كان صمت الجمهور الصغير الذي حضر عند المساء الرطب لافتاً في البصرة، وفي الناصرية كذلك، حين عرضت جماعة «هيومن فيلم» فيلمها الأول «أحلام» على شاشة محمولة داخل حديقة الأمة، على كورنيش شط العرب، التي أصفرَّ عشبها بفعل الإضاءة غير المدروسة. صمت الجمهور حينها لأنه كان يشاهد ولأول مرة، ربما فيلماً يتحدث باللهجة العراقية، التي اعتاد سماعها في التلفزيون فقط. راح الجمهور ينظر بتعجب ودهشة لشعر المخرج العراقي الشاب محمد الدراجي العكل الطويل، هو القادم من لندن، حيث يقيم منذ سنوات مع جماعته، إذ لم يتسن لهم من قبل رؤية شخص ما، عراقي، يعيش في أوروبا، ويفكر جاداً بالعمل والعيش في العراق من جديد، هو الذي غادره بسبب العنف والخشية من القتل ولكن هذا ما فعلته جماعة «هيومن فيلم»، والذين يجوبون مدن العراق ليقدموا فعاليات مهرجان «السينما العراقية المتنقلة»، هؤلاء الشباب الممسوسون بالسينما فضلوا خراب العراق على أكسفورد سيتي وجاسرلنك وهولبورن. كما فضلوا ساحة الفردوس والمدن المضطربة على الهايدبارك والبيكادلي وغيرها من مدن المملكة المتحدة، حيث الحرية والجمال زادان يوميان. «أحلام» على عشب حديقة قبل أن يعرضوا أفلامهم في البصرة، على عشب حديقة الأمة وقاعة عتبة بن غزوان والفرقة 14 التابعة للجيش العراقي، حيث قدموا فيلم محمد الدراجي «أحلام» وفيلم عدي رشيد «غير صالح للعرض» وفيلم «اسمي محمد» ليحيى العلاق، كانوا قد عرضوا أفلامهم على سطح الزقورة الأثرية (أور) في مدينة الناصرية، حيث ولد النبي إبراهيم، قبل 6 آلاف سنة، ولا تزال آثارها قائمة حتى اليوم، ثم ذهبوا إلى الجبايش (في عمق الأهوار) هناك عرض هؤلاء المجانين بالسينما على أرصفة المدينة المتربة، وحين كانت المركبات تمر على الطرق المتربة، كان الناس يشاهدون الفيلم وهم في باصات الأجرة التي تنقلهم بين ضاحية وأخرى. يقول محمد الدراجي: «كنت أريد أن يشاهد الناس حياتهم على الشاشة، صارت الأرصفة تزدحم في مدينة الناصرية، الجيل العراقي الجديد لا يعرف شيئاً عن السينما، منذ سقوط بغداد خرجت السينما من الحياة العراقية في بغداد والموصل والبصرة وكل المدن العراقية، نريد عودة الجمهور إليها». ويضيف محمد: «كان عدد دور السينما في العراق حتى عام 1970 أكثر من 200 وبحلول عام 1980 تقلص العدد إلى 100 واليوم صفر، ما لذي جرى ؟ لذا فكرنا بالعمل على استعادة مجد السينما المحلية التي نسيها الجمهور، ولكن عبر أفلام تخاطب الذائقة العراقية، ذائقة الحروب والحصار والموت المجاني، وقد لا يتصور البعض أن فيلم «أحلام» الذي أخرجته حاز 22 جائزة عالمية بعد أن تم توزيعه تجارياً في دول العالم». شيوعية دينية ركزت كاميرا محمد الدراجي في فيلم «أحلام» على المشهد العراقي (فترة منتصف التسعينات)، عابرة إلى أيام سقوط بغداد في ربيع 2003، ومرت بعجالة على فترة الحصار، لكنها سجلت لنا واحدة من أقسى فترات حكم صدام حسين، الفترة التي أعقبت حركة الشعب ضده، عقب خروجه من الكويت، عام 1991. فكنا نرى كيف يساق الشباب الى المعسكرات، استعداداً للحرب مع الحلفاء، وكيف تتحطم آمالهم في حياة علمية (مهدي ابن الشيوعي المقتول الذي كانت الكلية الطبية طموحاً له لكنه يصطدم بعقبة رفضه بسبب انتماء والده السابق للحزب الشيوعي)، ثم عملية اعتقال البطل الثاني في الفيلم (أحمد) خطيب أحلام، التي سمي الفيلم باسمها، بتهمة الانتماء إلى مجموعة دينية (جماعة محمد صادق الصدر) التي تعرف في ما بعد بالتيار الصدري، ولأن محمد كان يسكن مدينة الثورة (الصدر حالياً) المدينة التي عرفت بأنها معقل الصدريين آنذاك، فقد كان واضحاً أثر الحركة من خلال وجود الشخصية ذات العمامة البيضاء التي ظلت ترافق (أبا أحلام وأمها) في البحث عنها إثر هروبها من «مركز الرشاد