يسجل أحد الأناشيد السحرية الطقوسية في تراث الهنود الحمر قصة غزو الرجل الأبيض لما أصبح يعرف باسم أميركا الشمالية ومحاولة إبادة السكان الأصليين والقضاء عليهم تماماً، وكيف تصدى هؤلاء السكان البدائيون بأسلحتهم البسيطة و ممارساتهم السحرية للدفاع عن أرضهم ببسالة وشجاعة أوقعت كثيراً من الرعب والخوف في نفوس الغزاة، الذين عمدوا إلى تحطيم كل شيء وإبادة كل مظاهر الحياة ليس لكي يثبتوا شجاعتهم وتفوقهم ولكن لكي يخفوا خوفهم وارتياعهم من هؤلاء البسطاء الذين يتمسكون بالدفاع عن حقوقهم في الأرض التي يملكونها، من عهود الأسلاف القدماء. وتقول الأنشودة في أحد مقاطعها: إنهم يخافون من أن يخافوا العالم/ إنهم يحطمون كل ما يخافون منه/ إنهم يخافون حتى من أنفسهم/ وسوف يقتلون كل ما يثير الرعب في نفوسهم/ سوف يقتلون كل الحيوانات ويدفعون الناس إلى الجوع/ سوف يخافون من كل ما تقع عليه أبصارهم/ وسوف يخافون من الأفراد العاديين وكل ما يدفع بهم إلى الخوف. فعلى رغم كل ما كان يتسلح به الرجل الأبيض من سلاح متقدم قادر على القتل والإبادة والهدم والإحراق، فإنه كان يخشى الهنود الحمر المسلحين بالرماح والقسي والسهام البدائية، لأنه كان يحارب في غير أرضه ويواجه شعوباً قد تكون متخلفة ولكنها تدافع عن وطنها الذي ارتبطت به منذ عهود موغلة في القدم وثقافتها العريقة التي لم يكن يعرف عنها شيئاً في ذلك الحين. ولم يكن الرجل الأبيض المتعجرف يخشى الأسلحة البدائية بقدر ما كان يخشى الطقوس والممارسات السحرية الغامضة واللغة الغريبة التي لم يكن يعرف منها شيئاً. وكان هذا الخوف وتلك الخشية وراء كل تلك المبالغة في القتل والتدمير حتى يسدل ستاراً على الرعب الذي كان يتملكه من المجهول. وقد كان هذا الرعب من المجهول وراء اختراع الرجل الأبيض - بحسب التعبير المستخدم في تلك الأنشودة - واختراع الشر الذي يملأه ويدفعه إلى تلك الرغبة العارمة في تحطيم وهدم العالم بكل ما فيه. وتترجم هذه الأنشودة الطقوسية التراثية موقف أميركا الحالي من العالم بشكل من الأشكال، وبخاصة من العالم الإسلامي بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر وما نجم عنها من شعور أميركا - حكومة وشعباً - بالمهانة وعدم الأمان والخوف من العالم الخارجي ومما تسميه - ظلماً وتجنياً - بالإرهاب الإسلامي. وقد دفعها هذا المزيج من الشعور بالخوف والمهانة إلى العدوان على أفغانستان بحجة اقتلاع القاعدة من جذورها وعلى العراق بحجة تخليص العالم من شرور استخدام أسلحة الدمار الشامل، وإلى تهديد وإثارة الخوف والرعب بقوتها العسكرية وجهازها الحربي الهائل في نفوس شعوب ما تسميه بالدول المارقة. أي أنها تحاول مقاومة خوفها من تلك الدول بترويع شعوبها وإثارة الفزع في نفوسهم من إمكان استخدام تلك الآلة العسكرية المخيفة ضدهم. وظهر بذلك موقف غريب يحكمه الخوف المتبادل بين قوتين غير متكافئتين في كل شيء تماماً، كما كان عليه الحال في وقت استعمار أميركا بين الرجل الأبيض والهنود الحمر. ولكن إذا كانت هذه الجماعات و الدول المارقة تدرك تماماً مدى قوة أميركا وتحسب لها ألف حساب وتعرف من أين يمكن أن يأتيها الخطر الأميركي وحجم ذلك الخطر فإن أميركا القوية تواجه المجهول فهي لا تعرف بشكل مؤكد نوع أو حجم الخطر الذي قد تتعرض له، ولا من أين يمكن أن يأتيها الخطر. فالإرهاب أشبه شيء بالسحر والشعوذة لدى الهنود الحمر يهاجم عدوه من حيث لا يدري ولا يكاد يترك وراءه أثراً يدل إلى صاحبه. فكل من الطرفين يحاول أن يبث أكبر قدر من الخوف في الطرف الآخر لإلحاق الهزيمة به من ناحية، وتعميق الشعور بالطمأنينة والأمن حتى و لو كان زائفاً في نفسه هو ذاته من الناحية الأخرى. فالخوف المتبادل هو إذاً العامل الحاكم المشترك في موقف العداء المتبادل الحالي بين أميركا والشعوب والجماعات المارقة التي ترفض الانصياع والاستسلام لسياستها. ويذكرني