تأسس منذ أيام في بيروت "مركز مهدي عامل الثقافي"، ويذكرني هذا الحدث بتاريخ كان فيه للفكر العقلاني موقع يكافح منه بصلابة ضد محاولات متعددة الصيغ والمصادر لتزييف القيم، ولتسطيح المفاهيم وتفريغها من مضامينها التقدمية، ولتحويل الفكر الى سلعة. وكان مهدي عامل وحسين مروة وآخرون كثيرون من حملة هذا الفكر العقلاني ومن المناضلين حتى الاستشهاد دفاعاً عنه وترسيخاً لموقعه في بلداننا وفي حياة شعوبنا. وإذ غيّب برصاص الغدر، وبوسائل عنف ظلامي من أنواع أخرى، عن دنيانا، وعن ساحة المعركة فيها من أجل الحرية والتقدم والعدالة، كل من حسين مروة ومهدي عامل وصبحي الصالح وتوفيق يوسف عواد في لبنان، وفرح فودة في مصر، والسلسلة طويلة، فإن من مآسي أيامنا الراهنة ان حيزاً غير قليل من مكان أولئك الكبار من مفكرينا قد خلا لمن كانوا ولا يزالون في موقع النقيض الكامل أو الجزئي للفكر العقلاني الحر المفتوح على الجدل والحوار. فقد أدى سلطان الاستبداد والتخلف، وسلطان السلفية بأنواعها المختلفة، الى انكفاء عدد من اصحاب الفكر المستنير، والى تراجع حركة الاجتهاد والبحث. ولم يبق في ساحة المعركة الا نفر قليل من هؤلاء. وكان من نتائج ذلك ان اختلطت المدارس الفكرية ببعضها بعضاً الى الحد الذي كاد يصبح فيه التفريق بين التقدمي والرجعي في الفكر، وبين الثوري الرومانسي والثوري المزيف، وبين الماركسي والقومي، وبين القومي والديني، وحتى بين هؤلاء جميعاً في حالات معينة، مثل الموقف مما يجرى في العراق، كاد التفريق يصبح بحاجة الى مختبر والى حكماء والى محللين محلفين، وربما الى منجمين! وهيأ هذا الاضطراب في المواقف والاختلاط في المفاهيم الشروط لتعاظم دور الأصوليات الدينية على اختلاف أنواعها في حياتنا، والى هيمنة فكرها على الفكر السائد، والى هيمنة منطقها السياسي على السائد من السياسات، والى تحوّل سلوكياتها الى نمط يكاد يكون معمماً. غير ان مركز مهدي عامل الثقافي ليس الحدث الثقافي الوحيد من نوعه في الفترة الاخيرة. فقبل أسابيع قليلة عقد في بيروت مؤتمر جرى فيه إشهار مؤسسة لتحديث الفكر العربي برئاسة المفكر المصري العقلاني التنويري نصر حامد أبو زيد. وشارك في التأسيس وفي احتفال الاعلان عنه عدد كبير من مفكري البلدان العربية. وشكّل المؤتمر بعقده خلال ثلاثة ايام متتالية حدثاً ثقافياً مهماً. وكان النقاش في جلساته حراً وصريحاً وشجاعاً الى حدود التطرف. لا بأس. ذلك ان ما ينقصنا اليوم هو ان نستعيد شجاعتنا في القول لكي نستعيد قدرتنا على خوض المعركة من اجل حرية الفكر ومن أجل تحديث مفاهيمنا بشجاعة افتقدناها زمناً طويلاً. أقول ذلك لأن بعض المثقفين الذين شاركوا في المؤتمر أبدوا تحفظهم على بعض ما ورد من افكار نقدية جريئة للسائد من الافكار، وتحديداً للفكر الديني او لما يسوّق على انه الفكر الديني. وجوهر هذا الاعتراض - وهو موضوع حقيقي للنقاش - هو ان التقدم المبالغ فيه في النقد من اجل التحديث والتغيير يكاد يصبح في بعض الاحيان، بفعل عدم واقعيته وامكان ترجمته في الواقع، قريباً من نقيضه المتمثل بالاستسلام للسائد