نبيل سليمان روائي خصب ولعوب، بدأ مشروعه الإبداعي مطلع السبعينات فأكمل منه خمس عشرة رواية، منها رباعيته الكبرى "مدارات الشرق"، لكنه أصدر الى جانبها أكثر من عشرين كتاباً منوعاً في الفكر الثقافي والنقد الادبي والتاريخ، مستثمراً امكاناته العريضة في النشر والتسويق، فغلبت هواية الكتابة حرفة الإبداع، وأصابت أسلوبه السردي بأعراض الاستطراد واستمراء الاشارات الثقافية المبعثرة، فأصبح رواية - وهو غالباً صوت خالقه - مولعاً باستعراض التجارب المكدسة بدلاً من تمثلها بعمق، واشتغل بترميز الاسماء الواقعية عوضاً عن صناعة النماذج الانسانية المستقلة، وأصبح شغله هو التورية عن الواقع من دون أن يعنى بتخليق واقع آخر مواز له. ولأنه كاتب مناضل يجترح التفكير في المستقبل، ويمارس دور المثقف العضوي الذي ما زالت مجتمعاتنا الراكدة تتطلبه، فهو متورط في نقد الحياة والإبداع، والمشاركة في شق دروب الحرية السياسية، ومن ثم فإن قراءة انجازه الروائي تبدو دائماً محفوفة بمخاطر الإعجاب بشجاعته، من دون اهتمام بمناقشة تقنياته. وفي روايته الاخيرة "في غيابها" يقوم بتضفير عالمين في جديلة متسقة، مناوباً في الفصول المتتالية بين حياة راوية في ربوع الشام من ناحية ورحلته الى اسبانيا ومدن الاندلس من ناحية اخرى، معتمداً على طريقة المزج بين ما يشبه المذكرات والخواطر الشخصية والرسائل التي لا تبعث لمن كتبت اليه غالباً، فلا يربط منظوره في السرد بأفق راوٍ وحيد فحسب، وإنما يقيد الطرف الآخر في عمليات التواصل الجمالي المتخيل، في صاحبته التي يخاطبها بكتابته. وفي تلك المسافة الفاصلة والواصلة بينهما يبني عالمه الروائي الحميم، مما يسمح له بالتدفق في الحكي، والاسترسال والتلميح، والصراحة في الاعتراف. وعندما يدخل القارئ المتباعد على هذا الخط المتواصل من النجوى اللاهثة، والبث المحموم، تغريه لعبة الكشف والتمثيل حتى ليصبح طرفاً فاعلاً فيها، يتوق للمشاركة في خيوطها التي تنسج على مرأى منه، ويود لو برئت من هذه الاستطرادات الكثيرة التي لا تتحول فيها البيانات الحياتية الى معلومات جمالية منصهرة في لفتات الشخوص ومواقعهم من حركة الأحداث المنظومة. مشهد من طليطلة تنساب سردية نبيل سليمان بتلقائية عضوية متراوحة بين المشاهد / الذكريات الشامية الماضية والمناظر الاسبانية الحاضرة، ولأن الراوي فنان أديب بدوره، فهو كفيل بأن يحيل المواد المبتذلة في الحياة اليومية المرصودة الى موضوع جمالي وفكري مثير للتأمل والمتعة معاً، فقصة رحلته الادبية بدعوة من جامعة مدريد المستقلة - الاوتونوما كما يصر على كتاباتها - وشبكة علاقاته بمن صحبوه من بين أساتذتها رجالاً ونساء في العاصمة والمدن الاندلسية المختلفة، تقدم للراوي فضاء مشحوناً بالتماعات الذاكرة اليقظة ومواتياً لتجليات الوعي ومناوراته، مما يتيح له فرصة لإعادة تخليق الشخوص وإدراجها في نسق سردي متماسك. وقد دهشت في بادئ الأمر