رويت عن الرئيس الاميركي رونالد ريغان في التكايا العديد من الحكايا مع الاعتذار من الراسي الطريفة وغير الطريفة لأن مجرد واقع وجوده رئيساً شابه الخيال. وقد شبه احد المعلقين فترة رئاسته بحلم يقظة اميركي طويل. على كل حال، يروى في مثل هذه الحالات الكثير من القصص الخيالية التي تشابه الواقع، لأن الواقع أصلا شابه الخيال كما اسلفنا. ومنها أنه بعد أن عاد من زيارته لموسكو عاجله احد الصحافيين بالسؤال:"ألم تلاحظ يا سيادة الرئيس في هذه الزيارة ان الروس بشر مثلنا يبكون ويضحكون ويفرحون ويحزنون؟"في اشارة خبيثة من الصحافي الى تبسيطية مقولة امبراطورية الشر. فأجابه ريغان فوراً:"صحيح لاحظت ذلك، لا بد أنهم تغيروا". توفي الرئيس الاميركي رونالد ريغان بعد سنوات من الالزهايمر، والغياب عن الواقع. ولكن واشنطن تصرفت كأنه بقي سياسياً فاعلاً حتى مساء وفاته. وكأن خبر وفاته كان صدمة غير متوقعة. ولكن هذا الذهول المصطنع ليس نفاقاً بحد ذاته بل ديكور لهذا النوع من الجنازات في كل مكان. ويكمن النفاق في استغلال وفاة السياسي السابق من سياسيين حاليين لغرض كتابة التاريخ كأنه يقود اليهم شخصياً. هكذا تحول الرئيس البسيط الذي تخيل الواقع خيالاً، والخيال واقعاً، وخلط بين الحرب بين المعسكرين وبين الخير والشر في فيلم رعاة البقر، الذي اعتقد بأنه عندما رأى الروس بشراً انهم تغيروا، الى مدير لحملة جورج بوش الانتخابية وكأنه غادر الالزهايمر الى صناعة كتابة التاريخ خصيصاً لتخليص عجلات حملة بوش الانتخابية من وحل سياسته الخارجية. ولا أكثر إثارة للاشمئزاز المخلوط بالحرج من مظهر النفاق في الحزن المصطنع الذي يستخدم لغرض في نفس السياسي. لم تشهد واشنطن في تاريخها في وداع رئيس سابق عدد الطقوس الذي شهدته في وداع هذا الرئيس السابق. وكأنه تمت مضاعفة عدد الشعائر خصيصاً من اجل زيادة ساعات، بل ايام، الكاميرا والبث التلفزيوني. وبدت نانسي ريغان كأنها تأثرت من طول عشرة الالزهايمر هي الاخرى. ويدعي البعض أنها هكذا بدت دائما، ولا حرج في ذلك. ولا أكثر حرجا من الطقوس المختلطة لعدة ديانات سوية. فقد أخرجت هذه إخراجا مصطنعا مذكرةً بأن الشعائر الدينية هي من صنع البشر. ولا أفهم التسامح في تعددية الشعائر بل خارج الشعائر. فتعددية الديانات في تشييع جثمان رئيس أميركي ليست تسامحا لأنه يقصر الناس على انتماءاتهم الدينية، ولا تفهم التعددية إلا كتعددية دينية. يتبنى الرئيس الاميركي الحالي، ومعه جزء كبير من شخصيات إدارته، هذا الرئيس السابق كمُعلِّم شق طريق المحافظين في الولاياتالمتحدة من حركة هامشية الى مركز السلطة. وهم يعتبرونه اول من تمرد على الوضع القائم status quo وعلى التوازن الدولي منذ اتفاقيات يالطا ومنذ الانفراج الدولي الذي قاده نيكسون بشكل خاص. فهو الذي آمن بسباق التسلح وبالتفوق الاميركي ودفع الاتحاد السوفييتي الى التسلح حتى استغاث الاقتصاد السوفياتي ورفع ايديه مستسلما ثم جاء الانهيار. وهو برأيهم الذي حرر الولاياتالمتحدة من عقدة فيتنام واحتل غرانادا ورفض التسليم بالاحتلال السوفياتي لافغانستان، وصالح الامة مع ذاتها ومع قوتها ومع رسالتها التاريخية المترتبة على هذه القوة. وكل ذلك بعد فترة كارتر التي بدت كأنها فترة تأنيب ضمير بعد فيتنام وفترة إذلال تجلي بأجلى صوره في صورة الرهائن الاميركيين في السفارة الاميركية في طهران، ومع ريغان جاءت فترة ازدهار القوة، رافقتها بإعجاب وإطراء معلمة مدرسة رئيسة حكومة بريطانيا على الجانب الاخر من الاطلسي. على كل حال، كان بالامكان تخيل استمرار الالزهايمر غير ملحوظ في الانتخابات. ولكن بدل بهدلة الالزهايمر جاء وقار النعش الملفوف بالعلم ولم يفوِّت كارل روف الفرصة. ومن هنا الاخراج الذي جعل العاصمة الاميركية تبدو اكثر شغفاً بالطقوس من"اوروبا القديمة"، ولا شك ان الطقوس من"جماليات السياسة" asthetics of politics، وهي تعكس مضمون السياسة، فالشكل هنا هو شكل المضمون. والأيديولوجيا السائدة في واشنطن الواقعة بين البنتاغون والبيت الابيض في هذه الايام اشبه بايديولوجيات اوروبا القديمة منها بالبراغماتية الفلسفية والسياسة التي فاخرت بها واشنطن في الماضي. ولا شك ان ريغان هو حالة يمينية محافظة في السياسة الاميركية ومحطة التقت عندها السطوة الأميركية