عند نهاية السبعينات من القرن الماضي، كان في إمكان قارئ اي مجلة سينمائية او غير سينمائية، فرنسية او انكليزية او غيرها، مطالعة تحقيقات مكتوبة من بغداد بأقلام موفدين كانوا يرسلون خصيصاً لتلك الغاية ودائماً تحت عنوان هو نفسه تقريباً: "هوليوود على ضفاف دجلة والفرات". في اكثر الأحيان لم تكن تلك المقالات دعائية ممولة من العراق. كان معظمها صادقاً ويسجل ما كان يلاحظه الموفدون بأنفسهم من ازدهار لحركة سينمائية وليدة يتطلع الى بنائها سينمائيون، عراقيون او عرب آخرون، في وقت كانت فيه السينما المصرية تعاني ما تعاني، وتُقاطَع في عدد من البلدان العربية لسبب بدء اتصالات القاهرة بتل ابيب. كان الحلم السينمائي العراقي يقوم على وراثة السينما المصرية. كان حلماً مستحيلاً بالطبع، لكن السلطات المسؤولة آمنت به وراحت تنفق عليه، وتستضيف السينمائيين والصحافيين من شتى انحاء العالم، ومن مصر على وجه الخصوص. في ذلك الحين تكاثرت المهرجانات والمشاريع وصارت شوارع بغداد وفنادقها ومقاهيها اماكن يلتقي فيها المرء إذا اراد، فانيسا ريدغريف او يوسف شاهين، سعاد حسني او صلاح ابو سيف، توفيق صالح او عزت العلايلي، ناهيك بعشرات العراقيين الذين راحوا يشمّرون عن أكمامهم. بالنسبة الى هؤلاء العراقيين كان ثمة حلم سينمائي حقيقي ولكن بالنسبة الى السلطة السياسية والحزبية التي كان بدأ يتزعمها تلميذ نجيب لستالين وهتلر في آن معاً بحسب رأي بعض المؤرخين، كان يمكن لتلك السينما ان تشكل مدماكاً حقيقياً في صرح الدعاية الإعلامية للنظام. وهكذا تمخض الجبل الذي كان يسمى "هوليوود دجلة والفرات" عن اشياء هلامية حملت اسماء وعناوين معظمها يشكل اليوم إرثاً سينمائياً، لكن هذا الإرث يشير بوضوح الى الكيفية التي تحول بها الحلم الى كابوس... فمن "القادسية" لصلاح ابو سيف الذي استخدم التاريخ ليبرر حرب العراق الصدامية على ايران الى "الأيام الطويلة" لتوفيق صالح الذي يروي فصلاً من حياة صدام حسين نفسه ومن افلام راحت تحكي مغامرات "البطل الآتي من صفوف الشعب" الى شرائط ديماغوجية خالصة، راح الإنتاج يتكاثر وبمقدار تكاثره راح يزداد غوصه في اللافاعلية. ومع هذا ثمة تاريخ حقيقي لسينما عراقية طموحة كانت قد بدأت تظهر منذ الأربعينات وواصلت طريقها، على رغم اجهاض الحلم، حتى الثمانينات منتجة اعمالاً لا يخفى تميزها بحسب رأي النقاد دائماً. العراق في باريس والحال ان التظاهرة التي ستقام في العاصمة الفرنسية خلال الأسابيع المقبلة للسينما العراقية ضمن إطار مهرجان السينما العربية الذي يقيمه معهد العالم العربي في باريس ستعطي فكرة جيدة عن ذلك التاريخ. ومن دون توقف خاص عند ما اصطلح على اعتباره مجرد "بروباغندا" سياسية. فالتظاهرة تعود الى البدايات لتقدم "عليا وعصام" 1948 الذي يعتبر الفيلم العراقي الأول مع ان طوله لا يصل الى نصف ساعة وكذلك "الحارس" 1968 الذي هو حقاً الفيلم العراقي الطويل الروائي الأول. ويصور فيه المخرج خليل شوقي قصة غرام من طرف واحد يقع فيها حارس ليلي لأحد الأحياء الشعبية بأرملة تعيش في الحي نفسه، واصلة الى "المنعطف" لجعفر علي 1975، وهو فيلم يعكس حقبة النظام الملكي وتناقضات المفكرين بتسليطه الضوء على "مشكلات" تلك المرحلة، من "اغتصاب وانشقاق وخبث"، كل ذلك بالتوازي مع "صعود الأفكار الثورية". وبذلك تدور هذه الأحداث في جو الانتداب الإنكليزي وتأثيره في حياة الشعب وما أسفر عنه من استعمال اجنبي للبترول... ويبقى "المنعطف" هو التغيير الذي يطمح إليه الجميع والذي يتجسد في ثورة 1958. ومن الأفلام المعروضة في التظاهرة نفسها "الأهوار" لقاسم حول 1976 و"النهر" لفيصل الياسري الذي حقق