في الستينات من القرن الماضي كنت طالباً في معهد العلوم السياسية في احدى جامعات المانيا الاتحادية، حيث كان يدرسنا عدد من الاساتذة الزائرين من الجامعات الاميركية. في حينها كان الحديث يدور في عديد من الندوات الدراسية عن"نمط الحياة الأميركية"، على نحو يرفعها الى مرتبة ايديولوجيا في مواجهة النظرية الماركسية وأنظمة الحكم في الاتحاد السوفياتي وغيره من البلدان التي كانت تسير في الفلك السوفياتي. في سياق إعداد الطلبة لتقبل"نمط الحياة الاميركية"كانت الدعاية لتوسيع نطاق المعرفة ب"القيم الاميركية"محدودة وفي بدايتها. وفي السبعينات من القرن الماضي تحولت الدعاية لهذه القيم الى رسالة مقدسة على أيدي ألوية كانت فيما مضى يسارية وتحولت الى ما أصبح يعرف اليوم بالمحافظين الجدد، قادها أشخاص مثل ارفينغ كريستول ونورمان بودتوريتس وميغ ديكتر وغيرهم. كان هؤلاء يمثلون الجيل الأول للمحافظين الجدد. أما الجيل الثاني فنجده اليوم يحتل المواقع المركزية في الإدارة الاميركية الحالية مثل ديك تشيني ودونالد رامسفيلد وبول ولفوفيتز وريتشارد بيرل وكوندوليزا رايس. كلاهما"نمط الحياة الاميركية"و"القيم الاميركية"جرى رفعهما الى مرتبة ايديولوجيا في مواجهة العدو، مع ملاحظة ان القيم الاميركية اخذت مع الوقت تتحول الى رسالة مقدسة ينبغي فرضها على العالم كنمط حياة يعكس التفوق الاميركي في كل شيء وعلى كل صعيد. وجه الشبه ليس بقليل بين رسالة"القيم الاميركية"المقدسة وبين الايديولوجيا النازية. من أفكار نيتشه استوحى النازيون كذلك نظرية التفوق الألمانية التي كانت تقول هي الأخرى انه على ايدي قيم التفوق الألماني وحدها يتعافى العالم. نيتشه كان أحد الآباء الروحيين للحركة النازية، وكان يؤمن ايماناً عميقاً"بالرجل المتفوق"، وليس غريباً ان يكون ليو شتراوس، وهو تلميذ نجيب لنيتشه، أحد الآباء الروحيين لحركة المحافظين الجدد في الولاياتالمتحدة. كلاهما آمن بقوة بنظرية التفوق وما يترتب عليها من نظرة الى الحياة والعالم. ليو شتراوس هذا كان يمكن ان يكون أحد قادة الحركة النازية، لو لم يمنعه أصله اليهودي - السامي من ذلك، وقد جمع شتراوس بين إعجابه بالصهيوني اليميني المتطرف فلاديمير جابوتنسكي، الأب الروحي لليمين واليمين المتطرف في اسرائيل وبالحقوقي النازي كارل شميدت، الذي لمع نجمه كمدافع عن الحركة النازية في أعقاب حريق الرايخستاغ الألماني العام 1933. ومثلما كانت الحركة النازية نبتاً شيطانياً في المانيا آمنت بنظرية التفوق واستندت اليها في مغامراتها لإعادة صوغ العالم وفق رؤيتها السياسية والايديولوجية الخاصة بها، فإن حركة المحافظين الجدد في الولاياتالمتحدة هي الأخرى نبت شيطاني تؤمن بنظرية التفوق وتسعى الى اعادة صوغ العالم وفق رؤيتها السياسية والايديولوجية الخاصة بها. أنظمة الحكم في هذا العالم يجب ان تتغير، والقيم في هذا العالم يجب ان تتغير كذلك. حتى نظام الحكم في الولاياتالمتحدة يجب ان يتغير، فهو في مفاهيم حركة المحافظين الجدد ليس بالنظام الأمثل بقدر ما هو أقل الأنظمة سوءاً. وحتى أوروبا هي في مفاهيم هذه الحركة قارتان، أوروبا القديمة وأوروبا الجديدة، هكذا