سيظل مؤرخو الحرب الباردة يناقشون سؤالاً جوهرياً عن دور الرئيس الاميركي السابق رونالد ريغان ومسؤوليته عن انتهاء هذه الحرب وبالطريقة التي انتهت بها والانسحاب والتصدع الارادي والداخلي لاحدى قوتيها، ويستمد هذا النقاش مادته من الفلسفة التي جاء بها رونالد ريغان الى الحكم العام 1981، والبرنامج المحافظ الذي خاض به انتخابات الرئاسة وجسد به الموجة المحافظة أو المحافظة الجديدة. new conservatism التي قدمت الاتحاد السوفياتي كقوة تكمن فيها العدوانية وبصورة لا يمكن تغييرها من خلال المفاوضات او الاتفاقيات، وإنما من خلال مواجهته من موقع القوة وضغوط حادة ومتماسكة تجبره على تغيير طبيعته وهويته، بوحي من هذه الفلسفة شهدت ادارة ريغان خصوصاً خلال ولايتها الأولى 1981 - 1984، إحياء لاحلك ايام الحرب الباردة، سواء في خطابها الايديولوجي او في التركيز على البناء العسكري، وانقطاع اي حوار او اتصالات بناءة، وتوقف كل مستويات التفاوض حول الحد من التسلح. فعلى المستوى الايديولوجي، وباقتناع بأن جوهر الصراع مع الاتحاد السوفياتي انما يكمن في هيكل نظامه وتكوين قادته، وبأنه إذا كانت الولاياتالمتحدة تجسد الخير والفضيلة في العالم فإن الاتحاد السوفياتي تجسيد للشر والعبودية، بهذا التصور وصف ريغان في بياناته الاولى الاتحاد السوفياتي بأنه "امبراطورية الشر"، ووصف قيادته بأنهم "قوم لا يتورعون عن الكذب، والخداع والغش في سبيل تحقيق اهدافهم"، وحذر مواطنيه من ان يتجاهلوا حقائق التاريخ والدوافع العدوانية لامبراطورية الشر، أو أن يصفوا سباق التسلح على أنه مجرد سوء فهم، وقد ذهب ريغان في حملته الايديولوجية تلك على الاتحاد السوفياتي وقادته الى الحد الذي وصف فيه بأنه أكثر الرؤساء الاميركيين أيديولوجية. أما على المستوى العسكري، فقد انطلق تفكير ريغان وادارته من تصور أن القوة العسكرية هي الضمان الرئيسي للمكانة الاميركية، وانه إذا ما اريد استعادة وضع اميركا الدولى بعد أن تراجع أمام التوسع السوفياتي فان القوة والبناء العسكري يجب أن يكون لها الأولوية المطلقة، كما انكر هذا التفكير ابتداء اتفاقي الحد من التسلح: SALT1 ، SALT2 اللذين وقعتهما الادارات السابقة واستفاد منها الاتحاد السوفياتي واختفت القدرات العسكرية الاميركية، ولذلك، فانه حتى لو قبلت الادارة الدخول في مفاوضات جديدة أو التوصل الى اتفاقيات للحد من التسلح فلن يكون هذا الا بعد ان تعيد الولاياتالمتحدة بناء قوتها العسكرية لكي تتعارض من مركز القوة وتجبر موسكو على أن تقبل شروطاً أفضل بالنسبة للولايات المتحدة. بهذا التفكر في القوة العسكرية باعتبارها الاداة الرئيسية في بناء المكانة الاميركية في صراعها مع الاتحاد السوفياتي، شرع ريغان في برنامج عسكري سوف يعتبر اكبر ما اقدمت عليه ادارة اميركية في زمن السلم، وهو البرنامج الذي بلغ ذروته في ما عرف بمبادرة الدفاع الاستراتيجي: SDI والتي نقلت صراع التسلح الى مجال جديد هو الفضاء أو ما عرف بMilitarisation of space. ورغم ان ريغان في تقديمه لهذه المبادرة اعتبر ان هدفها هو جعل الاسلحة النووية عقيمة وبالية impotent and obsolete، إلا أن القادة السوفيات رأوا فيها قلباً وتغييراً للمعادلة الاستراتيجية بين القوتين بحصول الولاياتالمتحدة على ميزة الضربة الاولى First strike ونفى احد الاسس التي تقوم عليها المعادلة الاستراتيجية وهو الأمن المتساوي Equal security وبعبارة اخرى ازالة الاساس الذي يعطي الاتحاد السوفياتي وضع القوة الاعظم Super power، ودفعه إذا ما أراد ان يجاري هذا المستوى من التنافس في الفضاء الى انفاق عسكري يساهم في مزيد من الانهاك