معظم اعماله خارج العراق من دون ان يكون منفياً حقيقياً، كما انه سيصبح لاحقاً من رواد العمل التلفزيوني العربي في شكل عام. "النهر" فيلم تدور احداثه في جنوبالعراق بعد نكسة 1967، عاكساً الصراع بين صيادي السمك والتجار الذين يعملون على شراء السمك بأبخس الأسعار ليعودوا ويبيعونه في ما بعد بأسعار مرتفعة. هذه الافلام كلها روائية أو روائية - وثائقية يغلب عليها طابع الحكاية التاريخية. ويمكن اليوم التساؤل جدياً عن تلك العلاقة المدهشة التي بناها بعض هذه الافلام مع الأدب العراقي لكن هذا ليس موضوعنا هنا. تجذر وطموح في هذه المختارات يمكن للمرء ان يكتشف أعمالاً شديدة الطموح كما يمكنه ان يكتشف اعمالاً متجذرة في الواقع العراقي - ومعظم هذه الاخيرة على أي حال تضم أفلاماً حققت قبل اهتمام السلطة بالسينما وخارج ذلك الاهتمام - ويمكنه ان يشاهد ما نسميه "صورة عراقية" ليكتشف ان هذه الصورة كان يمكنها ان تكون أغنى وأكثر أصالة لو لم يجهض الحلم، ولو لم تُحول السينما نفسها الى أداة لتمجيد "الزعيم" وحزبه. من أبرز السينمائيين العراقيين المخضرمين ذاك الذي يكاد يكون وحده، منذ بداية السبعينات وريث تلك "النتف" التي شكلت بدايات السينما العراقية، من "عليا وعصام" لأندريه شاتان 1948 الى "الحارس" 1968 لخليل شوقي المعروضين في التظاهرة وصولاً الى أفلام "رواد منسيين" مثل كاميران حسني وحكمت لبيب... محمد شكري جميل حقق، على الأقل ثلاثة افلام متميزة تقدم تظاهرة المعهد، أشهرها وهو "الظامئون" الذي يعود الى العام 1972. ويروي الفيلم علاقة الانسان بالارض والعمل مصوراً حياة عائلة من الريف ورثت الارض عن اسلافها لتزرعها وتعيش من خيراتها منتظرة المطر لحصد الثمار. لكن على خلاف الامنيات عمّ الجفاف أينما كان مهدداً الغلال خصوصاً مع استكانة الكل للأمر الواقع، ما عدا راضي الذي لم يقف ساكناً كالآخرين إنما راح يردد بصوت عال: "اذا لم تأتنا الأمطار فعلينا ايجادها"، مشيراً الى النبش في باطن الارض وهكذا كان. ولاحقاً حقق محمد شكري جميل "الأسوار" 1978 ثم "المسألة الكبرى" 1983. على درب المنفى معاصر لجميل هو فيصل الياسري الذي يعرض له فيلم "النهر". وكذلك هناك قاسم حول الذي حقق "بيوت في ذلك الزقاق" و"الاهوار" 1976. وهو اليوم منصرف الى تحقيق فيلم روائي جديد، داخل العراق، بعد منفى طويل. كل تلك الافلام الروائية كانت حققت حتى بداية الثمانينات. أما بعد ذلك، فقد حدث ان توجه عدد كبير من السينمائيين العراقيين الى دروب المنفى. وهذه السمة الثانية من سمات السينما العراقية، تفرد لها تظاهرة المعهد عروضاً تحمل تواقيع سمير في "انس بغداد" وميسون باجاجي في "المرأة العربية... صوت من المنفى"، وقتيبة الجنابي في "حياة ساكنة" وسمير زيدان في "الخرساء" وعدي رشيد في "مدخل الى نصب الحرية" ومحمد توفيق في "شاعر القصبة" وجانو روجبياني في "جيان" وسعد سلمان في "بغداد... حاضرة / غائبة" وعامر علوان في "زمان رجل القصب، وطارق هاشم في "16 ساعة في بغداد" وليث عبدالأمير في "المهد" وقاسم عبد في "حقول الذرة الغريبة" وهي في مجملها افلام تعرض في التظاهرة مجتمعة، وإن كان الحديث عنها كثر خلال السنوات الاخيرة في مناسبات مختلفة، خصوصاً ان معظمها كان يقدم - ولا يزال - النظرة الاخرى، اي النظرة الى العراق من الخارج، وانتج من خارج منظومة السلطة الرسمية، سواء أكان معارضاً ام غير معارض. ولعل اللافت في الكلام على هذه الافلام، "انها صارت، هي، خلال العقدين الاخرين، السينما العراقية السائدة، بحيث انست محبي السينما، ذلك الحلم القديم الذي وئد على مذبح السلطة وحروبها ودعايتها الفجة بحسب ما يجمع النقاد.