قسمها دونالد رامسفيلد في ضوء المواقف من الحرب التي كان يجري الإعداد لها ضد العراق. ايطاليا - بيرلوسكوني تنتمي الى أوروبا الجديدة التي تشارك حركة المحافظين الجدد رؤيتها للعالم كما يجب ان يكون، أما فرنسا - شيراك فهي تنتمي الى القديم الذي يقف حجر عثرة أمام جديد القيم الاميركية والتي باتت قيماً كونية حسبما جاء في خطاب الاستراتيجية الاميركية الجديدة التي أعلنتها الادارة الاميركية في العشرين من ايلول سبتمبر 2002، أي بعد عام واحد من الهجوم الارهابي على برجي التجارة العالمي في نيويورك. لا ينبغي التقليل من الانعكاسات الخطيرة التي يولدها المناخ السياسي والايديولوجي، الذي تعمل فيه حركة المحافظين الجدد، والتي تمسك بزمام الأمور في الإدارة الاميركية الحالية، انه مناخ كثير الشبه بمناخ الحركات الفاشية تطفو فيه على السطح مفاهيم التفوق في سياق عنصري استعلائي لا يعرف الحلول الوسط. من موقع الشعور بالتفوق يجري اختراع أدوات قياس خاصة للخير والشر، للمفيد والضار، للديكتاتورية والديموقراطية، وحتى ايضاً لحقوق الانسان كانسان. ألا يلفت النظر هنا مفاهيم حركة المحافظين الجدد في شأن الارهاب وحق الشعوب في مقاومة الظلم والاحتلال، مفاهيمها لدول محور الشر، بل موقفها من المحكمة الجنائية الدولية وقانون روما الأساسي وحصانة المواطن الاميركي من التبعات المترتبة على ارتكاب جرائم إبادة جماعية، أو جرائم حرب أو جرائم ضد الانسانية. كانت ادارة الرئيس السابق بيل كلينتون ضعيفة في دفاعها عن مفاهيم القيم الاميركية عندما وقعت في نهاية العام 2000 على قانون روما الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية. اما ادارة المحافظين الجدد فقد حرصت على تصويب الاوضاع عندما تراجعت في ايار مايو 2001 عن توقيع الادارة السابقة، واطلقت حملة واسعة ضد المحكمة الجنائية الدولية من خلال الاتصال بعدد من الحكومات في هذا العالم من اجل ابرام اتفاقات معها لضمان الحصانة من العقاب لمواطني الولاياتالمتحدة في حال توجيه الاتهام لهم بارتكاب جرائم حرب أو جرائم ابادة او جرائم ضد الانسانية. الولاياتالمتحدة دولة فوق القانون الدولي وجنودها الذين يحملون رايات الدفاع عن القيم الاميركية ويتحملون مسؤوليات نشرها باعتبارها قيماً كونية يجب ان يتمتعوا بالحصانة من العقاب. أكثر من 35 دولة عاقبتها حركة المحافظين الجدد في تموز يوليو 2003 بقطع المعونات العسكرية عنها لمجرد رفضها التوقيع مع الولاياتالمتحدة على اتفاق الحصانة من العقاب. هل في هذا امر جديد بالنسبة الى الولاياتالمتحدة؟ نعم هنالك من الجديد كثير من المفاهيم والمواقف على هذا الصعيد. غير ان هذا الجديد لا يخلو من قديم اميركي. نزعة التفوق المحصنة كانت موجودة في تاريخ السياسة الاميركية، بما فيها تاريخها الحديث. ذاكرة الشعوب لا تزال حية ولا تزال تذكر رسالة ذلك الجندي الاميركي الى عائلته عن مجزرة رهيبة ارتكبتها القوات الاميركية العام 1898 في الفيليبين، والتي راح ضحيتها الف رجل وامرأة وطفل في قرية فيليبينية انتقاماً لاحد الجنود الذي وجد مقتولاً خارج تلك القرية التعيسة. ولا تزال تذكر مجزرة ماي لاي الفيتنامية