الاقتصادي. الى جانب هذه المواقف المتشددة التي تبنتها ادارة ريغان اتجاه الاتحاد السوفياتي على المستويين الايديولوجي والعسكري، اتبعت كذلك سياسة مصممة على التصدي للوجود والتوسع السوفياتي في المناطق الاقليمية، افغانستان الجنوب الافريقي، اميركا الوسطى. وحذر مسؤولوها القادة السوفيات من أن "وقت مغامراتهم التي لا يتحكم فيها شيء في العالم الثالث انتهى". كانت هذه هي السياسات التي تبناها وطبقها رونالد ريغان في تعامله مع الاتحاد السوفياتي على مدى السنوات الاربع الأولى من حكمه والتي اعتبر بعدها أنها حققت اهدافها خصوصاً في اعادة بناء قوة الولاياتالمتحدة العسكرية واستعادة ثقتها بنفسها، بحيث انها اصبحت تقف عالية القامة مرة اخرى: America is tall again وهي السياسات التي ترى فيها مدرسة ريغان أنها كانت القوة الدافعة وراء التحول الذي حدث في العلاقات الاميركية السوفياتية وبخاصة في الفترة من 1984 - 1988، وشهدت نقلة نوعية حولتها بشكل حاسم من المواجهة الى التفاوض والتعاون وأكثر من هذا هي التي قادت الي تحريك عملية التحول السوفياتي والاسراع بما كان منتظرا من وقت طويل من تغير في اجيال القيادة السوفياتية Generantional change واقتناع القادة السوفيات بأن بلادهم اصبحت في حاجة الى نوعية جديدة من القيادة و"التفكير الجديد" وهو ما أتى بغورباتشوف الى الحكم في آذار مارس 1985، واقنعه باعادة النظر في أركان النظام السوفياتي الفلسفية والامنية والاقتصادية وتوجهات سياسته الخارجية، وبلورة هذا في تفكيره الجديد لبلاده وللعالم. وبلور رونالد ريغان تفكير مدرسته التي تدعي مسؤوليتها عن احداث كل هذه التغييرات بقوله في خطبة الوداع "لقد كنا نهدف الى تغيير الامة، وبدلا من ذلك فقد غيرنا العالم". وتفصل مدرسة ريغان دعواها بالقول إن حملته الايديولوجية ضد الاتحاد السوفياتي وقادته انزلت ضربة الموت بالنظام السوفياتي وأن الغرب كسب الحرب الباردة الايديولوجية مؤكداً تفوقه. ووراء هذا التفكير كانت تكمن فلسفة ايديولوجية عميقة للتاريخ وفهم للسياسة باعتبارها حرباً، بين الافكار، والاعتقاد - مثلما اعتقد لينين - ان الافكار اكثر قوة من المدفع. وجعل هذا التفكير أنصار مدرسة ريغان ينتقدون اصحاب المدرسة الواقعية Realpalitik من أمثال ورُ كينان، وليبمان، ومورغانتو وكيسنجر، باعتبار أن أفكارهم تمثل سوء فهم للاتحاد السوفياتي. كما رأوا في برنامج كيسنجر للوفاق بين الشرق والغرب مساومة أخلاقية بما كان يعني نزعاً للسلاح الايديولوجي من جانب واحد. وعلى المستوى العسكري اعتبر اتباع مدرسة ريغان في المواجهة العسكرية ان الإصرار على البناء العسكري خصوصاً برنامج الدفاع الاستراتيجي كان مقدمة ضرورية لما تلا ذلك من سلام، فعندهم لم يكن الاتحاد السوفياتي وقادته يحترمون إلا القوة، وإن إعادة تسليح اميركا كان ضرورة لاقناعهم بأن الغرب لم يكن في مرحلة تدهور أو ضعف، وأنه ما يزال مستعداً لبذل التضحيات المطلوبة لضمان الصمود ضد أي ضغط أو تهديد سوفياتي. ولخصت مدرسة ريغان رأيها في أثر البناء العسكري الاميركي وخصوصاً مبادرة الدفاع الاستراتيجي على التطورات السوفياتية بالقول بأنه وضع الاتحاد السوفياتي وقادته أمام خيارين كلاهما صعب: فإما مجاراة البناء العسكري الاميركي الى حد الافلاس، أو عدم مجاراته وبذلك يفقد إدعاءه الوحيد الذي يجعل منه قوة أعظم وهي القوة العسكرية. بل ذهبت هذه المدرسة الى أن عملية البناء العسكري الاميركي التي تولتها إدارة ريغان كانت هي العامل المساعد الذي أعطى بعداً جديداً للنقاش، الذي كان ظهر في نهاية عهد بريجنيف في المعاهد والمراكز البحثية، بل والمؤسسات