يرى الكثير من النقاد ودارسي الأدب أن النثر، لا الشعر وحده، هو المحك الفعلي لشاعرية الشعراء. ذلك أنه يميط اللثام عن العصب الأساس للغة الشاعر قبل أن تتشكل شعريتها عبر الأوزان والقوافي، بالنسبة الى شعراء الوزن، أو عبر التقطيع والتكثيف والإضمار بالنسبة الى شعراء قصيدة النثر. النثر بهذا المعنى يمتحن الشاعر في طاقاته الجمالية والمعرفية الأولية قبل أن تدخل هذه الطاقات في نسق التأليف الشعري الذي تموهه الإيقاعات أو القوافي أو عناصر التطريب والتطريز البلاغي. ليس من قبيل المصادفة تبعاً لذلك أن يعتبر الشاعر الانكليزي ت.س. إليوت أن ما من شاعر حقيقي لا يكون في الوقت ذاته أستاذاً في النثر، من دون أن يكون العكس صحيحاً بالضرورة. ويمكن أن نستشهد في هذا السياق بنثر إليوت نفسه أو بنثر كولردج ولوركا ونيرودا وأوكتافيو باث وغيرهم من الشعراء الغربيين. كما يمكن أن نستشهد بنثر نزار قباني وأدونيس ومحمود درويش ومحمد الماغوط، على سبيل المثال لا الحصر، بالنسبة الى الشعر العربي. فنحن نستطيع بشيء من التفحص أن نرى في نثر كل واحد من هؤلاء الكثير من الخصائص التعبيرية التي يحملها شعره مضافاً اليها مساحة الحرية الأوسع والقدرة على الحركة والمناورة والدخول في التفاصيل التي لا قِبَل للشعر بدخولها أو بمعالجتها. ومع ذلك فثمة من الشعراء الكبار والمرموقين من يشذ عن هذه القاعدة، بحيث أن بعض هؤلاء لم يتركوا في باب النثر شيئاً يذكر، وبعضهم الآخر لا يرقى ما نقرأه لهم من نثر الى المستوى الرفيع الذي بلغته نصوصهم الشعرية. فنثر بدر شاكر السياب الذي تناهى الينا عبر رسائله وبعض كتاباته هو نثر عادي لا يشي بشاعريته المتفردة. وكذلك الأمر بالنسبة الى نثر خليل حاوي الذي يطغى عليه البرود الفكري والتقصي النقدي الأكاديمي، فيما تمور تحت قصائده ثلة من البراكين. بين هؤلاء وأولئك ينتمي نثر عباس بيضون الى الفريق الأول، أي الى فريق أدونيس وقباني والماغوط ودرويش، حيث تضيق الفوارق بين لغة الشعر ولغة النثر ويصدران، كلاهما، عن عصب واحد وعن حبر ممسوس بالقلق والتوثب ورياح الشغف. هذه الميزة التي لامست بيضون منذ نصوصه الأولى في السبعينات ما زالت تتعمق وتتسع في كتاباته الأخيرة وبخاصة في نصوصه المختارة "ربما، قليلاً، على الأرجح" التي دفعها الشاعر الى المطبعة في اطار مجموعة المؤلفات التي أصدرتها جريدة "السفير" بمناسبة عيدها الثلاثين. و"الأرجح"، بحسب تعبير بيضون الأثير، أنه لم يكن في صدد نشر كتاباته النثرية لولا رغبة ملحة من صاحب "السفير" بالذات. وهو ما بدا جلياً في المقدمة القصيرة التي كتبها المؤلف تحت عنوان "على سبيل الاعتذار" ورأى في نصوص كتابه خليطاً غير متجانس مما كان يسميه مهدي عامل "النقد اليومي" الذي هو أقرب الى التوصيف والانطباع منه الى الاستقصاء العميق والحفر المعرفي. غير أن قارئ عباس بيضون المتابع لا ينتظر كتابه النثري الأول، ولا اعتذاره عن تشتت موضوعاته، ليعرف القيمة الاستثنائية لنثر عباس في اطار النثر العربي المعاصر. فقد أتيح لي، كما لسواي، أن أتابع كتاباته النثرية منذ مطالع السبعينات في مجلة "مواقف" أو في ملحق "النهار" الأسبوعي أو في جريدة "الحياة" ومجلة "الوسط" وغيرها من المنابر الصحافية والأدبية. ومن خلال هذه المتابعة