابي؟
إن القضية - في رأينا - نسبية، يمكن ان تفهم من وجوه عدة بحسب زاوية النظر اليها. ألم تمارس الثقافة العربية الاسلامية في أوج تألقها وازدهارها غزواً ثقافياً على العالم القديم؟ ألم يكن هذا الغزو الثقافي العربي الاسلامي غزواً مشروعاً، وإيجابياً يخدم الاهداف الانسانية النبيلة؟
لقد تراجع الغزو الثقافي الايجابي الذي قام به العرب والمسلمون، بعدما ضعفوا وانعزلوا وانكفأوا على ذواتهم، ولم يعد لهم نفوذ من أي نوع كان في واقع الحال، فتعرضوا للغزو الثقافي الغربي الذي اختلف في منطلقاته وأدواته وأهدافه عما كان يتميز به الغزو الثقافي العربي الاسلامي من روح انسانية وسماحة وسعة أفق. إن الثقافة القوية هي التي تغزو الثقافات الضعيفة. والقوة هنا ليست قوة مادية فحسب تستمدها الثقافة من القدرات والامكانات المادية التي تتوافر للمجتمع الذي تمثله، وانما هي، الى ذلك، قوة المصدر والدافع الروحي للثقافة، وقوة الافكار التي تعبر عنها، وقوة الغايات التي تسعى اليها.
وهكذا تبدو لنا قضية الغزو الثقافي في نسبيتها. ان الغزو ليس دائماً شراً، ان من الغزو الثقافي ما فيه الخير، والثقافة العربية الاسلامية في هذا العصر، تواجه بضروب من الغزو، وما ينبغي ان يخيفنا هذا الوضع، أو يبث اليأس في نفوسنا. ولكن يتوجب علينا ان نعي طبيعة العصر، وان نعد العدة للدفاع عن ثقافتنا بالعمل الجاد المتحضر الهادف، وبالقدوة والمثال والأسوة الحسنة من أعمالنا ومواقفنا، وبتغيير ما بأنفسنا، بالعلم والعمل والايمان وبالوعي الحضاري الراقي، وبالانخراط في العصر فاعلين ومؤثرين، متجاوبين ومتحاورين، فبذلك نبث الحياة في الثقافة العربية الاسلامية، ونجدد شبابها، ونوجد لها الوسائل للتنافس في المعترك الثقافي العالمي.
يقول المفكر المسلم رجاء جارودي: "في زماننا الذي يمكن فيه للبشر، من الناحية العملية، ان يقوموا بتدمير البشرية، لم يعد أمامنا من خيار سوى بين "التدمير المتبادل المحقق" وبين "الحوار". ولا يمكن ان يقوم الحوار حقيقة إلا إذا اقتنع الجميع بأن هناك ما يمكن ان يتعلموه من الآخرين" 5.
ان الثقافات المعاصرة محكوم عليها بالحوار، بل ان مستقبل البشرية مرهون بإقامة حوار متحضر وعاقل ورشيد بين الحضارات والأديان. ولذلك فإن العلاقة بين الثقافة العربية والثقافات الأخرى لا بد وان تقوم على أساس متين من الحوار والتعايش الحضاري والثقافي، والإفادة من كل جديد نافع. إن الحوار بين الثقافات اذا قام على هذه الأسس أدى الى ما أصبح يعرف اليوم بالتثاقف، الذي هو في أدق تعريفاته ضرب من التعايش الثقافي الراقي. وهو احدى ثمار الحوار البناء بين البشر لتجنب وقوع الكارثة.
والحوار مسؤولية كل مثقف عاقل في هذا العصر، وفي كل عصر. يقول الكاتب مايكل كاريذرس ان الناس يعيشون بفضل العلاقات والثقافة القائمة بينهم حياة وجدانية وفكرية، والثقافة التي تعنى هنا تماماً العناصر الذهنية في الأساس وأشكال المعارف والقيم التي نعيش بها وعليها أو التي تعلمناها أو ابتدعناها. انما لا نعقلها الا حين يستخدمها الناس، وبالنسبة الى الآخرين. فالثقافات، بعبارة أخرى، تفترض مسبقاً وجود العلاقات 6.
إن التنوع الثقافي في ظل الوحدة الانسانية يحكم على البشر بالتعايش الثقافي، ويعمق مفهوم التثاقف لدرجة أصبح معها عنصراً رئيساً من عناصر المجتمع الدولي المتحضر. وان تنوع الثقافات ضرورة اجتماعية تاريخية وضمان للنهوض، وان ارتقاء حياة الانسانية في شتى المجتمعات، وعلى مدى التاريخ، رهن بتنوع الثقافات وتفاعلها، وبتباين الرؤى، وباختلاف الآراء، وبتوافر آلية اجتماعية تكفل التفاعل الايجابي الحر 7.
وإن الإقرار بالتنوع الثقافي وكفالة حمايته صارا اليوم من مبادئ القانون الدولي، فقد جاء في المادة الأولى من اعلان مبادئ التعاون الثقافي الدولي ان لكل ثقافة كرامة وقيمة يجب احترامهما والمحافظة عليهما، وان من حق كل شعب ومن واجبه ان ينمي ثقافته، وان جميع الثقافات تشكل بما فيها من تنوع خصب، وتأثير متبادل، جزءاً من التراث الذي يشترك في ملكيته البشر جميعاً 8.
فإذا أراد المجتمع الدولي ان يحافظ على شرعية القانون الذي يحكم علاقات الافراد والجماعات والحكومات، فإن ضرورة الحياة فوق هذه الارض، وضرورة العيش في أمن وسلام، تفرضان تعايش الثقافات والحضارات والأديان وإقامة حوار جدي وهادف في ما بينها. ولا مستقبل للبشرية اذا سارت في اتجاه معاكس لذلك كله.
وفي ظل هذا المناخ، تزدهر الثقافات وتتفتح، وتنمو المعارف وتتوسع، وتسود روح الإخاء والتعاون والتعايش.
الهوامش
1 هربرت شيلر، الاتصال والهيمنة الثقافية: Communication and Cultural Domination، ترجمة د. وجيه سمعان عبدالمسيح، ص: 21. سلسلة الألف الكتاب الثاني رقم: 135، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993م.
2 د. عبدالوهاب المسيري، الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ: رؤية حضارية جديدة، ص: 251، دار الشروق، القاهرة، 1997م.
3 المصدر نفسه، ص: 13.
4 ادوارد سعيد، تعقيبات على الاستشراق، ص: 78، ترجمة صبحي حديدي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1996م.
5 رجاء جارودي، أصول الأصوليات والتعصبات السلقية، ص: 73، مكتبة الشروق، القاهرة، 1996م.
6 مايكل كاريذرس، لماذا ينفرد الانسان بالثقافة؟ الثقافات البشرية: نشأتها وتنوعها، ص: 59 ترجمة د. شوقي جلال، سلسلة كتاب عالم المعرفة، يناير 1998م، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت.
7 المصدر نفسه، من مقدمة المترجم بعنوان "تنوع ثقافي ووحدة انسانية"، ص: 7.
8 إعلان مبادئ التعاون الثقافي الدولي، المادة الأولى، أصدره المؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، - بونيسكو - في دورته الرابعة، يوم 4 نوفمبر 1966. وانظر "الهوية والعولمة من منظور حق التنوع الثقافي" للدكتور عبدالعزيز بن عثمان التويجري، نشر المنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة، بالرباط 1997م. و"الهوية والعولمة" نشر أكاديمية المملكة المغربية، الرباط 1997م.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.