في الثامن عشر من ايار (مايو) 1987 اغتيل في أحد شوارع بيروت المفكر اللبناني المناضل، أستاذ الفلسفة وعلم الاجتماع في الجامعة اللبنانية حسن حمدان المعروف بإسم مهدي عامل، فتداعت حينذاك غالبية الهيئات الثقافية والاعلامية والجامعية في لبنان إلى اجتماع حاشد خرجت في نهايته بقرار جماعي قضى باعتبار يوم التاسع عشر من أيار من كل عام «يوم الانتصار لحرية الكلمة والبحث العلمي». لكنّ هذا اليوم بات يمرّ كل عام من دون أن يلقى الصدى الذي يستحقه، بل انه يكاد يصبح عرضة للنسيان. لم يكن مهدي عامل المثقف الوحيد الذي اغتالته قوى معادية لحرية الفكر والبحث العلمي، بل سبقه إلى الشهادة مثقفون كبار من أمثال كمال جنبلاط، وحسين مروة، وكمال الحاج، وتوفيق يوسف عواد، وأنطوان عبدالنور، والشيخ صبحي الصالح، وميشال سورا، وتبعتها سلسلة أخرى من ابرز ضحاياها جبران التويني، وسمير قصير، ناهيك عن أساتذة الجامعات، والسياسيين والاعلاميين، ورجال الدين ممن استشهدوا في حرب أهلية ما زالت نتائجها السلبية تتهدد مصير لبنان واللبنانيين. فكان لا بد من يوم يتذكر فيه اللبنانيون مثقفيهم الذي قضوا دفاعاً عن حرية الكلمة لأن سيف الاغتيالات والقمع والرقابة ما زال مصلتاً فوق رؤوس اللبنانيين مع تزايد نفوذ القوى الظلامية التي تعادي الفكر الحر، وثقافة التغيير والفن الملتزم بقضايا المجتمع والإنسان. وكان آخرها تهديد الشاعر أدونيس بالقتل قبل أيام قليلة، ومحاكمة عادل إمام على أعماله الفنية السابقة، وفرض رقابة صارمة على المسرحيات والأفلام والمسلسلات وغيرها... قراءة الواقع ترك المتنورون العرب تراثاً نظرياً متنوعاً، ونشروا مؤلفات علمية متنوعة في مختلف مجالات الفلسفة، والتاريخ، والثقافة، وعلم الاجتماع، والأدب، والشعر وسواها... وما زالت كتبهم تصدر في طبعات متلاحقة تؤكد راهنية فكرهم العصي على التجاهل أو النسيان. وعالجوا أثر الفكر الليبرالي والديموقراطي في حركة التحرر الوطني العربية، وفي شكل خاص التناقض بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج. وكانت لديهم رغبة واضحة في تجديد الفكر الليبرالي واستنباط ادوات معرفية جديدة تساعد على تحديد طبيعة الانتاج في مجتمعاتنا العربية. وكان هدفهم إبراز كونية المقولات الثقافية في عصر العولمة من جهة، وتحديد المهمات المطروحة أمام المتنورين العرب لتطويرها واستنباط مقولات إضافية تغنيها وتقدم تحليلاً علمياً رصينا للمشكلات التي تعانيها المجتمعات العربية مع اقتراح الحلول العقلانية لها من جهة أخرى. لذا قدموا محاولات جادة لقراءة النظرية على أرض الواقع من خلال الممارسة العملية للديموقراطية، إضافة إلى ما تحدثه الممارسة السياسية في الدول العربية من تشوهات هائلة بسبب طغيان التكتيك على الاستراتيجية والنتائج السلبية التي قادت إلى تراجع دور الأحزاب العقائدية ذات التوجه العلماني على الساحة اللبنانية. وما زالت تلك السلبيات تلقي بظلالها على العمل السياسي في لبنان بعد أن تحولت الطائفية إلى مذهبيات قاتلة تهدد مستقبل اللبنانيين. ومنهم من انتقد المقولات الأساسية للبرجوازيات العربية في