كلما غاب حاكم يقولون ذهب الى التاريخ. تمنيات ومبالغات، التاريخ غدار ومن عادته النسيان. شرط الإقامة المديدة في صفحات ذاكرته توافر القامات والمنعطفات والانقلابات المدوية والحروب الكبرى. رونالد ريغن ذهب مطمئناً. سيكون التاريخ ناقصاً ان حاول السطو على مقعده وإعارته الى رجل آخر. لم يكن هناك ما يوحي ان ذلك الشاب سيترك لاحقاً بصماته على غروب القرن الدامي وبدايات القرن الوافد. لا ثروة. لا عائلة عريقة. لا نتائج مدرسية لافتة. شاب وسيم بابتسامة محببة. معلق رياضي اذاعي. ممثل عادي عرفت هوليوود من هم أكثر جاذبية منه وأشد براعة. لكنها الإرادة ومعها الأقدار. لكنها أميركا والفرص وصناعة الصورة والأبطال. رأى الأميركيون دبابات "الجيش الأحمر" تدخل كابول وحلفاء الكرملين يضرمون النار في الرداء الأميركي. رأوا الخميني يقتلع الشاه، ورأوا الأميركيين يتحولون رهائن في سفارة بلادهم في طهران. تعب الأميركيون من التعثر بأشرطة ووترغيت. تعبوا من عقدة فيتنام. من تدهور في الروح يجعل الأمة القوية حائرة مترددة أسيرة. أرادوا الانتقام فبايعوا رونالد ريغن الحامل مشروع قوة ودفعوا جيمي كارتر الى المهمات الانسانية ومزارع الفستق. رئيس يفتقر الى الثقافة العميقة. يخطئ في اسماء الرؤساء ومواقع الدول. يطلعونه كل صباح على تطورات العالم بحفنة سطور لأنه لا يجيد السباحة في التفاصيل والعبارات المعقدة. لكن الرئيس الذي دخل البيت الأبيض وهو يستعد للسبعينات يملك مفاتيح اخرى. متحدث ماهر. قدرة غير عادية على الاتصال، براعة في مخاطبة الأميركي العادي. قدرة على مخاطبة الروح الأميركية والتحريض على ايقاظ "الحلم الاميركي". رئيس لديه فكرة ما عن اميركا ودورها في العالم. رئيس محارب. لا يحب المناطق الرمادية. العالم فسطاطان. والاتحاد السوفياتي "امبراطورية الشر" لن يرحم قياصرة الكرملين. لن يصافح بريجنيف ولن يمشي في جنازة تشيرنينكو ولن يراقص اندروبوف. اطلق "حرب النجوم" ودفع الاتحاد السوفياتي الى سباق تسلح لا طاقة له على احتماله. كشف ضعف النموذج الآخر وعثراته وضاعف الهوة التكنولوجية. وحين التقى "فتى الكرملين" ميخائيل غورباتشوف كانت الامبراطورية المريضة حائرة: فتح النوافذ خطير وابقاؤها موصدة قاتل. كان جورج بوش الأب حاضراً الى جوار ريغن. لكن في مسيرة الرجل تشم رائحة جورج بوش الإبن. قراءة العالم و"محور الشر" واميركا القوية التي تعتقد او تتوهم انها صاحبة رسالة في تعميم الديموقراطية والحرية. العالم الذي نعيشه اليوم هو العالم الذي صنعه رونالد ريغن بإنجازاته أو ارتكاباته. في عهد ريغن تقاطر "المجاهدون" الى افغانستان وسماهم سيد البيت الأبيض "المقاتلين من أجل الحرية". في تلك الأيام، ولدت قصة اسامة بن لادن الذي تعلم في جلال اباد ان الدول العظمى يمكن استدراجها واثخانها ودفعها الى التقلص والتفكك. وعبر سباق التسلح والحرب في افغانستان واختراق أوروبا الشرقية عبر خاصرتها البولندية الرخوة حسم ريغان الحرب الباردة من دون اشتباك مباشر أو وليمة نووية. وحين غادر في مطلع 1989 لم يكن بقي لجدار برلين غير موعد تدحرج حجارته ولم يكن بقي للاتحاد السوفياتي غير الانحسار والانفجار. ما يحدث اليوم بدأ في أيامه. في عهده اجتاحت اسرائيل بيروت. وفي عهده فجرّ أبو زينب نفسه بمقر المارينز في بيروت 1983 فاتحاً في الشرق الأوسط باب العمليات الانتحارية. في سياسة جورج بوش وشخصيته واسلوبه شيء من رائحة رونالد ريغن. خفض الضرائب وتقليص الرعاية الاجتماعية وقيم المحافظة في الحزب الجمهوري. صنع ريغن انتصاراً اميركياً فاحشاً، ترك العالم بلا صمامات أمان في عهدة قوة عظمى وحيدة. وحين أطلق اسامة بن لادن في 11 ايلول سبتمبر الرصاصة الأولى في الحرب العالمية الثالثة اندفع جورج بوش فيها. ما كان لبوش ان يقتلع النظام العراقي المدرج في "محور الشر" لولا الانتصار المخيف الذي حققه رونالد ريغان حين اندفع لاقتلاع "امبراطورية الشر" ومعها التوازنات وصمامات الأمان. كان رونالد ريغن صانع الانتصارات الكبيرة والباهظة لأميركا والعالم معاً.