من الافكار، السلطوي منه والديني، الاستسلام الناجم عن تهيب خوض معركة حقيقية لمقاومة هذا السائد من الافكار والانتصار عليه كلياً أو جزئياً. وكان شهر آذار مارس من العام الحالي شهد مؤتمراً للاصلاح الديموقراطي في البلدان العربية احتضنته مكتبة الاسكندرية وحضره 170 مثقفاً عربياً. وصدر عنه بيان تضمن الكثير من الافكار الجديدة من دون ان يعكس كل ما جاء في المناقشات من جديد وجريء ومتقدم من افكار وآراء واقتراحات تتناول موضوع الاصلاح في بلداننا. وتعرض مؤتمر الاسكندرية هذا للنقد من عدد من المثقفين لأنه جرى برعاية رسمية، اذ ان هذه الرعاية أفقدته في الحقيقة الكثير من بريقه، وحدّت من فاعليته المحدودة اصلاً، ووضعت الجهد الذي بذل فيه في منتصف الطريق الى الاصلاح أو أدنى. والى جانب مؤتمر تحديث الفكر الذي عقد في بيروت ومؤتمر الاسكندرية شهدت العواصم العربية، ولا تزال تشهد منذ بضع سنوات، عدداً كبيراً من المؤتمرات والندوات تكاد تساوي، اذا ما أحصينا عددها ومواعيد انعقادها، ندوة او مؤتمراً في كل اسبوع من أيامنا الحافلة بالقضايا الكبرى المستعصية على الحل، والملأى بالازمات السياسية والاقتصاديبة والاجتماعية والأخلاقية. الا اننا اذ نعرض لهذه المؤتمرات والندوات على هذا النحو، فلسنا نريد من ذلك ان نقلل من أهمية الظاهرة. لكننا، في الوقت ذاته، لا نستطيع ان نقف امام هذه الظاهرة من دون ان نحلل جدواها ونتأكد من التأثير الذي أحدثته، والذي يمكن ان تحدثه في حياتنا، في حقبة من تاريخ بلداننا لعلها الاكثر مأسوية في العصر الحديث، العصر الذي يمتد الى نصف قرن ونيف من الزمن. هنا تطرح جملة من الاسئلة قد لا يكون من الممكن الاجابة عنها بوضوح. لكنها اسئلة تستحق ان تأخذ من تفكيرنا الحيز الضروري، لكي نخلص من ذلك الى استنتاج حان وقت الوصول اليه. اول تلك الاسئلة يتعلق بالجهات التي تعقد تلك المؤتمرات والندوات. من هي بالتحديد؟ ما هي مرجعياتها السياسية والفكرية؟ ما هي اهدافها الحقيقية المباشرة والبعيدة المدى هل تتساوى جميعها في الجدية، وهل ترمي جميعها فعلاً الى تحقيق ما تعلن عنه من اهداف؟ واذا كان ذلك كذلك، فما هي الخطوات العملية التي تشير الى تلك الاهداف؟ السؤال الثاني يتعلق بالطريقة التي تعقد فيها تلك المؤتمرات والندوات. هل هي فعلاً الطريقة التي تحقق الهدف المعلن منها؟ هل النقاش الذي يجرى خلالها بين المشاركين فيها هو نقاش يؤدي فعلاً الى محصلة ما؟ هل هو نقاش حقيقي؟ هل هو نقاش يحترم فيه الاختلاف والتعدد، ام ان التعدد الذي يشير اليه تنوع الحضور هو تعدد شكلي - كما يجرى في بعض المؤتمرات والندوات - ما إن ينتهي الاجتماع هنا وهناك حتى يخلو الداعون الى عقد المؤتمر او الندوة لكي يستخلصوا وحدهم ما يشاؤون من قرارات وتوصيات، تكون في العادة معدَّة سلفاً في كواليس ودوائر معينة؟ السؤال الثالث يتعلق بمصادر تمويل تلك المؤتمرات والندوات. ما هي هذه المصادر، وما هي اهدافها من صرف الاموال في عقد مؤتمر هنا وندوة هناك؟ ما هي علاقة المنظمين بالممولين، ومن هم هؤلاء وأولئك على وجه التحديد، سياسياً وفكرياً، محلياً في كل بلد، او اقليمياً، او عالمياً؟ يستثنى من السؤال أولئك الذين يعلنون بشفافية مصادر تمويلهم وطريقة توظيف المال واهداف هذا التوظيف. وثمة اسئلة اخرى من النوع ذاته ومن انواع اخرى. ولسنا نرمي من طرح مثل هذه الاسئلة لا التشكيك بأمانة أحد ولا توجيه الاتهام لاحد في اهدافه وغاياته. ولسنا نزعم ان من حقنا التدخل في شأن اي من القوى التي تقوم بتنظيم هذه المؤتمرات والندوات، سواء كانت تنتمي الى احزاب سياسية، او الى نقابات مهنية، او الى جمعيات مدنية متعددة الاغراض والاهتمامات، او كانت ذات صلة بجهة رسمية حكومية،. او كانت خليطاً من كل تلك القوى والاتجاهات. لكن ما يهمنا هو ان نرى على الارض الجدوى من هذه المؤتمرات والندوات، الجدوى ذات الصلة بتغيير الواقع الذي تعيش فيه بلداننا، الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتعليمي والعلمي. هنا بالتحديد جوهر المسألة. ذلك ان ما يمكن استخلاصه ببساطة، ومن دون جهد في البحث والاستنتاج، هو ان هذه المؤتمرات والندوات، او معظمها، انما تدور حول ذاتها ولا تنتج تغييراً، ولا تتوافر فيها الشروط لتحقيق تراكم من اي نوع، تراكم معرفي وتراكم تحليلي وتراكم تخطيطي، وتراكم في مجال تجميع الطاقات على قاعدة مشروع متكامل للتغيير، متعدد القوى والمرجعيات، موحد الوجهة والاتجاه. وهذا المشروع هو الذي يكثر الحديث عنه باسماء مختلفة. فهو بالنسبة الى البعض مشروع قومي للنهضة. وهو بالنسبة الى قوى اخرى مشروع للتغيير الديموقراطي، باسم الاشتراكية بمدارسها المختلفة، وهو بالنسبة الى قوى ثالثة مشروع اسلامي للتغيير يصعب فهم غاياته. وهو بالنسبة الى قوى رابعة مشروع عام للاصلاح يشمل جوانب الحياة كلها في بلداننا بالمفرد وبالجمع. وإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، فأين تكمن المشكلة؟ ثمة مشروع جواب وليس جواباً قاطعاً. ومشروع الجواب هذا يتلخص في نظرنا بأن ثمة خللاً حقيقياً تشترك البلدان العربية جميعها، على اختلاف أنظمتها، في الابتلاء به، يتمثل في تغييب السياسة وتعليبها وإضعاف الدور الذي تضطلع به السياسة عموماً في المجتمعات الديموقراطية. إذ هي، أي السياسة، تتخذ في بلداننا شكل مناورات تتحكم بها الحكومات القائمة وردائفها. وهي في مجموعها حكومات غير ديموقراطية، تنتمي الى سلطات أنظمة، استبدادية في جوهرها وإن كان بعضها يجري انتخابات ويقيم مؤسسات ويسمح بتأليف أحزاب ويشرع لها نشاطها. وغياب السياسة، أو تغييبها، يتمثل في ضعف دور الأحزاب عموماً، اليسارية منها خصوصاً واليمينية كذلك، وفي ضعف أو غياب البرامج التي تستند اليها الأحزاب عموماً في نشاطها وفي علاقاتها مع الجماهير وفي علاقاتها بعضها ببعض وفي علاقاتها مع قواعدها. ولم يعد صحيحاً ولا مقبولاً تبرير ما هو قائم بالقول ان الانهيارات الكبرى التي حصلت في مطلع العقد الأخير من القرن الماضي، واستئثار الولاياتالمتحدة الأميركية بقيادة العالم من دون منازع، وقيامها بحرب عالمية باسم مكافحة الإرهاب لإخضاع الشعوب، لم يعد مقبولاً ومسموحاً الاستناد