لقدرة الراوي المذهلة على اختزان الاسماء الاجنبية والتفاصيل المكانية حتى قرأت شكر المؤلف في النهاية لمن أعانه على ذلك، فأدركت انها حنكة الاحتكام الى الخبرة والتدقيق في الكتابة واحترام القراء، فهو عندما يجوس خلال شوارع "توليدو" - طليطلة العربية - يسمي الأماكن والكنائس والبوابات والنهر والميادين بأسمائها التي تحتاج وقتاً طويلاً لامتصاصها بطريقة صحيحة، ثم يشير الى موقف اهلها وشعورهم بالموروث العربي وحفاوتهم بتنميته وثوراتهم لأسراره في مشهد دال، حيث تصحبه الاستاذة "غلوريا" فتقدمه لخالها الذي يعمل في "ورشته" الصغيرة للمطروقات المعدنية، ولا يلبث ان تتدافع عباراته وحركات يديه، وهو يشرح لضيفه العربي صفة "أجدادي الذين عاشوا في هذا المكان، فنقلوا إليه صناعة الأطباق والحلي الذهبية، فأضفت في سري: أجداد هبة الميامين يا ميغيل، وناولني الطبق الذي كان بين يديه وقرأت "لا غالب إلا الله" وتابعت سبابته فوق خيوط الذهب، ثم ناولني طبقاً أكبر يختال فيه الطاووس وسأل: - كيف ترى بريق هذه الخيوط؟ وكانت "غلوريا" تقلّب "البروش" الصغير، وأردف "ميغيل". انظر الى خيوط الفضة، تعشيق هذه الخيوط في النحاس هو سر صناعتنا، صناعتكم، وأبي ورث السر عن ابيه وعلمني، وأنا أعلم ابني ستراه بعد قليل. وحدّق بي ملياً ثم قال بأناة: - لا يمكن لأحد أن يغير في هذا السر الذي هو أنا، أنت، أبي، ابني! وربما كنا قد جلسنا - غلوريا وأنا - على الكرسيين المحشورين خلف طاولة صغيرة، أو ربما كنا قد وقفنا ثانية لنغادر حين تدافعت عباراته وحركات يديه: يلعن الشركات التي تكاد تسيطر على السوق، يلعن الماكينات التي تصمم اللوحات وتطبعها وتبيعها بما لا يقدر ميغيل ولا أبوه ولا ابنه على منافسته. ثم خصّني وحدي بخطابه الذي التهب: - اليدويّ أغلى، واختلاف هذا الطبق عن هذا "البروش" عن مقبض هذا السيف عن هذا القرط لا يحققه الا الانسان. تنظيف القطعة التي تصنعها الماكينات يفقدها لمعانها. خذ هذا "البروش" لصديقتك، لا يبدو عليك أنك متزوج، سواء كنت عازباً أو متزوجاً فلست بلا صديقة". ثم يستطرد الراوي لمناجاة صديقته التي يوجه لها خطاب الرواية "هبة عمار" باعتبارها المروى له. وإذا كان هذا المشهد الذي يجمع خبرة الفنون العربية ويشرح ميزاتها يقيم جسر التواصل المنقطع عبر القرون بين الدمشقي، والطليطلي فإنه يمثل نموذجاً لحركة السرد المرن التي يتقنها الراوي، كما يقدم صورة لما يعرفه عن تطور السوق وتحول الصناعات اليدوية فيه، انه عملة نادرة يستحيل استبدالها، ويجعل مضيفه يلهج بهذه الشكوى إحكاماً للموقف ومحاكاة لإيقاع الحياة الطبيعية. نماذج ورقية باستثناء الراوي الذي يمتح من معين الذات الكاتبة ويتكئ تماماً على منظورها الخالص، لا تقوى النماذج السابحة في فضاء النص على امتلاك ثقل وجودها المتفرد حتى تهبط الى أرض الواقع المتخيل، مما يكاد يجعلها نماذج ورقية هشة، لا نعرف منها سوى أسمائها