في مقدمة كتاب «نزهات أخرى في غابة السرد» (الدار المصرية اللبنانية) يلفت الناقد سعيد الوكيل إلى أنه لم يتردّد في استئذان أمبرتو إيكو في استخدام استعارته الأثيرة التي توجت كتابه الصغير النفيس المسمى «6 نزهات في غابة السرد». الكتاب يكشف رؤى النصوص لعدد من الروائيين العرب من بلدان متنوعة: نجيب محفوظ، خليل صويلح، إبراهيم الكوني وصنع الله إبراهيم ويحيى مختار، ومحمد البساطي، ويستفيد من مناهج علم السرد وعلم العلامات وتحليل الخطاب والحديث عن السارد، «تلك الذات الفاعلة لهذا التلفظ الذي يمثله عمل من الأعمال، والذي يرتب عمليات الوصف، فيضع وصفاً في مقابل آخر رغم تقدم هذا على ذاك في زمن القصة». تختلف وظائف السارد (الراوي) تبعاً لعلاقته بالمروي، ومنها وظيفة وصفية، وفيها يقوم بتقديم مشاهد مِن دون أن يعلن حضوره، وتوثيقية، يتولى عبرها توثيق بعض مروياته، وتأصيلية، وفيها يربط ما يرويه بأحداث تاريخية. ويشير الوكيل إلى السارد العليم في «زقاق المدق» لنجيب محفوظ: «لا يقول كل شيء، ليس بخلاً على القارئ ولا ضناً، بل إعمالاً لدور أساسي له، وإلا مَن ذا الذي يسعه أن يتتبع الرغبات السادية الكامنة في نفس «زيطة» (صانع العاهات)، وفورات جسد السيد سليم علوان، وتعبيرات السخرية التي تتأرجح داخل حنجرة أم حميدة وتكتمها إذ تحاور سنية عفيفي (الأرملة الباحثة عن زواج مِن دون أن تبوح). إن إعمال دور السارد في ألا يقول هو إحدى براعات نجيب محفوظ الجديرة بالتقصي... هذا أحد الأدوار المنسية التي لا نكاد نلتفت إليها غالباً عند قراءتنا لنجيب محفوظ وغيره من الروائيين». وفي عذوبة ورهافة تتناسب والنص موضع البحث يتحدث الوكيل عن تجلية طبقات الثقافة في مرآة رواية «مرافئ الروح» ليحيى مختار، ففي صفحة واحدة (هي أولى الصفحات) يرسم السارد الإطار النفسي للرواية، وبعد أسطر قليلة يخط جوهر الرؤية ويعقد الاتفاق الضمني الأكثر وضوحاً بيننا وبينه، والذي ينص على أن أقبل الاعتراف بأن هذا العمل كله ينتمي إلى وسائل التطهير الفني كتلك التي عرّفنا إياها أرسطو، حيث لا يبقى في مواجهة الحزن الذي هو سُم، إلا الحكايا، وأن تتحول إلى ضمير حي نابض لا تمحوه الأيام في مواجهة كل وسائل المحو. فالرواية «مرافئ الروح» التي تبدأ بتصور سريع يكشف عن قضاء الإنكليز على سلطة عبدالله التعايشي في السودان، ترجع بآلة تصويرها مع القوات الظافرة إلى أسوان، حيث «ترك الأهالي كل ذلك وعادوا لحكاواهم من جديد. هذا دأبهم عندما تعتصرهم الأحداث عصراً، يزوغون بما تبقى فيهم وما يستطيعون التشبث به والتعلق بأهداب النجاة. الحزن سُم». وبين العجائبية والواقع يحرص السارد في عالم الرواية العجابئي أن يضع خيطاً دقيقاً متأرجحاً بين إمكانات التصديق والإنكار لدينا، يقول الوكيل إنه «يجعل مِن «حسن فقير» شخصاً يمر بتحولات طبيعية صوب الصلاح والمعرفة والكشف، ثم يخلط ذلك بحكايات الناس حوله حتى نكاد نصدقها، ولا يلبث أن يردنا إلى الشك في طبيعة الشخصية نفسها ودوافعها وتطلعاتها، وذلك من خلال الحوار بين «حسن بورس» الصديق لقديم للشيخ حسن، وصاحبه ناظر المدرسة الأولية عبدالله سراج، وهو الحوار الذي تسبقه عبارات سردية تحفزني على التصديق». ويضيف: «ليس أمامي الآن– بوصفي قارئاً متخيلاً– سوى أن أستجيب لتلك الرغبة التي يدعوني إليها النص، فأبقى على السراط بين التصديق والتكذيب، أي في قلب العجائبي. والحيلة التي يلجأ إليها السارد ليسقطني في شراك العجائبية أن يختلط صوته بأصوات الشخصيات، فلا ندري