في استقبال موسم الصيف الآتي، يقول الإعلان الإذاعي: عملية السيليكون تلك ناجحة، من هو الطبيب الشاطر الذي أجراها؟ من هو؟ بحماسة من وجد بياض غسيل الجارة أنظف من بياض غسيله الخاص. ويطول الحديث بين نساء الإعلان الإذاعي حول شكل الشفتين الجديد الذي تتمتع به منفذة العملية. كأنهما طبيعيتان. كما أنهما مثيرتان، تحافظان على أناقة في المظهر، أناقة وطزاجة. تتواصل الأوصاف قبل أن تأتي المفاجأة وهي المنتوج المعلن عنه: مرهم جديد قادر على تحويل شفتين ضيقتين غير مثيرتين لتصبحا على هذا الشكل "الرائع". مرهم كأنه العملية. كما أنه صحي جداً. يكاد يكون في استعماله مزيد من الصحة لشفتين طبيعيتين. يكاد يكون المرهم ترياقاً. تكاد الحياة من دون اللجوء إليه إجراماً بحق النفس. في استقبال الصيف الماضي، كانت "الطلّة" هي التي تميّز تلك الفتاة، الطلّة بمعنى اللون الأبيض للبشرة. تميزت بعدما عاشت حياة من دون تميّز. حياة السمراء. وانهارت فتيات الإعلان في مديح لونها، أضف إلى ذلك تدخل الرجل - المستهدف الاول من الحملة اللونية تلك: أعجب بها بعدما كانت تمر من دون أن تلمحها عيناه. حقق المرهم هدفه. حوّلها من عربية إلى أوروبية، بسعر بخس، وباتت "جميلة".. تماماً كفتيات ال "فاشن تي في". في استقبال الصيف الذي سبق والصيف الماضي والصيف الآتي، تستقر إعلانات منتجات خفض الوزن، كأنها لا تحتاج مبرراً. فالصيف آت، كيف تستقبلينه على هذا الشكل؟! والصوت يأتي هنا مستهجناً كأنه في مواجهة مأساة. في مجال خفض الوزن، تكثر المنتجات وتن سحب كثرتها على المساحة التي تحتلها تلك المنتجات إعلانياً وفي الرأس. أحياناً، تصل الإعلانات حد السخرية من إحداهن، فيضحى التوجه إلى شاطئ البحر فعلاً يسر الرشيقة - المستجدة لمجرد قدرتها على مشاركة صديقاتها السخرية من ذوات الوزن الزائد. وفي النهاية، تقطف إعجاب الرجل الذي عجزت طويلاً عن لفت نظره. كالعادة. إضافة إلى تمكنها أخيراً من العيش برفقة نفسها بسلام. تأتي تلك المؤشرات الإذاعية لتعكس ولتكرّس، في آن، حالاً شعبية شبابية لبنانية تقول بالرأي ذاته. الشكل يسبق المضمون في الحكم على الوافد الجديد. مراهق في عز مراهقته يعبر الشارع بملابس رياضية وبجسد ضخم، يبدو الحياء على وجهه، كمن يهمل نفسه الآن لأن ممارسة الرياضة ستمكنه من الجسد الذي يؤمن له تذكرة ثقة بالنفس في رحلة الحياة. تمر به فتاة رشيقة حد اختناق البنطلون في محاولته لإظهار أكثر ما يمكن إظهاره من رشاقتها. تبدو مسرعة ومهمومة. كما أنها تواصل حديثاً يبدو شيقاً على الهاتف الخليوي. كما أن الشارع يزدحم بالسيارات التي تسير مع السير وبعكسه وبكثرة وبصراخ. وهنا، يستكين مستوعب للزبالة يحد من قدرتها على الحركة، إضافة إلى بعض القرف من محتوى المستوعب يحكمها. وعلى رغم الزحمة الحياتية التي تعاني منها في هذه اللحظات، لم تهمل النظرة القاسية المشفقة. ألقت بنظرة إشفاق يبدو فيها الخجل من النظر باتجاه المراهق الضخم والعرق يسيل من جبهته. ألقتها وكأن ليس في وسعها إلا أن تلقيها بمواجهة ظاهرة يجب أن تلفت النظر ويجب أن تواجه بالإشفاق. أما هو فلم تغب تلك النظرة عنه. يهرب من تلك النظرة التي تحيط به ولن يعتادها. يحتضن زجاجة المياه بين يديه، يوجّه عينيه نحو الأرض، يسرع الخطى. تكمل حديثها وسيرها وحياتها. مشهد سريع من مشاهد حياة لا يمكن لها أن تكون عادية. فمن العادي أن تشهد سنوات المراهقة تحولات جسدية، من غير الطبيعي أن تواجه تلك التحولات بالقسوة، من غير الطبيعي ألا يحق له أن يكون كما هو في هذه الأثناء. تغني تلك الفتاة في برنامج الهواة المتلفز. صوتها يكاد يفيض عن مساحة الأغنية وذلك أمر نادر. لكن، قبل الإعجاب بصوتها، ينهار الشباب، صبياناً وبنات، باتجاه الهزء من