وشذرات متطايرة من حيراتها التي تهتز برعشة الوجود في لمحات تقاطعها مع رؤية الراوي فحسب، فإذا ما غاب عنها كادت تفقد مبررات كينونتها، وهي غالباً أصداء لشخوص واقعية مقنعة بأسماء رامزة، ومعتمدة على رصيدهم في المتخيل، من دون انتقال هذا الرصيد الى ذاكرة النص ذاته بقوة وإلحاح، فإذا ما كان القارئ بالصدفة محيطاً بأجوائها تجسدت أمامه في شكل باهر لا يشاركه فيه غيره من القراء. وقد تسنى لي بطول معايشتي للحياة الاسبانية ان أعرف بعض شخصيات الرواية وأماكنها ورصيدها الحيوي، فدهشت لقدرة نبيل سليمان على التقاط عناصرها الجوهرية وتكثيفها في سطور وجيزة، ومهارته في تمثيل طرائقها في الحوار وتجسيد أنماط سلوكها ببراعة فائقة، وفي مقدمة تلك الشخصيات من يسميه "دييغو" استاذ الجامعة ومعلم المجتمع، وهو أشهر مستعرب اسباني معاصر، يشرح للراوي كيفية ولوجه لعالم الدراسات العربية قائلاً: "بدأت بلوركا، وهو أورثني الاندلس، لا تنس أنني ابن "جيان" ارجو أن تراها عندما تزور الاندلس"، ثم يضع على لسانه جملة من البيانات عن يهود الاندلس لم يتعود صاحبنا ان يزهو بذكرها بعد سنواته المصرية التي شكلت وجدانه، ولأنني أعرف جيداً "بدرو مارتينث مونتابث" أصل هذه الشخصية فإن اشارات الراوي عنه تكتسب لديّ بداهة عجيبة ناصعة، كأنني أسمعه بالفعل وهو يتحدث عن فن مصارعة الثيران، فيبدو الراوي كما لو كان قد سجل صوته وهو يذكر الاسماء والأماكن والنصوص من دون أي تحريف، بفضل تدقيق رفعت عطفة الذي نوّه به الكاتب، فينطلق قائلاً: "كان دييغو يتوجه بألفته لكثيرين ممن هم في مثل سنه، وللنادلين، وحين يئس من دفعي الى أندلسه أخذت نظراته تشرد، ثم أخذ يترنم بالاسبانية، وفجأة قطع ترنيمه، وأقبل عليّ مغالباً تأثره: - هذه مرثية لوركا لإغناثيو سانشيث ميخياس، اسمع: "اذهب يا إغناثيو، لا تنزعج من الصيحات الساخنة فالبحر يموت أيضاً". وران الصمت حتى عاد يهمهم: - أنا ابن جيان، وجيان مثل غرناطة بعيدة عن البحر، لكن البحر في كل منا، بالأحرى لكل منا بحره. وران الصمت ثانية حتى تساءلت عما اذا كان اغناثيو قد قتل في الحرب الاهلية، فقال: - هو مصارع لا يتكرر، كما ان لوركا شاعر لا يتكرر، كانا صديقين حميمين، ولسوء حظهما عاد اغناثيو الى المصارعة بعدما اعتزلها، نطحه الثور في مانثاناريس، مات في الثالثة والاربعين، وموته كان سنة ولادتي، كان أكبر من لوركا بسنوات، لديّ صورة له من عام 1930، ستراها حين تزورني في البيت، علقتها في صدر المكتبة منذ كنت في مثل سنك. سترى إغناثيو باللباس الحرير المزركش والخيوط المذهبة، لباس المصارع فتّان يا سعد!". ثم يمضي في شرح طقوس المصارعة وحميّاها، وما تزخر به في منظور الاسبان من دلالات المغامرة بالحياة والمكابرة في مواجهة القوة بالعقل وانتصار الشجاعة وتحدي الموت بوجود صوفي عميق، لا يستشعره من لا يعرف الخلفية الثقافية الاحتفالية لهذا الطقس الشعائري