يقول ميلان كونديرا في مقدمة كتابه "فن الرواية": "أؤكد أنني لا أدّعي أي طموح نظري وان كل ما في هذا الكتاب ليس إلا اعترافات حرفي. ينطوي عمل كل روائي على رؤية مضمرة لتاريخ الرواية وعلى فكرة عما هي الرواية، وقد حاولت أن أجعل هذه الفكرة، المحايثة لرواياتي، تتكلم". لا أدري لماذا أحسست ان هذه الجملة تصلح لأن تكون مقدمة لكتاب "الشهيق والزفير" لعبدالمنعم رمضان. كونديرا يتحدث في كتابه عن روايات الآخرين وتجاربهم ورمضان يتحدث عن أشعار الآخرين وتجاربهم، والأرجح اننا لو أبدلنا كلمتي الشاعر والشعر بكلمتي الروائي والرواية في كلام كونديرا لحصلنا على ضوء قوي يمكن، بحسبه، قراءة الكتاب بمجمله. ففي كتاب رمضان نجد كل عدة النقد الشعري ولكنها لا تدعي التنظير ولا تطمح الى اظهار الشاعر في اهاب الناقد. انها عدة مزاج وقراءة وتجربة ووعي وليست عدة بحث ودراسة واستنتاجات نظرية. ولأن عمل أي شاعر بحسب كونديرا ينطوي على رؤية مضمرة لتاريخ الشعر وعلى فكرة عما هو الشعر، فقد جعل عبدالمنعم رمضان فكرة الشعر، المحايثة لشعره، تتكلم. وهذا ما يجعل من مقالات أو نصوص كتابه اعترافات حرفي و اعترافات شاعر وصاحب تجربة يخفي شعره وتنطوي تجربته على نظرته وقراءته الشخصية لشعر الآخرين وتجاربهم. أليست كل كتابة، في النهاية، انحيازاً وميلاً وانتماء؟ أليست الكتابة تجنباً وتجاهلاً وابتعاداً في الوقت نفسه؟ تحت الحاح هذا المعطى البديهي يمكن وصف كتاب رمضان بأنه كتاب انتماءات وتجنبات، ففي كل مقال هناك اعلان خفي أو ظاهر بالانتماء الى اسم وتجربة وتيار أو بتجنب اسم وتجربة وتيار. القصد أن أي كاتب حين يكتب رأياً أو ما يشبه الرأي فإنه، في الوقت نفسه، يفصح عن مدى انطباق هذا الرأي على تجربته إذا كان يتبنى هذا الرأي، وعن مدى مخالفة هذا الرأي لتجربته إذا كان يعترض عليه ويرفضه. آراء الكاتب، بهذا المعنى، هي حياته وكتابته وأسلوبه ومؤثراته وطموحاته، وربما تكون غاية رمضان من اطلاق الشهيق والزفير عنواناً لكتابه توسلاً لهذا الايماء حين يعادل التنفس الحياة بطريقة ما، وقد تكون تنقية هواء الشهيق وأخذ المفيد والمناسب فيه وطرح البقية كزفير، قد تتجاور هذه الفكرة البيولوجية مع فكرة الكتابة نفسها التي هي استثمار للقراءة في الفضاء الكلي لما هو مكتوب ومنجز وتحويل بعضه الملائم الى مادة خاصة واستحقاق شخصي. "الشهيق والزفير" هو كتاب شعراء وكتّاب تجارب شعرية، حيث تتحقق فيه فكرة أن أشعار الآخرين وتجاربهم محايثة لأشعار المؤلف وتجربته. وكل ما يفعله هو أن يكشف عن حركة نصه الشخصي ويرشد القارئ الى أمكنة عيشه واقامته الحميمة ودرجة قرابته لنماذج معينة ودرجة تجاهله لنماذج أخرى. واللافت في صنيع عبدالمنعم رمضان انه يفعل ذلك في شكل حاسم، يقول رأيه الحقيقي من دون اكتراث بمخالفة رأيه لتقدير الجموع، إنه مخلص لنفسه ووفي لمزاجه ونظرته، وهذا ما يقلل من مبالاته بالتواريخ والمكانات والمراتب لمصلحة حرارة التجربة وحريتها وتطورها وتنوعها. واللافت أكثر انه لا يتقيد كثيراً بالتوثيق