شكلها. ليست "ناصحة" لكنها لا تشبه كايت موس.. تصبح مستباحة لنقدهم، تصبح دوناً عن مستواهم لمجرد أنهم قادرون على الحكم على شكلها. لا مجال للحديث عن صوتها في برنامج يتابعونه وهو مخصص لأصحاب الأصوات. شاشة التلفزيون تكرّس يومياً كمساحة لممارسة الفوقية الشكلية. المتفرجون لا يتمتعون بالمقاييس الأنسب، لكنهم ملوك أمام شاشة التلفزيون. تلك مساحة غير تفاعلية، يحكمون على روادها بما يحكم المجتمع عليهم به. ينتقمون فينسون التمتع بصوتها. انتقام مزدوج. أما الأسلوب الوحيد للخلاص من ديكتاتورية الشكل فيبقى حكراً على المال. إن بدت عليك النعمة في شكل مبالغ به، وعلى شكل النعمة أن يكون مبالغاً به، تضحى الغيرة سيدة الموقف: كيف يمكن لتلك "البقرة" أن تكون أكثر قدرة على الإغراء مني لمجرد أنها غنية؟! و"البقرة" كلمة تختصر المتمتعة بوزن زائد، تماماً ك"الدب" أو "الخنزير" للرجل. في المقابل، يتمكن الغني من تبني شخصية شديدة الفوقية بواسطة ماله، فيتصرف كما لو أنه قادر على إرغام أجمل "جسم" على الإعجاب به، والحال هنا تطبق على الرجال والنساء على حد سواء. فيضحى نهار الأيام ولياليها منافسة على إيقاعين: المال والجمال، زينتا الحياة الدنيا. تتخلل تلك المنافسة أسلحة من نوع: السخرية، الحسد، التعليق القاسي، الإذلال بنظرة... في كنف تلك المشاعر "الصحيّة"، تنمو حياة شباب في لبنان، تماماً كما في وطنه العربي. فيكون برنامج ملكات الجمال حيث يتم بث حيواتهن بشكل متواصل، مجالاً لتبادل الرسائل الإلكترونية، على الشاشة، حول: الكويتية أجمل من التونسية، أو، الخليجية اجمل من اللبنانية... شاب خليجي يتغزل في جمال اللبنانيات، فيجيبه آخر متحمس لوطنيته بأن بنات البلد هن الاجمل... في هذه الأثناء، تحتل اللبنانيات الشاشة، يتبادلن أحاديث غريبة المضمون، يلمس المتفرج قدراته العقلية تتناقص شيئاً فشيئاً بينما يتابع. يتحدثن إما نميمة في ما بينهن، إما عن مواصفات الجمال، أو عن آراء في الحياة يكاد أي امرئ عبر تلك الحياة أن يفغر فاه تجاهها فيعجز عن استخدام الريموت كونترول. كما لو أنه إدمان لاكتشاف المستوى الذي يمكن لحديث تلك الفتيات أن ينحدر باتجاهه. وما من قعر يحد هذا الانحدار. لكنه إدمان. وهو، منذ البدء، إدمان في البحث عن الجميلات. فإن كانت شاشة التلفزيون هي الأكثر قدرة على "لمّ شمل" أهالي الوطن العربي، فهي بالتأكيد تمكنت من ترسيخ مفهوم موحد للجمال وحددت مساحته العظمى في الحكم على كل "متسلق" لتلك الشاشة. فقد انتقلت عمليات التجميل، بغض النظر عن الرأي فيها أو الحكم عليها، من فعل خاص، إلى حديث متلفز. الفنانون وعمليات تجميلهم: ذلك سؤال يكاد يطرح على كل نجم مستجد في الساحة الفنية. حتى بات السؤال مملاً وغير مثير للاهتمام. وانتقلت عمليات التجميل من بحث مثير عن عددها في وجه تلك الفنانة، لتصبح إعلاناً إذاعياً يروج لبدائلها، بصفتها موضة قديمة أو حتى ضرورة مرتفعة الثمن يمكن الاستعاضة عنها ب"مرهم". المال والجمال. منذ بدء القصة المجتمعية والفرد مهموم بالبحث عنهما. ليسا عنصرين مستجدين. وسلطتهما تتطور لتطال "المجالات" الأخرى. ليسا من أساسيات حياة الليل، مثلاً، فحسب. فإن ظهرت، لمرة، عالمة اجتماع ذات قدرة تحليلية لافتة على شاشة "الجزيرة"، فلن يكون الاستماع إليها مغرياً إلا إن تمكنت من المظهر. قد يكون السبب في ذلك هو غياب المضمون الذي يسيطر على الحياة العامة ويروّج له في شكل منظم. غياب المضمون لن يترك أمام المتفرج إلا البحث في الشكل. والسهولة في الحكم على الشكل تستقر بسرعة كبديل عن تعب البحث في المضمون. الحلقة مفرغة. أما الشفتان فغضّتان، مثيرتان، تسهل متابعتهما. تحلو متابعتهما. وفي كل الاحوال، لا يحق للمواطن أن يحكم على أكثر منهما.