هذا بحديث كنت أجريته أيام التلمذة في بريطانيا مع أحد المبعوثين من الأفريكانرز البيض وهم سلالة الهولنديين الذين استعمروا جنوب أفريقيا وأبادوا أعداداً كبيرة من السكان الأصليين، أو دفعوا بهم إلى الأحراش والمناطق الصحراوية القاحلة. وكان الحديث عن سياسة التمييز العنصري التي تتبعها حكومة البيض هناك والتي كانت تقضي بإبعاد الأهالي السود عن المدن الكبرى والمناطق الحضرية التي يسكنها البيض، وفرض الإقامة الجبرية عليهم في تلك المعازل النائية القاسية، إذ لم يكن يسمح لهم بالاقتراب من مناطق البيض إلا بتصاريح خاصة، وذلك فضلاً عن حرمانهم من حقوقهم المدنية كمواطنين ومعاملتهم بالعنف الذي يصل إلى حد القتل لأتفه الأسباب، أو حتى لمجرد الشك بأنهم قد يضمرون الشر للرجل الأبيض. وذكر لي محدثي الذي أصبح في ما بعد وزيراً للداخلية - وكان اسمه بيتر كورنهوف - أنهم ملتزمون بهذه السياسة للحفاظ على أرواحهم واستمرار وجودهم في البلاد وأنهم على رغم أنهم يملكون كل مقاليد الحكم والسياسة والاقتصاد فإنهم يعيشون في رعب حقيقي من السود، ومن الشر الذي يملأ نفوسهم وقلوبهم السود - بحسب التعبير الذي استخدمه حينذاك - لدرجة أن بيوتهم أصبحت أشبه بالقلاع الحربية من كثرة الأسلحة التي يحتفظون بها لاستخدامها وقت اللزوم. كما أنهم يعلّمون الأطفال من الجنسين طريقة استخدام الأسلحة النارية بكفاية لقتل السود لأقل بادرة عدائية تصدر منهم. وأنهم يفعلون ذلك ليس فقط بقصد الدفاع عن أنفسهم إذا تعرضوا للخطر ولكن أيضاً لكي يزرعوا الخوف والرعب طيلة الوقت في نفوس السود حتى لا يفكروا في المساس بهم - وبحسب تعبيره أيضاً، "لقد وجدنا أن أفضل وسيلة للتغلب على الخوف من السود هو تصدير ذلك الخوف بشكل مكثف إليهم". ويبدو أن هذا هو الوضع السائد في العالم ككل بين الدول القوية والدول المستضعفة، وخصوصاً بين أميركا والعالم العربي/ الإسلامي. فهناك من ناحية الخوف من الهيمنة الأميركية المتمثلة في رغبة أميركا فرض سلطانها بقوتها العسكرية الرهيبة وتقدمها العلمي والتكنولوجي الهائل على العالم الإسلامي الذي تحاول بعض جماعاته وتنظيماته المتطرفة مقاومة هذه الهيمنة، والتغلب على الخوف بالالتجاء إلى العمليات الإرهابية التي تعجز القوة العسكرية المنظمة عن التغلب والقضاء عليها تماماً. فالذي يحكم العلاقة بين الرئيس بوش وتنظيم القاعدة هو الخوف المتبادل وإرادة كل من الطرفين ترويع الآخر في الوقت الذي يخشى بطشه وجبروته. وليس هناك ما هو أشد دلالة على حياة الرعب الذي تعيش فيه أميركا القوية الجبارة بعد أحداث 11 أيلول من رواج تجارة السلاح بين الناس الى درجة دفعت جو لوكارد الأستاذ في جامعة هارفارد إلى أن يتكلم في عدد شباط فبراير 2002 من مجلة موضوعات رديئة Bad Subjects عما يسميه الاستهلاك الوقائي، ويقصد به الإقبال الشديد على شراء كل أنواع الأسلحة للتغلب على الخوف وتوفير الطمأنينة والشعور بالأمن مثلما يشتري الناس الطعام لسد الجوع. فالسلاح أصبح مطلباً عائلياً لا يمكن الاستغناء عنه لأن الخوف أصبح عنصراً أساسياً في حياة الناس اليومية. وقد لا تكون هناك حاجة حقيقية لامتلاك السلاح بهذه الكثرة و هذا التنوع إما لعدم وجود مبرر قوي لذلك وإما لانعدام فرص استخدامه فعلاً. ولكن دوافع الخوف من العدو ومن المجهول دائماً ما تكون أقوى من صوت العقل. وأصبح الخوف من أميركا وقوتها المتزايدة وعدم عقلانيتها في استخدام هذه القوة خوفاً عالمياً يشمل معظم دول العالم التي قد لا ترضى عن سياستها ولا تستجيب لمطالبها، وهذا وضع خطير قد ينتهي باحتراق الجميع. وقد يكون من الخير أن تتذكر أميركا ما قاله لويس برانديز عام 1927: "الذين حققوا استقلال أميركا كانوا يعرفون أن الخوف يولد القهر وأن القهر يولد الكراهية وأن الكراهية تهدد الحكومات المستقرة". فالخوف المتبادل يمكن إذاً أن يكون أساس الخلل. * أنثروبولوجي مصري.