وزيادة الثقة بالنفس التي رافقت سباق التسلح مع ثورة تكنولوجية هي ثورة الحاسوب والاتصالات. وقد جعلت هذه قوى الانتاج في الاتحاد السوفياتي تسقط سقوطاً مدويا مروعا. ولكن من البساطة نسب ذلك لسياسة التسلح الريغانية، لقد كانت عملية تحول علاقات الانتاج والملكية السائدة في الاتحاد السوفياتي الى عائق امام تطور قوى الانتاج بلغة الماركسية عملية طويلة دوت نتائجها في عصر ريغان. هكذا بدا الخطاب السياسي التبسيطي الذي يفاضل بين الخير والشر ويؤمن ايماناً مطلقاً بقوة السوق الحرة والاستثمار الخاص وبعقم الدولة وبيروقراطيتها وتقسيم العالم الى امبراطورية خير وشر، بدا هذا الخطاب وكأنه صاحب الفضل في سقوط الشيوعية. وهو في الواقع نتاج المرحلة نفسها التي انتصرت فيها علاقات الانتاج الراسمالية ضد رأسمالية الدولة الاحتكارية في الاتحاد السوفياتي في إطار التنافس في الصعيد العالمي. لقد نشأت صورة ريغان في الاعلام بغض النظر عن هذا كله، وقد استثمرها اليمين الاميركي لكي يحول الحداد الى تضامن مع بوش وتشيني ورامسفيلد وزمرتهم في البيت الابيض والبنتاغون كأنهم مجرد استمرار للخط المنتصر عالمياً منذ أن دشن ريغان المرحلة. والحقيقة انه حتى لو صحت صورة ريغان المرسومة في الاعلام فإن المشابهة لا تصح ليس لأن ريغان عبقري وبوش احمق. فمعدل ذكاء أو غباء السياسيين وثقافتهم ليس موضوعاً لا للبحث العلمي ولا لدهشة الاكتشاف. كان ريغان يمينياً بمعنى اليمين الاجتماعي التقليدي، وبمعنى تقليص دور الدولة والاعتماد على دور رأس المال. في حين تعتبر المجموعة حول بوش التي حولت السياسة الخارجية الاميركية الى حقل تجارب الدولةَ اداةَ تغيير لفرض سياسات اليمين في الداخل والخارج بما في ذلك التغيير على الصعيد العالمي وتقليص الحريات وتعزيز خطاب ايديولوجي محدد داخل الولاياتالمتحدة. في بلد يرفض فيه غالبية الناخبين الموقف العلماني الراديكالي لمرشح رئاسة او حاكم او غيره رغم فصل الدين عن الدولة لا بد ان يحترم الرئيس الدين. ولذلك بدا رونالد ريغان كمن يحترم الدين والكنيسة والعائلة رغم كونه مطلقاً لم يهتم باولاده من زوجته الاولى اطلاقاً، ولم يكن ريغان متدينا،ً ولم يتبع سياسات دينية اطلاقاً، بل بالعكس، فقد تم في فترته تخفيف القيود على الاجهاض. كما كان أول رئيس يستقبل زوجا من الجنس نفسه لواطيين في البيت الابيض. اما جورج بوش فهو متدين الى درجة الهوس ويزداد تأثير المتطرفين المتدينين من الكنائس الانجيلية الجديدة على سياسته الداخلية والخارجية، وتقدر نسبتهم ب33 في المئة من ناخبيه. في مرحلة ريغان كان عدد الناخبين المسجلين من الحزب الديموقراطي بالتقريب أكثر ب20في المئة من الناخبين من الحزب الجمهوري، ولم يكن في وسع اي رئيس ان يفوز من دون الحصول على بعض اصوات الديموقراطيين، وكان ريغان مضطراً للحصول على جزء كبير من اصوات المحسوبين على المعسكر الديموقراطي لكي يفوز في الانتخابات. ولذلك فقد اتبع سياسات اعتبرت في اميركا وسطية في تلك المرحلة رغم كل شيء. ولكن جورج بوش يواجه مجتمعاً منقسماً الى نصفين وعليه ان يحافظ على اصوات اليمين الى جانبه وهو يحاول أن يعبئ ويجيش اصوات معسكره. أما في السياسة الخارجية فقد انبرى جهاز الأممالمتحدة وانبرى العديد من العرب لمساعدته على الخروج من ورطته فيما بدا وكأنه تعديل لسياسته. ولكن التعديل الوحيد الذي طرأ في الواقع هو أنه سمح لهم بمساعدته. تشير الابحاث التي لفتت انتباه"التايم"و"الاكونوميست"اخيراً الى حقيقة احصائية، محدودة الضمان طبعا، أن التدين، أو للدقة درجة التدين، هي عامل اساسي في توقع سلوك الناخب الاميركي. وصحيح ان العلمانية السافرة او المتطرفة تعتبر نقيصة لدى المرشح، إلا أن التصويت لا يحدد بموجب انتماء المرشح والناخب الى كنيسة بعينها، وإنما بموجب درجة التدين بغض النظر عن الكنيسة العينية التي ينتمي اليها المرشح. ليست هذه الحقيقة الإحصائية اذا ضد كيري بالضرورة، بل قد تنقذ كيري الذي يتظاهر في هذه الاثناء باحترام الدين. فهو ينتمي الى طائفة"أقلية"هي الكنيسة الكاثوليكية، ولكن درجة التدين هي الأكثر أهمية حسب الدراسات. وغالبية الاميركان"متدينون-لايت"، أو يفضلون"التدين-لايت"وقد يكون هذا لصالح كيري ضد تدين بوش الأيديولوجي الثقيل. والله اعلم. * كاتب عربي