أيتحدث السارد أم إحدى الشخصيات، ومن ثم يختلط الواقعي بالمتخيل». وهنا يشير إلى أن بين المؤلف والمتلقي «علاقة جدلية»، فعلى القارئ– من أجل فك رموز الرسالة الأدبية– أن يمتلك شفرة المؤلف الجمالية والأخلاقية والاجتماعية والأيديولوجية... إلخ، لكن من دون أن يفرض عليه ذلك أن يشاطره إيّاها كليّاً، كما أن بإمكان المؤلف– حسب جمالية التلقي لجامعة كونسطانس– أن يُغير أفق انتظار القارئ، مثلما يمكن لهذا الأخير– بتلقيه الاستهجاني أو الاستحساني– أن يؤثر في الإنتاج الأدبي. ويرى الوكيل في رواية «تبدّد» ليحيى مختار «مرثية صاحبها للأهل والوطن»، كانت تحلم بأن تتجاوز كينونتها ووظيفتها، فتقدر على أن تغير واقعاً صار تغييره محالاً أو يكاد، «وعلى الرغم من أن هذه الرواية تدعي لنفسها كونها مرثية، فإنها تحاول أن تحلل أسباب ضياع النوبة، وألا تغرق في بحر من العاطفة المسرفة، بل تقدم تحليلاً موضوعياً هادئاً، من دون إغراق في التفاصيل». تمثيلات الصحراء أم تمثُلات الروح؟ عبر هذا التساؤل يقدم الوكيل قراءة في «نزيف الروح» لإبراهيم الكوني، تحاول أن تستكشف التمثيل السردي للصحراء على مستوى الرؤية والتقنيات في روايات الكوني، وصولاً إلى تأويل علاقة النص بالصحراء وبالعالم. ولعل ما يلفت في كثير من راويات الكوني- مثل «التبر»، و»مراثي أوليس»، و»نزيف الحجر» – هو ذلك النظر إلى الصحراء بوصفها قادرة على أن تعري لنا طرفاً من أسرار العالم، وبوصفها وسيلة لفهم الحياة نفسها. ويستكشف المؤلف رؤى النص في رواية «الخالدية» لمحمد البساطي، فيتحدث عما أسماه «خطاب القهر»، باعتباره منظومة قابلة للتفكيك إلى عناصرها الرئيسة المتمثلة في مبدع القهر (القاهر) ومتلقيه (المقهور) وفي خطاب القهر نفسه (الرسالة) وفي العلامات المصاحبة للخطاب وشفراته، وفضاء القهر (المكان والزمان) وفي الأثر الذي يخلفه القهر. ويشرح كيف أن رواية «الخالدية» تحاول تفكيك خطاب القهر والفساد، مركزة على عناصر بعينها، وأن هذا التقكيك إنما جاء عبر البناء. ويلفت الوكيل إلى كيف أن الراوي في رواية «وراق الحب» لخليل صويلح، يطرح تصوراً جديداً، يقود مسيرة الرواية كلها، «إذ يقودنا إلى علاقة الكتابة بالحب». تحاول تلك الرواية بحسب الوكيل، أن تقدم أنماطًا للمرأة، لكنها تظل متأبية على أن تكشف أسرارها، ففي العمل ثلاث فتيات يحاول الراوي من خلالهن كشف ذاته، ويركز على الرغائب الجسدانية، لكننا لا نستطيع أن نجزم تماماً بأنه بعيد مِن الروح. الراوي هنا- يضيف الوكيل- يبدو مهموماً بالشوق إلى المرأة، باحثاً عن جسد يأنس إليه، لكن الروح تظل فاعلة، ذات حضور على نحو ما. وفي تناوله لرواية «ذات» لصنع الله إبراهيم يأخذنا المؤلف إلى جوهر رؤية النص لعلاقة الوثائقي بالمتخيل، «فالوثائقي يحظى باعتراف واسع، ومن المفترض أن يتواطأ والنص على صدقية ذلك الوثائقي لتحدث النقلة التالية، وهي التواطؤ على أن شخصيات الرواية نموذجية، يمكن وجودها في ذلك الواقع الذي تؤثر فيه الأحداث المذكورة في النص الوثائقي. ويلفت الوكيل في موضع آخر إلى كيف أن الرواية هنا تجاهد لمقاومة محو الذاكرة، وبالأحرى لإعادة نقش الذاكرة ومقاومة محوها». ويتناول رواية «أمريكانلي» للروائي نفسه التي تقدم الصورة الشخصية للراوي بوصفها تمثيلاً للذات ما بعد الكولونيالية، «وهي ذات تبدو مقموعة على كل من مستويات الجسد والحرية السياسية والاقتصادية... إلخ، لكنها– في الوقت ذاته– ليست ذاتاً سلبية، بل تسعى إلى مراوغة بقايا النظام الكولونيالي.