الدامي، باعتباره العيد القومي للاسبان، يجسد شخصيتهم ويطرح اشواقهم للبطولة. لم يشرح الراوي كل ذلك، لكن سمعته مرات عدة من بدرو نفسه. من هنا تكتسب شخصيته لدى القارئ الذي يعرفه وجوداً يفوق ما في الرواية ويفيض عنها، بينما لا تحمل اسماء - أكاد أحدس بأهميتها في الحياة الثقافية السورية ان عرفت مقابلها الواقعي - مثل اسبر فارس ومظهر العبدون ومطاع أكرم والناشر عبدالنور وهبة عمار التي أكاد أتعرف عليها - لا تحمل للقارئ البعيد نكهة الوجود ولا مذاقه، مع انها في ما يبدو شخصيات حقيقية دارت في فلك سعد أيوب الراوي / الكاتب واكتسبت منه طاقة مشعة، لكنها لا تكفي كي تنحفر في ذاكرة القراء أو تبقى في مخيلتهم. وربما كان هذا من أفدح نتائج الاعتماد في تبئير الشخصيات على وعي الراوي فحسب، من دون النفاذ الى أصواتها المتعددة، لقدح شرارة وجودها بارتطامها وتجاذبها وتشكيل قسماتها عبر منظورات مختلفة في داخل الفضاء الروائي ذاته. هاء الغياب على أن هناك لعبة دلالية اخرى ناوشتنا بها الرواية منذ عنوانها، وهي مرجعية الضمير المؤنث في عبارة "في غيابها"، فعلى المستوى السطحي للنص وعبر الاحالات المكرورة للمحبوبة التي تروى لها اخبار رحلة الاندلس يبدو انها "هبة عمار" فحسب، لكننا لا نكاد نتمعن في الطبقات العميقة حتى تتراءى لنا كل تكوينات الجمال الانثوي المثير للشوق والهفة وراء غلالة هبة بلوازمها، من التكشيرة المحببة والحضور المطارد، وهي تقف في مواجهة "غلوريا" العاشقة و"أتوثينا" المزقزقة كالعصافير دائماً وغيرهن من نساء الرواية. ثم لا نلبث ان نستغرق في السرد حتى تتكثف ابخرة الشوق، وتتراءى خلف ضباب الكلمات أطياف أعظم فتنة وجلالاً وهو يقول: "أنت هي الاميرة. وأنا أعد البحر وأوغاريت بك، وأراك في اليقظة كما في المنام، تجوسين خلل الرمل والحصى والحجر والشوك، وانت الآن تشيرين فتقوم هنا ايضاً معصرة للعنب وأخرى للزيتون... وتشيرين فيتبارى الحدادون والسباكون، وتشيرين فتعقد على خيوط الشباك طعوم السراطين... الآن - وفي اليقظة كما في المنام - لك أن ترمحي من هامة اوغاريت الى قاع قادس لتستبقيني بثلاثة آلاف سنة الى اسبانيا، وتشيرين فينصاع الاطلس في تلك البوابة التي سيعبرها طارق بن زياد ليلحق بك، وتشيرين فتفرغ سفائنك حمولتها، وتمتلئ بالقصدير أو بالفضة، لانك ستغادرين إيبلا إلى زقاق طالع الفضة قبل ان نلتقي على شرفة بيتي / عزلتي في الضيعة. وتشيرين فيبعدون لك اثنين وعشرين حرفاً، ويملأون اللفائف، ويوشونها باسمك الارجواني، ثم تشيرين فينزل الناووس الى قبر وشمعة وحرز، هل هي بداية ام نهاية؟ هبة: أحبك". على أن هذا المزج بين المحبوبة والوطن، بين بهاء العشق وقدسية الاساطير التاريخية، في لحظة انصهار قصوى للسردية الصغيرة في قلب السردية الكبرى للوجود الانساني في الوطن الكبير، تضفى على القص وهج شعريته، وتجبر وهن عظامه، وترقى به الى أفق الفن الكلي في رمزيته الرفيعة.