النقدي، انه يُبعد كتابته عن البرود النظري ومتطلباته البحثية ولكنه يُخضع هذه الكتابة لسياق نصي حي وحيوي، فاتن في عبارته المكونة من مزاج لاذع منهمك في اختراع طموح تأليف خاص، غالباً ما يحرص عبدالمنعم رمضان على إبداء رأي نقدي يشبه، في طبيعته، ما نراه عند النقاد المحترفين ولكنه يحرص، أيضاً، على ألا ينخرط في هذا المجال الاحترافي. لا ينسى أنه شاعر ولا ينسى أن يشق لنفسه سياقاً يندرج فيه وأن يشتق لعبارته نكهة خاصة تجعلها أقرب الى كتابة الشاعر منها الى كتابة الناقد. في تاريخ الشعر هناك الكثير من التجارب التي تفوق فيها الشعراء في جهودهم النقدية على المنظرين والنقاد أنفسهم، وقد أعاد البعض نجاح ذلك الى قرب الشعراء من تجربة الكتابة ودوافعها وطبقاتها النصية وتنوع نبراتها وطياتها الايقاعية والنثرية... الخ. كتابة عبدالمنعم رمضان تنتمي الى هذا النوع من التعبير النقدي، تعبير محايث للشعر ومختلط به وممزوج بعوالمه، ولذلك ليس غريباً ان تحتل أسماء الشعراء عناوين أو متون المقالات والنصوص في الكتاب الذي يبدأ بأنسي الحاج ولا ينتهي بعارف حمزة أصغر الشعراء المذكورين في الكتاب، وليس غريباً، أيضاً، ان يشكل كل هؤلاء جزءاً من السيرة الذاتية الشعرية للشاعر ومحطات في تجربته الخاصة كقارئ وكاتب. يصعب، بالطبع، تلخيص كتاب من هذا النوع يتكون من سبع وثلاثين مقالة ويصعب تقديمه بما يُغني عن قراءته. لنتأمل، مثلاً، تسميته لحال أحمد عبدالمعطي حجازي بعزلة الأسطى مفرّقاً بين "ثقافة المهنة" التي ينتهجها حجازي والتي "تجعل من العروض وحده علامة فارقة بين الشعر وغير الشعر وتصنع تراتبية يحبها كل شاعر نضبت مياهه وجفت وأصبح بائساً أو يائساً" وبين "ثقافة الحياة التي هي نشدان دائم للخروج على ذلك، نشدان يفهم ان الايقاع أكثر انسانية من العروض وأن ما صنعه الإنسان يجب ألاّ ينتهي بأن يصبح فوق الإنسان". ولنتأمل أيضاً قوله ان "توفيق صايغ وأنسي الحاج والماغوط كانوا الثالوث الذي اعتمد اعتماداً كاملاً على قصيدة النثر... ولكن الشعر العربي لم يستطع أن يحتمل إلا الماغوط لأنه الأشد محافظة على قواعد المتن، الأشد محافظة حتى من العروضيين، كانت قصيدة الماغوط تخلّت عن عروض الخليل، عن الموسيقى فقط واستمسكت ببقية الشروط، فيما قصيدتا صايغ والحاج تخلتا عن عروض الخليل كله، إن ذائقة الماضي قبلت الماغوط ولم تقبل رفيقيه". ولنقرأ ما يقوله عن موقع سميح القاسم في الشعر الفلسطيني مطلقاً عليه صفة "الدوبلير" ولنقرأ عن نزار قباني ان شعره "أصبح أحياناً قنديلاً أخضر قيمته في توفير الزينة أكبر من قيمته في تدبير النور، وأحياناً منديلاً حريرياً لا ليمسح العرق ولكن ليوضع في جيب الجاكيت العلوي". ويكشف عبدالمنعم رمضان في تناوله عبدالوهاب البياتي عن سخريته الكاملة حين يدعوه ب"سارق الفحم" كاستعارة مقلوبة للشعراء سارقي النار، وبرأيه ان البياتي في رحلته لسرقة النار "كان يذهب إما مبكراً فيسرق بعض الفحم الرطب النيء، أو متأخراً فيسرق بعض الفحم المحروق الخامد". والمقالة تبدأ بلقاء