ظاعادت مكتبة الاسكندرية الجديدة الى مدينة الاسكندرية بعضاً من بهائها التاريخي القديم. لكن زائر المدينة سرعان ما يشعر بالقلق من ان يخفف من وهج هذا البهاء المتمثل بالمكتبة تباطؤ الدولة المصرية العريقة في الدخول في حداثة العصر من ابوابها الديموقراطية المفتوحة على آفاق الحرية والتقدم الإنسانيين. ولذلك فقد كان لمجيء المثقفين المئة والسبعين من مصر ومن سائر البلدان العربية الى فضاء المكتبة الجديدة، تحت شعار الإصلاح الديموقراطي، معنى خاصاً يصب في الاتجاه الذي يقود - او يفترض به ان يقود - الى تصحيح الواقع القائم، ولو بالكلمات وبالأفكار الجريئة التي تعبّر عنها. فقد ولّد هذا الحضور الكثيف للمثقفين تحت هذا الشعار املاً - ولو بقدر - في ان تفتح كلماتهم وأفكارهم الشجاعة باباً كان - ولا يزال - موصداً امام طريق بلداننا الى النهضة. اقول ذلك مع اعتقادي بأن دور المثقفين، دورهم الأساسي، هو ان يكونوا ضمير شعوبهم وأوطانهم، وأن يكونوا حراساً للحرية والتقدم فيها. ذلك ان للتغيير قواه المنظمة في احزاب سياسية ومؤسسات مجتمع مدني. وهي القوى التي يفترض بها ان تضطلع بهذه المهمة وأن تجنّد المجتمع كله في النضال لتحقيقها، بمن في ذلك المثقفون الذين يختاون بإرادتهم ووعيهم الصيغ التي يرتأونها لانتمائهم الى هذه الحركة. ولهذا التغيير، بالضرورة، وسائله ووسائطه وأشكال النضال الملائمة لتحقيقه. وبهذا المعنى وبهذه الحدود تبرز اهمية مجيء المثقفين العرب بكثافة الى الاسكندرية، وإلى مكتبتها تحديداً، تلبية للدعوة التي وجّهت إليهم من خمس منظمات غير حكومية، مصرية وعربية، للمشاركة في مؤتمر "قضايا الإصلاح العربي - الرؤية والتنفيذ". وهي اهمية اكدتها النقاشات الغنية التي احتضنتها اربعة محاور سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. المكتبة ذاتها مؤسسة حكومية، وتتبع في شؤونها العامة لرئيس الجمهورية ذاته ولمسؤوليته المباشرة. وهو امر اعتبرت انه يندرج، في فهمي له، في خانة التفاصيل. وهي في هذه الحال المحددة تفاصيل ذات اهمية خاصة، لا يجوز التقليل من شأنها، ولكن يمكن تجاوزها في حدود معينة. ذلك ان اهتمامي بالمؤتمر، اسوة بالمثقفين الآخرين الذين شاركوا فيه، كان موجهاً في الأساس نحو اهداف المؤتمر. وهي اهداف راقية اشارت إليها بوضوح جملة اوراق اعدت مسبقاً، وتضمنت كل ما يمكن ان يخطر بالبال من افكار تتصل بالإصلاح في بلداننا في مجالاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الإصلاح الذي تعذر حصوله عقوداً طويلة، وبات تحقيقه حاجة موضوعية ملحة لكل بلداننا. ولأن عدداً من المثقفين ممن لم يحضروا المؤتمر، لأسباب تعود لمواقفهم هم او لمواقف مأخوذة منهم، واتخذوا موقفاً سلبياً منه لمجرد كونه جرى برعاية حكومية وفي ظل دعوة اميركية ذات طابع استعماري تطالب بالإصلاح في بلداننا، فكان من الطبيعي ان يطرح السؤال عن جدوى هذا المؤتمر، وعن جدوى امثاله من المؤتمرات، وعن امكان اسهامه وإسهامها في تحقيق الإصلاح، حتى وهي تُقعد في ظل الحرية، وحتى وهي تخرج بتوصيات