رحل «عراب المحافظين الجدد» ارفينغ كريستول عن هذه الدنيا قبل يومين، بعد أشهر قليلة على إخلاء تلاميذه وأنصاره مواقعهم في البيت الأبيض ومقرات السلطة المختلفة في الولاياتالمتحدة.كريستول الذي توفي في واشنطن عن 89 سنة، أصر في كتاباته الأخيرة، على أن حركة المحافظين الجدد لم تنته، بل تحولت جزءاً مكوناً من القوى المحافظة الأوسع. وبعدما رفض أفكار عدد من تلامذته الداعين الى نشر الديموقراطية وتعميمها في العالم بواسطة الجبروت العسكري للولايات المتحدة، باعتبارها مفرطة في المثالية، دعا الى استمرار بلاده في حماية الديموقراطيات في العالم، سواء في بريطانيا أو فرنسا أو إسرائيل التي تحتل موقعاً مهماً في منظومة آراء كريستول واهتماماته، من دون أن تكون مهمة الحماية هذه سبباً للغرق في التفاصيل السياسية والجيو - استراتيجية الإقليمية. النقطة المذكورة شكلت علامة ميزت كريستول في المرحلة الأخيرة من حياته عن بعض العتاة من اتباعه الذين احتفظوا بالبذرة التروتسكية (إذا جاز التعبير) في مشروعهم الأممي لنشر القيم والمعايير الأميركية في العالم. فكريستول الذي «صدمه الواقع» فتخلى عن التروتسكية وعن المساجلة مع الستالينية والشيوعية السوفياتية من موقع النقد من أقصى اليسار، أصبح في عيون نقاده كجوشوا مورافتشيك «انعزالياً وواقعياً جديداً». جاء كريستول الى صدارة الحياة السياسية والفكرية الأميركية من بيئة فقيرة من المهاجرين اليهود من شرق أوروبا، في نيويورك التي ولد فيها عام 1920 ودرس في إحدى جامعاتها المجانية حيث التقى بشبان باحثين عن معان جديدة للسياسة والثقافة في ذلك المحيط، وشكل معهم مجموعة «مثقفي نيويورك». كما انضم الى «رابطة الاشتراكيين الشبان» في الثلاثينات ليبدأ بالابتعاد عنها بعد عودته من ساحات الحرب العالمية الثانية في أوروبا، متخذاً مساراً جعله أحد مهندسي الفكر اليميني والمحافظ في النصف الثاني من القرن العشرين. ويلتقي كريستول في الخطوط العريضة لمقولاته مع أفكار ليو شتراوس في إبداء الحذر الشديد من الليبرالية لاحتوائها على مكونات عدمية اعتبرت الايديولوجيتان الماركسية والنازية مداها الأبعد. كما يشارك كريستول شتراوس في التقليل من أهمية الحقيقة نظراً الى عجز الأكثرية الساحقة من البشر عن تقبلها وفهمها، وضرورة إبقائها حكراً على نخب عالية الثقافة من المجتمع. إصدار عدد من المجلات مثل «كومنتري» و «ذي بابليك انترست» التي اعتبرت معاقل للكتاب الأكثر وضوحاً في العداء للاتحاد السوفياتي ولمشجعي «التهدئة» معه من الليبراليين الأميركيين، أدى الى تجمع ثلة من الكتاب والأكاديميين الشبان حول كريستول وزميله نورمان بودهورتيز. وبعيد وصول رونالد ريغان الى الحكم في أول الثمانينات، بدأ عهد جديد لكريستول وتلامذته الذين اختار ريغان بعضهم لشغل مناصب مهمة في إدارته منهم بول ولفوفيتز وريتشارد بيرل وجين كيركباتريك وغيرهم، ما أعطى كريستول ومجموعته مواقع قريبة من مراكز القرار والتحكم بالسياسات الأميركية الداخلية والخارجية سواء بسواء. صعود المجموعة هذه وصل الى ذروته مع فوز جورج دبليو بوش في الانتخابات الرئاسية فيما قدم الهجوم الإرهابي في 11 أيلول (سبتمبر) 2001 الفرصة التاريخية للمحافظين الجدد لتطبيق أفكارهم على اتساع العالم. فدفعوا في اتجاه مغامرة كونية نصابها نشر الديموقراطية والرأسمالية بالاعتماد على الوسائل العسكرية والسياسية المباشرة. ولم يغمض كريستول عينيه إلا بعدما ظهرت حدود النزعة الارادوية تلك التي ذهب فيها تلامذته الى اقصاها فانقلبت، بتحديها معطيات الاجتماع والتاريخ والسياسة في العديد من أنحاء العالم، وبالاً على الولاياتالمتحدة التي تسعى الإدارة الديموقراطية الحالية الى ترميم صورتها، من دون نجاح كبير كما يبدو. بيد أن كل ذلك لا ينفي واقع وجود كريستول والتيار الذي أنشأه وفي مقدمه ابنه وليام رئيس تحرير أسبوعية «ويكلي ستاندرد»، في قلب الحياة السياسية والفكرية الأميركية وبقاء التيار في الموقع هذا أعواماً مقبلة طالما أن المناخ السياسي الداخلي الأميركي والعلاقة المعقدة بين الداخل والظواهر العالمية الخارجية، يبقيان على شكلهما الراهن.