الى ذلك لتبرير استمرار الأزمات القائمة في الأحزاب كلها، ولتبرير ضعفها في مواجهة الاستبداد والتخلف والفساد والتصدي للعدوان الخارجي بأشكاله وصيغه المختلفة في شكل صحيح ومنظم وليس بالعشوائية والعفوية القائمة حالياً. وبات ملحاً، ليس نقد الذات ومحاسبتها وحسب، بل السعي الحقيقي للخروج من واقع الأزمة، على قاعدة مراجعة نقدية حقيقية لا شكلية، واستنفار جميع القوى المؤهلة للقيام بمهمة التغيير، في الأحزاب ذاتها، وفي المجتمع ومؤسساته، وفي الدولة ومؤسساتها. وبات ملحاً فسح المجال أمام الأجيال الشابة لكي تلعب الدور الذي يعود لها في صنع مستقبلها، من خلال الإسهام في صنع مستقبل بلدانها. بل بات على هذه الأجيال الشابة ان تقتحم الساحات بشجاعة لكي تنتزع بنضالها دورها في التغيير. هنا، بالذات، تبرز أهمية الفكر والمفكرين، والثقافة والمثقفين. وهنا، بالذات، تبرز أهمية الديموقراطية في حياة الأحزاب والمؤسسات، وفي المجتمع وفي الدولة. وللديموقراطية مفهوم أساسي لا يغير فيه اختلاف الظروف والشروط والأمكنة والأزمنة. وعلينا أن نعترف بأنه لا مكان للإبداع في الفكر وفي التحليل وفي الاستنتاج، ولا مكان للمعرفة ولدورها، وللثقافة في فروعها كافة، إذا هي لم ترتكز جميعها الى الديموقراطية، والى حق الاختلاف، هذا الحق الذي تؤكده قوانين الحياة القائمة على التعدد حتى داخل الفرد الواحد. وتعيدني هذه التداعيات الى الفقرات الأولى من هذا المقال. فمن الواضح ان اهمية الأفكار هي في أهمية منتجيها. وأهمية هؤلاء هي في امتلاكهم حرية التفكير وحرية الدفاع عن الأفكار والجرأة في قول ما ينبغي قوله حتى ولو قاد ذلك صاحبه الى الاستشهاد. وما أكثر الأمثلة في عالمنا العربي عن مثل هؤلاء المفكرين وعن شجاعتهم وعن استشهادهم وهم يدافعون عن أفكارهم، التي اذ جهدوا في انتاجها فلكي يخدموا بها أوطانهم وشعوبهم الساعية الى الحرية والتقدم. إلا ان المفكرين والمثقفين عموماً ليسوا هم القادة الذين يصنعون التغيير. بل هم، من حيث المبدأ، ضمائر شعوبهم. وهم دائماً بحاجة الى حركات تغيير يكونون هم جزءاً مهماً فيها. فإذا غابت هذه الحركات أو ضعفت يصبح انتاج المفكرين والمثقفين عموماً من دون حماية، ويصبحون هم أيضاً من دون غطاء من دون مشروع، فتضعف قدرتهم على الابداع ويضعف إسهامهم في عملية التغيير. وينحاز بعضهم لجهات هنا ولجهات هناك. ويلتحق بعضهم بالسلطة القائمة، ينظرون لها ويخدمون مصالحها ومصالحهم المتخيلة. ويبقى فريق ثالث في حال بين حالتين: إما اليأس وإما العمل الفردي المثقل بالمتاعب بانتظار حدوث معجزة! مع العلم أن زمن المعجزات قد ذهب مع ذهاب أصحابه. فكيف نريد إذاً، في مثل هذا الوضع، أن يكون لهذا الحشد من المؤتمرات والندوات، وهذا الحشد من المؤسسات التي تنشأ، أن تقدم جديداً، وأن تسهم في إحداث التغيير؟ نقول ذلك ولا نيأس، ولا نقلل من أهمية الظاهرة المتمثلة بهذا العدد من المؤتمرات والندوات وبهذا العدد من المؤسسات الثقافية والمؤسسات المدنية التي يجري انشاؤها. فالظاهرة تبقى من حيث الأساس ظاهرة ايجابية. * كاتب لبناني.