واضحة وجريئة في تحديد القضايا الأساسية التي تواجه بلداننا، وفي تحديد المسؤوليات والمسؤولين عن اسباب تخلفنا وعن اسباب هواننا وعن اسباب الاستبداد والفساد السائدين والمعمرين في بلداننا. وللسؤال، هنا، وظيفة تتعلق بدور المثقفين في التغيير. وله شرعيتان اساسيتان يستند إليهما: شرعية مصدرها الطموح العميق عند شعوبنا العربية بأن تستعيد حريتها التي تغتصبها منها سلطات الاستبداد منذ عقود لكي تنطلق نحو التقدم، وشرعية مصدرها إحساس هذه السلطات بأنها تقف اليوم في منعطف، فإما ان تستجيب لطموح شعوبها في اعادة الحرية المغتصبة إليها وتسلك طريق التقدم، وإما ان تواجه مصيرها على يد الداخل الوطني والشعبي، بحق، او على يد الخارج الاستعماري، بغير حق. غير ان الجواب عن السؤال الآنف الذكر ليس سهلاً وليس تبسيطياً. والحوار حوله متشعب ومتعدد، تسود التناقضات صيغه الآتية من كل الاتجاهات. وهو امر طبيعي في نظري. ولا غرابة فيه. فالأوضاع السائدة في بلداننا تزداد سوءاً. والأزمة على مستوى الدولة والمجتمع فيها تزداد تفاقماً. والآفاق مظلمة. وفي ظل فقدان المبادرات والحركات من قبل قوى التغيير الديموقراطي تكثر المشاريع الآتية إلينا من الخارج بكل ثقلها وبكل ما تحمله من مخاطر على استقلال بلداننا وعلى حرية شعوبنا وعلى حاضرها ومستقبلها. الأمر الذي يجعل المواطنين، ومن بينهم جمهور من المثقفين يتزايد عدده في صورة مضطردة، يعتبرون بأن مسألة الإصلاح هي مسألة صعبة ومعقدة، وأن سلوك الطريق إليها يحتاج ليس الى الكلمات والأفكار الجميلة وحسب التي تصدر عن المثقفين، بل الى القوى التي تستطيع النهوض بمهمة تحقيق هذا التغيير. وهي قوى غير مهيّأة في الوقت الراهن لمثل هذه المهمة. ومن هنا يأتي التشكيك بالجدوى، وتأتي التصنيفات التي كثيراً ما نلجأ إليها في لحظات عجزنا عن تحقيق ما هو مفيد لبلداننا. وإذا كان على المثقفين ان يكونوا في ما يقولونه كتابة وشفاهاً صوت شعوبهم وأوطانهم وضميرها فإن ما جاء في محصلة مؤتمر الاسكندرية يعبّر بصدق عن هذا الأمر، على رغم الالتباس الذي تشير إليه علاقة السلطات بالمؤتمر وبمكان عقده وبالجهات الرسمية وشبه الرسمية التي انيط بها التحضير له، والظروف الدولية والإقليمية التي عقد المؤتمر في ظلها. فالمهم، بالنسبة إليّ وإلى كثيرين ممن شاركوا في المؤتمر وممن تابعوا اعماله ونتائجه، هو انه تمكن من ان يضع برنامجاً للتغيير الديموقراطي في بلداننا، يحدد، على رغم نواقصه الكثيرة، الأساسيات في هذا التغيير، على مستوى الدولة والمجتمع، وفي الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كلها. وهو ما لم تضطلع به حتى الآن القوى الديموقراطية العربية المتمثلة بالأحزاب صاحبة مشاريع التغيير القديمة والجديدة. وبتنا، في ضوء ما حصل، في هذا المؤتمر وفي امثاله من المؤتمرات التي عقدها المثقفون والتي سيعقدونها تحت شعار الإصلاح، امام معركة فرسانها ثلاثة: القوى الديموقراطية المستقيلة من مهماتها، من ناحية، والسلطات الرسمية الباسطة هيمنتها ابدياً، من ناحية ثانية، وقوى