استطعت أن أقف على تجربة ثرية ومدهشة من حيث لغتها وسبكها ومخزونها المعرفي. نتعرف في نثر عباس بيضون إلى واحد من ألمع المثقفين العرب وأغزرهم ثقافة وأكثرهم موسوعية وقدرة على التجول في فضاءات الفكر والسياسة والأدب والاجتماع والفن. حين تقرأ له تشعر بادئ ذي بدء انك ازاء شخص لماح وذكي وقادر على الاحاطة بموضوعه وتقصي تفاصيله وجزئياته بعين الرائي والمجرب والحذر وغير المحابي. اللغة طيعة بين يديه بقدر ما هي حارة ومتدفقة ومتلاحقة كالحمم. ان لديه دأب الجاحظ وتبحُّره وطريقته في ملاحقة المعنى وتقليبه على جميع وجوهه واحتمالاته، كما لديه استطراد الجاحظ وخروجه عن النص الأصلي، كما لديه الكثير من سخريته ونزوعه الى الهجاء. لكن بيضون يتجاوز هدوء الجاحظ ورباطة جأشه التي تجعله على مسافة واضحة من الأشخاص الذين يتناولهم أو القضايا التي يطرحها وينخرط في الكتابة بجماع جسده وأعصابه وتوتره واندفاعاته. انه بهذا المعنى لا يطيق الكتابة الأكاديمية أو المدرسية ولا الكتابة الجاهزة التي تستعيد مقولات سابقة على النص بل هو ينشئ وفقاً، لمزاج متطلب وصعب، نصاً آخر على النص الأول يوازيه أحياناً في جماليته وثقله المعرفي فيما يتجاوزه أحياناً أخرى ليلتمس حضوره من ذات صاحبه المتطلبة والمتقحمة. عنوان الكتاب "ربما، قليلاً، على الأرجح" يشي برغبة المؤلف في الابتعاد من القطع والجزم والأحكام اليقينية الحاسمة. لكن هذا العنوان اللافت والمتقطع والذي لا ينتظم في جملة اسمية أو فعلية تقليدية يظل أقرب الى الرغبة منه الى واقع الحال. فالكتابة عند عباس بيضون تبدو لشدة طابعها النقدي السجالي وكأنها تصدر عن وثوقية معرفية لا تقبل الإبطال أو التشكيك. انها تمتلك قوتها لا من سلطة المعرفة الواسعة التي تستند اليها فحسب، بل من سلطة اللغة التي تندفع كالحمم أو كالنهر جارفة في طريقها كل الفراغات التي يمكن أن تتسلل منها أصابع الاعتراض أو مناطق الشك بكمالها المعرفي. وأظن أن كل نص بيضوني هو ثمرة مغالبة هائلة بين وجهي الناقد والشاعر في الشخص نفسه. فعنوان الكتاب هو الثمرة الطبيعية للإحساس بالنقصان الذي يجعل الحقيقة ملكاً للسجال نفسه لا لأي من أطرافه المتقابلين، في حين أن الاندفاع الغلياني للشاعر هو الذي يحول نصه النقدي الى مرافعة شديدة الأحكام عن وجهة نظر محددة لا تنفك ضراوة اللغة مضفورة بالصدق العارم أن ترفعها الى رتبة الجزم والوثوق النهائي. هكذا يستطيع عباس، وبسلطتي المعرفة والأسلوب، أن ينجح في الدفاع عن الشيء ونقيضه، في دحض الفصاحة والمثال الجمالي البلاغي حيناً وفي الاعجاب بهذا المثال في لغة سعيد عقل وعمارته البلاغية المبهرة حيناً آخر. لكن ما يخفف من أثر هذا التناقض الظاهري هو اعتراف بيضون بأن الحقيقة لا تصاغ مرة واحدة ونهائية، بل نحن في اكتشاف دائم لها، وهو أيضاً ايمانه بأن ليس ثمة من تعريف نهائي للشعر، ولذلك فإن أفكاره الحاسمة في مرحلتي السبعينات والثمانينات تخلي أماكنها في المرحلة الراهنة للمزيد من التساؤل والحيرة واللايقين. لا تهدف هذه المقالة بالطبع الى استعادة كتابات عباس بيضون النقدية من جديد ولا الى تفسير النثر الأول بنثر آخر لا يحتاج اليه في الأصل. ومع ذلك فلا يمكن قارئ الكتاب إلا أن ينوه بجرأة صاحبه البالغة في التعبير عما يؤمن