العسكرية والعلمية، بأن الاتحاد السوفياتي مهدد بأن يصبح من مناطق العالم الثالث اقتصاديا واجتماعياً، وهو المفهوم الذي جرت مناقشته علناً بعد مجيئ غورباتشوف. غير أن هذه الدعاوى قوبلت بالتشكيك والتفنيد من كثير من الباحثين والمحللين الذين اعتبروا أن القول بأن سياسات ريغان كانت هي السبب في ما حدث، هو قول غير دقيق، سواء في تفسير أحداث الثمانينات أو في الفهم الأعمق للقوى التي أدت الى إنهاء الحرب الباردة. ويستند من يعترضون على تفسيرات مدرسة ريغان الى أنه يلعب على التحولات السياسية والتاريخية الكبرى أن تكون نتاج قوة واحدة حتى لو كانت قوة عظمى، وإنما هي عملية تفاعل عدد من العومل والتطورات التي تحدث عادة على جانبي الصراع وإن كانت بنسب متفاوتة. وعندهم أن الحرب الباردة انتهت أساساً بسبب فشل النظام السوفياتي ذاته وإن كانت العوامل الخارجية أسرعت به وكثفت من أزمته. ويفصلون هذا بالقول إن المشكلة الرئيسية للنظام السوفياتي كانت في فشله في تقديم مستوى مقبول من المعيشة لشعبه، وفي عدم صلاحية وكفاءة النظام الاقتصادي، ولكن العبء العسكري كان عاملاً مساهماً في الفشل الاقتصادي، والى الحد الذي كان فيه الانفاق العسكري السوفياتي استجابة للمستويات الغربية في التسلح، فإن عملية البناء العسكري في الثمانينات كانت كالقشة التي قصمت ظهر البعير. وإذا أخذنا بهذا المعنى فإن السياسة الاميركية في عهد ريغان لم تكن إلا عاملاً مساعداً. ويتفق هنري كيسنجر مع إنكار أن يكون الفضل كله في إنهاء الحرب الباردة والمواجهة مع الاتحاد السوفياتي مقصوراً على إدارة ريغان فيعتبر أن النصر في الحرب الباردة لم يكن بالطبع إنجاز إدارة اميركية واحدة فقد تحقق نتيجة احتشاد وتجمع 40 عاماً من الجهد الاميركي و70 عاماً من جمود الفكر والتطبيق الشيوعي. ونبعت ظاهرة ريغان من التلاقي السعيد الحظ للشخصية والفرصة، وفي رأي كيسنجر أن مزج التشدد والايديولوجي لتجميع الرأي العام الاميركي، بالمرونة الديبلوماسية، والتي لم يكن المحافظون يغفرونها من رئيس آخر، هو بالضبط ما كان مطلوباً في فترة الضعف السوفياتي وظهور شكه في نفسه. أما المؤرخ والديبلوماسي الاميركي والخبير العريق في الشؤون الروسية والسوفياتية جورج كينان فقد عالج إدعاء مدرسة ريغان بقوله "... إن الإدعاء بأن أي حكومة اميركية لديها القدرة والقوة للتأثير بشكل حاسم على التفاعلات الداخلية في بلد كبير آخر هو ببساطة إدعاء طفولي.. إن أي قوة عظمى ليس لديها مثل هذا النفوذ على التطورات الداخلية لقوة أخرى.."، واتساقاً مع موقفه التقليدي الناقد للتركيز الاميركي على القوة العسكرية في التعامل مع الاتحاد السوفياتي، أنكر كينان أن يكون البناء العسكري الاميركي في الثمانينات له تأثير كبير على التغيرات التي حدثت في هذا البلد، بل ربما أدى العكس الى المساهمة في تقوية المتشددين داخل القيادة السوفياتية ومعارضتهم وإعاقتهم للاصلاحات التي كان يحاولها غورباتشوف. وذهب كينان الى أن تطويع الاتحاد السوفياتي، إنما كان في المقام الأول نتيجة قوى تفاعلت داخل المجتمع السوفياتي، وكان أهمها في رأيه فقدان الشعوب السوفياتية للوهم حول قدرة نظام دولتهم على تقديم المزايا الاجتماعية والمادية التي وعد بها، وعدم رضاء الاقليات الاثنية عن خضوعها للأغلبية الروسية، وتزايد وعي تلك الشعوب بالظروف خارج بلادها، وبالفجوة التي تفصلها عن الأمم المتقدمة في الغرب. كل هذه الأوضاع، في رأي كينان، هي التي جعلت القادة السوفيات، ذوي البصيرة يستخلصون أن إصلاحاً جذرياً هو وحده الذي يحول دون تدهور وضع الاتحاد السوفياتي ومكانته. * باحث وسفير مصري سابق