نظرتها الى القضية الفلسطينية، معتبرين أن القوى الشعبية وليس البورجوازيات العربية، هي التي تحمل راية الدفاع عن فلسطين وتبدي استعدادها لتحريرها بكل الوسائل العسكرية والسلمية المتاحة. في حين أن ايديولوجيات البورجوازيات العربية هي إيديولوجيات نفعية في تعاطيها مع القضية الفلسطينية. وكانت على استعداد دائم للتخلي عنها، والمساومة عليها، والتآمر على قواها الطليعية الثورية، من منطلق الحفاظ على مصالحها الطبقية. وأصدر عدد كبير من المتنورين اللبنانيين دراسات بالغة الأهمية لمعالجة مشكلات الدولة الطائفية في لبنان. فنالت نصيباً وافراً من النقاش المستمر حتى الآن على الساحة اللبنانية. وحلل بعضهم بكثير من الدقة طبيعة النظام السياسي الطائفي السائد في لبنان. فقدموا رؤية علمية عرّت الصراع الاجتماعي المتزايد حدة على الساحة اللبنانية. وحاولت البورجوازية اللبنانية أن تحجب ذلك الصراع أو تموّهه من خلال تكثيف مقولات الايديولوجيا الطائفية التي منحت البعد الطائفي المرتبة الأولى في تحليل بنية الدولة والمجتمع في لبنان. فكان من ثمارها المرة تضخم الانتماء الطائفي وتحوله إلى انتماء مذهبي، وضمور الانتماء الوطني. وقد نجح النظام السياسي الطائفي في اعادة انتاج أدواته المعرفية، ومؤسساته السياسية على أسس طائفية يصعب اختراقها. وأنجز بعض المتنورين العرب دراسات مهمة في مجال نقد الفكر اليومي، رصدوا فيه الكثير من المقالات الثقافية التي كانت تصدر يومياً في الصفحات الثقافية للصحف اللبنانية. وانتقدوا المقولات النظرية السائدة التي تكشف التوجهات الفكرية والسياسية التي تستبطنها. وعالجوا السياسات التعليمية في لبنان التي أدت إلى ضرب التعليم الرسمي ومنع تطوره، لمصلحة التعليم الخاص الذي تهيمن عليه المؤسسات الطائفية. بقي أن نشير إلى ان حدة الانتماء الطائفي الذي يعيد انتاج النظام السياسي الطائفي في لبنان قد زادت كثيراً في السنوات القليلة الماضية، لكنّ الوجه الطبقي للسياسة التي اعتمدتها الدولة اللبنانية على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية لم يعد خافياً على الشباب اللبناني. فتبلور الرد العملي على تلك السياسة في ما نشهده اليوم من تبني الشباب اللبناني بصورة واضحة شعار: «الشعب يريد إسقاط النظام الطائفي في لبنان». أخيراً، شدد المتنورون العرب على البعد الاجتماعي للصراع في لبنان وبقية الدول العربية، وأبرزوا المواجهة الحقيقية بين القوى المنتجة في كل أشكالها النظرية والعملية، والفئات الرأسمالية اللبنانية الريعية في مختلف تجلياتها. وهو الصراع الذي لا يفسر فقط الأحداث الجارية على المستوى العربي، بل أيضاً على المستويين الإقليمي والدولي. فهناك شركات احتكارية عابرة للحدود والقوميات والدول تقودها عولمة همجية بصورتها الراهنة وترسم معالم تاريخ غير إنساني مسيطر حتى الآن. في المقابل، هناك قوى منتجة ومقموعة تريد بناء عولمة أكثر إنسانية تحترم الحقوق الأساسية لجميع الناس، وتعمل على إزالة التناقض لمصلحة القوى المنتجة في الدرجة الأولى. الفكر العلمي اليوم، وفي غمرة الانتفاضات الشبابية العربية، تحتاج