به من دون مخاتلة أو مواربة. هذه الميزة نراها في باب السياسة حيث كان من السهل على المؤلف أن يكتفي كالآخرين بدحض أفكار الكولونيالية الغربية وبخاصة في وجهها الأميركي الأكثر ضراوة ووحشية، ولكنه لم ير في الكثير من ممارسات الإسلاميين سوى الوجه الآخر للعنف الذي يستسقي العنف ويستدرجه الى ساحته ومرماه. فأن نقول "لا أبرياء في اسرائيل وجميع من يحل فيها" هو نوع من الاستئصالية التي تبرر للآخر عنصريته ورده بالمثل. وبالطريقة نفسها ينتقد المؤلف ما يسميه "الكاميرا الجهادية وتكنولوجيا التضحية" حيث يظهر تمجيد الموت والافتتان به وكأنه هدف مطلوب لذاته. وفيما يبرع بيضون في توصيف صدام حسين ورسم الصورة النموذجية للطاغية المشرقي، يبرع بالقدر ذاته في توصيف مثقفي البلاط ومروجي الاستبداد والمطبلين له بذرائع الوطنية والقومية وأولوية المعركة مع الاستعمار. وكما كانت النصوص السياسية ثمرة انخراط المؤلف منذ الستينات في العمل السياسي، سواء في اطاره الحزبي الايديولوجي أو في اطاره الإنساني الأشمل، فإن نصوصه الأخرى هي ثمرة انخراطه في قضايا الثقافة وشؤون الابداع، خصوصاً أنه يتربع على أكثر من ثلاث عشرة مجموعة شعرية ويشكل إحدى العلامات المهمة في مسيرة قصيدة النثر العربي. على أنه في كتابه الجديد، ذي النصوص المختارة، لا يولي الشعر عناية خاصة ولا يميزه عن سواه من الأبواب والأنواع، وكأنه بذلك يريد أن يلج الكتابة النقدية من باب الثقافة الموسوعية الشاملة لا من باب الاختصاص بالشعر وحده. هكذا نتعرف في مقالته "الآخر... الاسم المضاد للذات" إلى الكاتب المفكر الذي ينتقي من التاريخ العربي صوراً ثلاثاً، هي: صورة مجنون ليلى وصورة التيار الثقافي الشعوبي الممثل بأبي نواس وأضرابه وصورة الأنا المتضخمة في الشعر العربي الحديث، ليشير الى الذات العربية المشروخة والمنفصلة عن ذاتها وهي تحاول عبثاً أن تحاور الآخر من موقع الندية أو التناظر. كما نقرأ في الباب نفسه نصوصاً متنوعة حول أدونيس وجبران وصنع الله ابراهيم والشعراء الرواد. نقرأ نصاً قاسياً، كان يمكن تليين لهجته والتخفيف من قسوته، حول مسرح منصور الرحباني ورؤيته "المدرسية" لأبي الطيب المتنبي، ونصاً آخر أقل قسوة وأكثر تفهماً لفيلم عمر أميرالاي الوثائقي حول رفيق الحريري. نقرأ أيضاً كتابات في الفن التشكيلي حول فاتح المدرس ورفيق شرف وحسين ماضي وسمير خداج، هي مزيج من النقد والانطباع والتحية والمرثاة. اضافة الى مقالات في أدب الرحلات تظهر قدرة العين على الانتباه الى المرئيات والتقاط جماليات المكان وتعبيراته بأسلوب يتراوح بين الريبورتاج الصحافي الذكي وبين المادة السردية شبه الروائية. لا تشعر وأنت تقرأ كتاب عباس بيضون النثري أنك أمام مادة صحافية بحتة وأن هذه المادة تخسر بين دفتي كتاب الألق الذي كانت تحظى به في الصحيفة. قد يصح هذا الشيء على كتّاب آخرين أو على كتابات أخرى أكثر "يومية" للمؤلف نفسه. أما هنا فنحن ازاء نصوص عميقة وكثيفة ومختارة بعناية. وإذا كنت لم أجد فروقاً تذكر، في القوة والأسلوب، بين سائر نصوص الكتاب، فإن النص الأروع في نظري هو "التيتانيك في رحلتها المعكوسة". ففي هذا النص يتضافر، بفعل الافتتان، عمق التحليل مع عدسة الاستقصاء ورهافة الإنصات والابصار مع شاعرية الأسلوب.