متخيَّل في الاسكندرية بين المؤلف وبين محيي الدين بن عربي الذي يخبره انهم منذ أن دفنوا البياتي بجواره وهو هارب من قبره!! القصد من كل هذه الأمثلة والاستشهادات هو تقصّي التعبير النقدي لدى عبدالمنعم رمضان، النقد الذي سيتحول إلى فن خاص وأداء شخصي. ربما يشارك نقاد وقراء كثيرون الشاعر رؤاه ونظرته وتقديراته النقدية، وربما ينطلق هو بنفسه من مواصفات وتراكمات وممارسات نقدية ولكنه ينجح في اعادة استثمارها وتوسيعها وتعميقها بل ربما باختزالها ومحو زوائدها والتخلص من جفافها النظري والاكتفاء برطوبة المعنى المكتفي بذاته. الأرجح أن خصوصية عبارة عبدالمنعم رمضان تنبع من انتمائها اللغوي والتكويني للشاعر ولقراءاته الشخصية وخياراته الأسلوبية. قد نجد الرأي نفسه أحياناً عند شعراء ونقاد آخرين ولكنه، بالتأكيد، مكتوب بنفس مغاير. وهذا ما يمنح عبارة رمضان نكهتها وفرادتها ويمنحها، في الوقت نفسه، انتماءها الى عبارة مشابهة في النوع والطبيعة يمتلكها أقران وأشباه شعريون. لا يقول رمضان أشياء جديدة كلياً، بل أشياء بعضها جديد وبعضها مكتوب من وجهة نظر مجدِّدة أو منظور اليها من زاوية مختلفة. ومن الجدير بالملاحظة ان اقران الشاعر وأشباهه معظمهم ليسوا مصريين. لا أتكلم هنا عن توزيعات قطرية ووطنية واقليمية بل عن انتماءات وميول شعرية. الشعراء الأكثر ذكراً في الكتاب هم من غير المصريين، ويبدو لي ان رمضان يعلن في شكل واضح عن خلفية شعرية خاصة به وعن مكتسباته التي تفوقت فيما بعد على إرثه أو موروثه الشعري المحلي. رمضان يميل في كتابه الى مشهد شعري آخر ويطل على مناخات تجعله مصرياً وغير مصري في آن معاً، انه يحاول أن يشبه الشعراء الذين ما عادت مخيلتهم أو جنسيتهم بالولادة هي العامل الحاسم في تكوين مادتهم الشعرية وصوغها، بل ان القراءة الخاصة ومكتسباتها الذاتية هي التي تجعل منهم ومن قصائدهم مثالاً عابراً للحدود والسجلات والوثائق، وبهذا المعنى يمكننا أن نسأل ماذا يعني ان يكون توفيق صايغ وأدونيس والماغوط سوريين، وماذا يعني ان يكون أنسي الحاج وعباس بيضون ووديع سعادة لبنانيين. رمضان يدنو من هذا العالم الذي قد يجعلنا نسأل ماذا يعني أن يكون عبدالمنعم رمضان مصرياً. وهو في احدى صفحات الكتاب يكتب بنفسه انه "لبناني العصبية والجنسية، مصري الهوى والاقامة". ويكتب في مكان آخر قول عباس بيضون له: "من الضروري الكلام عن مزاج وشكل مصري للشعر يجعلك تفكر في أن تكتب خارج الشعر المصري من دون أن يعني ذلك أن تتخلى عن مصريتك التي يجب أن تظل بغير مثال بغير نموذج". بالنسبة الى عبدالمنعم رمضان "كل كتابة هي فعل على فعل وكتابة على كتابة"، ولعل هذا القول ينطبق على مجمل صفحات كتاب "الشهيق والزفير" المشغولة بكتابة هي تعليق على كتابة أخرى. كأن الكتابة تتجاور طوال الوقت مع كتابة ثانية قبلها أو بعدها، كأنهما هامش ومتن. والأرجح أن فعل المحايثة الذي قصده ميلان كونديرا في الاقتباس الذي بدأنا به يلتقي، من دون قصد، مع جملة رمضان التي تكاد تختزل عصب الكتاب ومادته كلها.