قوى التغيير العربية إلى المقولات العلمية التي نشرتها كوكبة من الرموز الثقافية الكبيرة، العربية منها والعالمية. فقد تبنوا في دراساتهم مقولات عقلانية تساهم في بناء تصور عقلاني للعالم يزول منه القهر والاضطهاد والقمع والتخلف والأمية والبطالة... فتصدت النخب العربية لكل ما هو غير عقلاني في الثقافات السائدة، وتناولتها بالنقد البنّاء من موقع التغيير الشمولي. ولم يكتفوا بنقد المقولات الطائفية والدينية والقبلية، بل دعوا إلى التفاعل الايجابي بين المقولات النظرية والممارسة اليومية وكيفية تبلورها في التحالفات السياسية المرحلية بحيث لا يطغى التكتيك اليومي على صلابة المواقف الاستراتيجية الداعية إلى التغيير الشمولي. فكل ابتعاد عن الفكر العلمي يوقع دعاة التغيير الجذري في مغالطات ميدانية لا حصر له. وتم التشديد على مفهوم المفكر المناضل على غرار المفكر العضوي بالمفهوم الغرامشي لأنه ضرورة حيوية للفكر العلمي في سعيه لكي يكون ثورياً، وضرورة أن تكون الحركة الثورية علمية. ودعوا إلى كشف زيف الإيديولوجيا الشعاراتية التي تصدر عن مفكر بيروقراطي أو إيديولوجي دوغمائي يتقن فن الكلام الجميل ويعجز عن القيام بأي تغيير جذري شمولي. فحين لا يقوم الفكر بتحليل علمي للواقع الملموس يبدو عاجزاً عن إنتاج معرفة دقيقة تحلل الواقع بأدوات معرفية موضوعية وليس برغبات ذاتية. ولا تساهم مقولاته النظرية في تغيير الواقع العربي تغييراً شمولياً لمصلحة القوى المنتجة التي تطالب بالتغيير الجذري. توقع المتنورون العرب في زمن الانتفاضات الشبابية والشعبية التي عمت العالم العربي منذ عام 2011 فشل التغيير على المستوى العربي الشمولي بالتزامن مع فشل الفكر الحداثوي الغربي على المستوى الكوني بعد أن تحولت الحداثة إلى ممارسات شكلية للديموقراطية قادت إلى انهيارات متلاحقة، ونتيجة لذلك أسلمت الجماهير الشعبية العربية مصيرها موقتاً في مصر وتونس إلى قيادات تفتقر إلى الكاريزما الشخصية، وإلى الرؤية الثقافية، وتروج لشعارات دوغمائية غير قابلة للتنفيذ على أرض الواقع. فقادت الممارسة السياسية للقوى المسيطرة باسم الانتفاضة إلى إرهاب الطبقة الوسطى، بعدما عممت سابقاتها الفقر والبطالة والجهل والمرض، ودمرت نسبة كبيرة من الطاقات البشرية والموارد العربية. فكانت تلك السلبيات من الأسباب المباشرة لانتفاضات «الربيع العربي» التي تحتاج إلى مقولات علمية بصفتها أداة معرفية وليس إيديولوجيا دوغمائية. فالأحداث التي يشهدها عصر العولمة سريعة التبدل وتطاول العالم العربي في جميع دوله وشعوبه. وعلى المتنورين العرب أن يطوروا سلاحهم النظري بالتزامن مع تطور حركات الاحتجاج الشعبي، لتعزيز فرص التغيير المستند إلى معرفة دقيقة بالتبدلات التي يشهدها العالم العربي بكل تناقضاته، والعمل على تغييره بصورة شمولية. إنه زمن الانتفاضات الشبابية العربية التي استقطبت اهتمام غالبية الهيئات الثقافية والاعلامية والجامعية والشبابية والنسائية العربية. وتعيش المجتمعات العربية اليوم حالة غليان ثقافي تعجز فيها القوى الظلامية العربية عن قمع الكلمة الحرة والفكر المقاوم.