الخارج الاستعماري الضاغط على تلك السلطات بمشاريع وشعارات تخدم اهدافه ومطامعه السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية في بلداننا، من ناحية ثالثة. ولكل من هؤلاء الفرسان وسائله وأهدافه ورهاناته. والأساسي بين هؤلاء هو، بالنسبة الى شعوبنا، ما يتمثل بالقوى الديموقراطية المفترض انها حاملة مشاريع الإصلاح والتغيير. فإذا هي تبنّت هذا البرنامج وعمّقته وسددته تستطيع ان تسد الطريق على التدخل الخارجي وعلى احتمال تسوية من اي نوع بين السلطات القائمة والسائدة غصباً عن شعوبها وبين القوى الخارجية صاحبة وحاملة المشاريع الاستعمارية الجديدة الموجهة إلى بلداننا. وفي مثل هكذا احتمال، وهو الأسوأ في كل تاريخنا اذا ما حصل، سينفرط عقد المثقفين الديموقراطيين. وسيكون اليأس عند اجيالنا الشابة هو الأكثر حضوراً في حياتهم وفي نشاطهم. وتلك ستكون قمة المأساة التي ستواجهنا! اقول ذلك وأنا اعرف ان التاريخ لن يتوقف عند نقطة واحدة، وفي مكان واحد، وفي اتجاه واحد. اما كيف ومتى ستعود مسيرته الى الاتجاه الصحيح بعد حصول الانهيارات فأمر ذلك متروك للأجيال القادمة، او حتى للأجيال الحالية، إذا ما هي نهضت للاضطلاع بتلك المهمة. غبت عن الاسكندرية ثلاثين عاماً. والغياب عن الاسكندرية طوال هذا الزمن كان مثار أسى في الروح عندي. ذلك انني شغفت بهذه المدينة منذ زيارتي الأولى والوحيدة لها قبل ثلاثين عاماً. شغفت بتاريخها القديم والحديث. وتعرفت الى تراثها الفني من خلال بعض رموزها وفي مقدمتهم سيد درويش، ابو الموسيقى العربية الحديثة، الذي التقيت ابنه مصطفى البحر في تلك الزيارة، حيث غنّى لنا بعضاً مما لم نكن نعرفه من تراث والده الغنائي غير المنشور. وزرت يومذاك معالم المدينة. وتحدثت الى ناسها العاديين، وإلى كبار مثقفين فيها، وإلى كبار مثقفين مصريين كانوا يزورونها للراحة. واستقرت تلك الأحداث عميقاً في ذاكرتي وفي وجداني. ولذلك فقد كان اول ما قمت به لدى وصولي الى الاسكندرية لحضور المؤتمر المذكور القيام بجولة في احيائها ومعالمها. وكان اكثر ما اثار دهشتي واستغرابي ذلك البنيان المرصوص على الجانب المقابل من الكورنيش البحري الممتد عشرات الكيلومترات، البنيان الذي يشكّل جداراً ضخماً يعزل حياة المدينة الداخلية عن بحرها البهي الذي كانت تستمد منه ومن الآفاق اللانهائية فيه، على امتداد القرون العديدة الماضية، راحة للنفس، وأملاً دائماً بالتطور والتقدم، وحنيناً إنسانياً لا ينقطع الى تاريخ قديم يربط المدينة بالضفة الثانية من البحر المتوسط، حيث يقيم في احد معالمها مؤسس المدينة والمكتبة الاسكندر المقدوني. ولم أر في المدينة شيئاً جديداً سوى اتساع رقعتها الجغرافية وازدياد عدد سكانها وأناقة جديدة لكورنيشها البحري كان يفتقدها في الزمن الذي زرت فيه المدينة في المرة الأولى. إلا ان أروع ما في الاسكندرية ليس ما اشرت إليه من عمران تتشابه فيه المدن كلها. بل هو مكتبتها الجديدة، التي تحمل اسمها التاريخي. ووصف المكتبة شديد الصعوبة. فهي مدينة ثقافية حديثة قائمة بذاتها، تعيد