عام 1968 والتي راح ضحيتها خمسمئة رجل وامرأة وطفل ادعت القوات الاميركية انهم كانوا من رجال الفيتكونغ. وتكتمت ادارة الرئيس نيكسون عاماً كاملاً على المجزرة، وعندما انتشر خبرها على يدي جندي اميركي التقط صوراً للمجزرة عوقب قائد القوة العسكرية بالسجن مدى الحياة، ثم خفف الرئيس نيكسون الحكم الى عشرين عاماً ثم الى عشرة اعوام، واخيراً الى ثلاثة اعوام لم يقض منها في السجن غير ثلاثة ايام فقط. خسائر القوات الاميركية في القرية الفيتنامينة التعيسة كانت اصابة واحدة فقط،. جندي أميركي أسود اطلق النار على قدمه ليعفي نفسه من المشاركة في المجزرة البشعة. سماء التاريخ الاميركي لا يخلو من اكثر من ثقب اسود غير ان حركة المحافظين الجدد، التي تحكم سيطرتها على الإدارة الأميركية الحالية، أخذت تملأ، خصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، سماء الولاياتالمتحدة والعالم وسماء منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص بغمامة سوداء من خلال التبشير بإعادة رسم صورة العالم كما هي في ثقافة القيم الأميركية، والتي تعتبرها حركة المحافظين الجدد رسالتها المقدسة. وبالمناسبة، فإن ما يجري على أرض فلسطين على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلي يندرج في سياق منسجم مع المواقف والسياسات التي تتبناها حركة المحافظين الجدد. الغمامة السوداء هذه تغطي سماء العراق وتهدد بالانتشار في سماء المنطقة. العراق، وفق ادعاءات حركة المحافظين الجدد، هو منصة انطلاق لنشر القيم الأميركية بما هي قيم كونية في عموم المنطقة. وعندما تتكشف الممارسة، خصوصاً في"أبو غريب"عن قيم اجرامية تابعها العالم في وسائل الإعلام، تتحصن حركة المحافظين الجدد داخل أسوار قيمها هي وترفض الاعتراف بقيم أخرى أجمعت عليها الغالبية الواسعة من دول العالم التي أعلنت انضواءها تحت لواء المحكمة الجنائية الدولية وقانون روما الأساسي للعام 1998. ليس في الأمر شيء غريب، فما جرى في"أبو غريب"وفي غيره من معسكرات الاعتقال الجماعية التي أقامتها القوات الأميركية والبريطانية في العراق، لا يمكن عزله عن الهستيريا السياسية والايديولوجية التي أطلقتها حركة المحافظين الجدد من القمقم. وإلا كيف نفسر موقفها من تقدير الجنرال انتونيو تاغوبا الذي أكد أن الممارسات الفظيعة التي كانت تجري وربما لا تزال في"أبو غريب"تندرج في سياق سياسة منهجية تمارسها قوات الاحتلال ضد المعتقلين العراقيين. وكيف نفسر سلوك الجنرال ريكاردو سانشيز مع الدكتور محسن عبدالحميد عضو مجلس الحكم ورفضه السماح له بزيارة"أبو غريب"وقد كان يتولى في حينه رئاسة مجلس الحكم. وعلى كل حال، لم تكن صور المعتقلين في"أبو غريب"من صنع كاميرا خفية، بل هي كانت من صنع تعبئة سياسية وايديولوجية لحركة لا تشبه الفاشية فقط من بعيد، هي حركة المحافظين الجدد التي تحكم سيطرتها على الإدارة الأميركية الحالية وتطل على العالم بقاراته الخمس من المواقع الايديولوجية لكل من نيتشه وشتراوس. * عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. عضو المكتب السياسي للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين.