يتساءل بعض من شرائح النخبة التركية عن أسباب حصول المواجهة بين حكومة "العدالة والتنمية" الإسلامية والجيش، حامي العلمانية، في هذه المرحلة الدقيقة التي يخوض فيها رجب طيب أردوغان رئيس وزراء تركيا حواراً صعباً مع الاتحاد الأوروبي، فهل صحيح أن أسباب المواجهة جاءت على خلفية مشروع قانون المجلس الأعلى للتعليم الذي أعلنت الحكومة التركية عزمها على عرضه على البرلمان التركي للمناقشة والتصويت عليه بدعوى أنه لا يتفق مع مبادئ العلمانية كما أعلنت ذلك رئاسة الأركان التركية؟ وبحسب صحيفة "حريت" فإن التوتر حول القانون قضى على المناخ الايجابي الذي وفرته في الخارج اصلاحات تركيا للانضمام الى الاتحاد الأوروبي، ووفق "دوغو أرغيل" المحلل في جامعة أنقرة فإن ما يحصل الآن هو "صدام عقائدي واستعراض للقوة في توقيت خاطئ لا يمكن أن يكون فيه منتصرون". ولكنه اعتبر ان "أردوغان وحكومته براغماتيون أيضاً وأتوقع أن يتوصلوا الى حل وسط"، مثبتاً بذلك صحة مقولة الروائي التركي الشهير أورهان باموق الذي قال: "دعونا ننتظر ولو لفترة قليلة حتى تتضح الرؤية". وبالفعل كانت الرؤية قد اتضحت تدريجاً منذ اعلان نتائج الانتخابات النيابية التي أجريت في 3 تشرين الثاني نوفمبر من العام 2002، ولعل العبارة التي قالها عبدالله غل وهو يستهل مرحلة جديدة من الحياة السياسية التركية: "لسنا حزباً دينياً، لكننا نريد أن نثبت ان المجتمع الإسلامي في تركيا يمكن أن يكون ديموقراطياً وشفافاً متوافقاً مع العصر الحديث"، وهذا يعني ان "العدالة"، بصفته الحزب الحاكم، عليه أن يكون واحداً من حراس العلمانية وليس ضدها، وهو ما يعيد طرح السؤال عن أسباب تخوّف العلمانيون والجيش من مشروع القانون الذي يتيح لخريجي ثانويات الأئمة والخطباء الالتحاق بالجامعات التركية، بعد أن كانت الحكومات السابقة بقيادة بولند أجاويد قد فرضت العام 1999 شروطاً على خريجي هذه الثانويات، ولذا يتوقع المراقبون أن يحظر الرئيس التركي العلماني أحمد نجدت سيزر هذا القانون، ولكن إذا اعادته الحكومة من دون تعديل مرة أخرى فلن يكون أمام سيزر سوى الموافقة عليه واللجوء الى المحكمة الدستورية. وإذا كان الجيش الذي ينصب نفسه حارساً لمبادئ العلمانية في تركيا يخشى من أن خطط الحكومة ستؤدي لتعزيز الإسلام في النظام التعليمي للدولة، إلا أن أحداً يجب ألا يتوقع تكرار ما يسمى "انقلاب ما بعد الحداثة" الذي حدث في العام 1997 عندما أجبر الجيش بتأييد كبير من أجهزة السلطة حكومة نجم الدين اربكان الإسلامية على الخروج من السلطة بسبب التهديد المتصور أنها تشكله على النظام العلماني. ويعرف كل من أردوغان وهيئة الأركان العامة للجيش التركي أن سيناريو متطرفاً كهذا سيحطم آمال تركيا في إقناع الاتحاد الأوروبي في كانون الأول ديسمبر المقبل ببدء محادثات تأجلت كثيراً لانضمامه اليه. وكان البرلمان التركي قد أقر في شكل نهائي منذ فترة قصيرة مجموعة تعديلات قانونية ودستورية تقدمت بها حكومة أردوغان، في اطار تلبيتها لمطالب الاتحاد الأوروبي بإجراء اصلاحات تمكن أنقرة من الانضمام للاتحاد. وتقضي التعديلات الجديدة التي صوت البرلمان عليها يوم السابع من أيار مايو بإلغاء محاكم أمن الدولة، وعقوبة الإعدام نهائياً، وعلى المساواة بين المرأة والرجل، وهي التي أثارت نقاشاً وجدلاً بين الحكومة والحزب الجمهوري المعارض. ومن الطبيعي القول ان تركيا دولة وأمة في المقام الأول قبل أن تدين بعقيدة، ومصالحها القومية هي التي تقرر مواقفها وليس شيئاً آخر بما في ذلك عقيدة شعبها أو نخبتها الحاكمة. قد يكون للإسلام كعقيدة واختبار ثقافي وقيمي دور في المجال السياسي التركي وفي صراع المصالح الداخلية. لكنه قطعاً غير ذي علاقة بسياسة تركيا الخارجية المحكومة بالمصالح القومية للأمة التركية بوصفها مصالح مشتركة بين جميع قطاعاتها. من ليس يعي هذا الشأن لن يعير شيئاً في السياسة الخارجية التي لا دين لها سوى مصالح المجتمع والأمة. * كاتب سوري.