الى مكتبة الاسكندرية مجدها القديم، وتستعد لتكون في العصر الحديث واحدة من اكبر المعالم الثقافية في العالم المعاصر. كانت القاهرة بعد الاسكندرية محطتي الثانية، السياسية والثقافية، في ذلك الأسبوع الحافل بالنشاط. ولي في القاهرة صداقات لا تحصى. وهي صداقات تعود الى نصف قرن من العلاقة المتعددة الأشكال التي تربطني بمصر. وكان طبيعياً ان يكون مؤتمر الاسكندرية محور نقاشاتي ولقاءاتي في القاهرة. وكان طبيعياً ان تبرز الاختلافات في الرأي حول ذلك المؤتمر. وإذ كنت احترم الآراء التي كنت اختلف معها في تقدير ذلك الحدث الثقافي والسياسي فإنني كنت اكرر للجميع وجهة نظري، ليس في موضوع المؤتمر وحسب، بل في ما يتعلق بدور المثقفين في هذه المرحلة الحرجة من تاريخنا. وهي مرحلة تتقاطع فيها ظاهرات الاستبداد التي عمرت طويلاً في بلداننا مع مشاريع استعمارية جديدة تتخذ لها اسماء مختلفة، اخطرها ادعاء اصحابها مساعدتنا في تحقيق اصلاح ديموقراطي عجزنا عن تحقيقه خلال عقود طويلة. ووجهة نظري الخاصة بدور المثقفين تتلخص في دعوتهم الى ان يكونوا، بصيغ مختلفة متعددة، صوت شعوبهم وأوطانهم الصارخ دفاعاً عن الحرية والتقدم والعدالة، ودفاعاً عن استقلال بلدانهم. وغني عن الإقرار بأن المثقفين ليسوا كتلة واحدة، ولا هم طبقة. بل هم مجموع افراد متميزين في مجالات اختصاصهم وفي فروع نشاطهم وفي ميادين ابداعهم. ولذلك فإن ما يميز سلوكهم العام هو القلق الدائم. وللقلق عند المثقفين وجهان: وجه يعبّر عن الحيرة في زمن التخلف والاستبداد، ووجه يعبّر عن المخاض الذي يسبق الإبداع في الأدب والفن والفكر والعلم وفي كل ما له صلة بالثقافة. ولأن المثقفين هم، موضوعياً، اياً كانت مواقعهم، جزء من حركة التغيير الديموقراطية عندما تنهض هذه الحركة بأعباء مهمة التغيير - لأن مصلحتهم ومصلحة ابداعهم تضعهم في قلب تلك الحركة - فإن مواقفهم تزداد وضوحاً واستقلالية عن السلطات بمقدار ما تقوى حركة التغيير هذه. اما اذا ضعفت هذه الحركة او تقاعس المعنيون بها عن القيام بدورهم فيها، فإن ذلك سيشكل مصدراً لقلق المثقفين ولحيرتهم، وتبريراً غير مبرر لالتحاق بعضهم بالسلطات القائمة حتى المستبدة منها. وهو ما نشهد نماذج منه متعددة الأشكال والمستويات في واقعنا الراهن. هنا، بالذات، تظهر وتتحدد مسؤولية القوى الديموقراطية المنظمة في احزاب وتجمعات مدنية في جعل دور المثقفين اكثر فاعلية في الاتجاه الصحيح. وهنا، بالذات ايضاً، تبرز الحاجة الى ان تنهض هذه الحركة للاضطلاع بمسؤولياتها قبل ان ينهار البنيان كاملاً على تاريخنا من الداخل والخارج على حد سواء. كانت نقاشاتي ولقاءاتي خلال تلك الأيام القليلة التي امضيتها في القاهرة مصدر غنى لي. التقيت بعدد من الرموز التاريخية في السياسة والثقافة التي اعتز بالصداقة التي تربطني بها. وأسماؤهم المعروفة هي موضع اعتزاز يتجاوز مصر الى ارجاء الوطن العربي كله. اذكر منهم، على سبيل المثال، لا الحصر، خالد محيي الدين واسماعيل صبري عبدالله ومحمود امين العام وعبدالعظيم انيس. * كاتب لبناني.