للمجانين»، والذي دخلته، كونها جنّت بسبب اعتقال احمد (زوجها) في ليلة زفافها عليه. «أحلام» من الأفلام الروائية الطويلة نسبياً، صوّر بكاميرا 35 داخل العراق، وحاز جوائز عديدة في مهرجان بروكلين و جائزة أفضل فيلم في مهرجان الخليج، وكذلك في مهرجان قرطاج بمشاركة أكثر من 100 فيلم، كما أنتجوا فيلم «زمان رجل القصب» من إخراج عامر علوان، الذي يقيم في فرنسا. في قرطاج حاز «أحلام» جائزة أفضل ممثل، والتي كانت من نصيب الممثل العراقي القدير سامي قفطان، كما شارك الفيلم في مهرجان سان سابستيان بإسبانيا، الذي تعد المشاركة فيه فقط قضية كبيرة بالنسبة إلى المخرجين. ويقول يحيي العلاق (المدير الفني لمهرجان السينما المتنقلة) عملنا على تأسيس شركة سينمائية في لندن هي «شركة عراق الرافدين للإنتاج السينمائي والتلفزيوني»، أنتجنا أفلاماً روائية ووثائقية كثيرة، فقد عرض فيلم «رحلتي مع الحلم» على قناة الجزيرة الوثائقية وفاز فيلم «حب ورب وجنون وحرب» بجوائز عالمية عديدة، وقبل أسابيع أنتجنا فيلماً روائياً طويلاً اسمه «ابن بابل» هو الآن في غرفة المونتاج. «غير صالح للعرض» في فيلم «غير صالح للعرض» والذي عرض في الليلة الثانية في قاعة «عتبة بن غزوان» بالبصرة، كان مخرجه عدي رشيد قد أشرك ممثلين عراقيين معروفين مثل يوسف العاني وعواطف السلمان كما كان لصوت قارئ المقام العراقي الكبير حسين الأعظمي وقعاً شجياً في مستوى التلقي السمعي والبصري، بالإضافة إلى جيل جديد من ممثلين لم يكن المشاهد العراقي قد تعرف عليهم من قبل. وكان هذا الفيلم قد شارك في مهرجانات عالمية وحاز جوائز كثيرة. يقول بطل الفيلم عن بغداد حيث تدور أحداث الفيلم: «بغداد فكرة شقها النهر نصفين، وحين يعز على المجنون إيصال صديقه المريض للبصرة، يحمله الى نهر دجلة، وهناك يلقيه على الجرف لتحمله الماء إلى مدينته»، كان الجمهور يردد مع الصوت الخفي لحامل الكاميرا التي راحت تتجول في الشوارع الخالية: «هناك شيء يتغير في بغداد، لا يمكن للكاميرا ولا للعدسة أن تحتفظ به». والبطل يقول: «لم يبق إلا الفراغ، أنا أصور الفراغ وهو يصور الخرائب (أنقاض سيارات محترقة، مباني خالية...)». كان صوت حسين الأعظمي الذي اختلط كثيراً بصوت الدبابات والهمرات الأميركية يؤكد أن الليل البغدادي البهيج صار حلماً. لكن ميسون، حبيبة المصور صاحب قصة الفيلم، التي كان يحطمها البقاء الطويل داخل البيت بسبب خوف حبيبها عليها من القصف والخطف، حين تبلغ ذروتها في الضجر والملل قالت له: (هذا مو فيلم تعوفه على النص) وكانت النهاية اللافتة حين يقوم المصور بحرق كل أشرطة الأفلام التي صورها خلال أحداث بغداد الدامية، ليؤكد مرة أخرى أن الكاميرا والصورة لا يمكن لها نقل صورة بغداد الحقيقة. تدور الكاميرا في بغداد... لكن المشكلة الحقيقية في رأي جماعة السينما هؤلاء هي كما يفسرها محمد الدراجي «تنقلنا في عشر محافظات عراقية، ولم تدعمنا أي جهة حكومية، ولا احد قدم لنا دعماً. لدينا مشاكل مع المسؤولين في محافظة البصرة، زودتنا بكتاب تسهيل مهمة فقط، والمشكلة إن الصحافة العراقية كانت تنظر إلى الفيلم كحدث وخبر إعلامي، فيما كان شعورنا أننا نقدم موضوعاً عراقياً، ويقول يحيى العلاق: «نريد ترسيخ ثقافة الأمل بدلاً من ثقافة اليأس التي تسيطر على العراقيين، ولدت تحت صفارة الإنذار عام 1979 ولما صار عمري 9 سنوات كانت لما تزل تصرخ في رأسي. عام 1988 انتهت الحرب مع إيران ثم توالت الحروب. أنا ابن شرعي لحروب كثيرة، حين كنا نصور أفلامنا في بغداد كنا نختطف مرة من قبل القاعدة وأخرى من الأميركان والمليشيات، كان محمد الدراجي مطلوباً للقتل من قبل حكومة صدام حسين قبل خروجه من العراق». يختتم العلاق قائلاً: «كلما دارت الكاميرا في بغداد علمنا أن الحياة ممكنة».