من يزور "كان" أياماً قبل مهرجانها السينمائي، أو يبقى فيها ولو يوماً واحداً بعد أن يختتم المهرجان أعماله، بالكاد يمكنه أن يصدق أن هذه هي المدينة نفسها. فهذه المدينة الفرنسية الجنوبية الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط والتي تغمرها الشمس شهوراً طويلة كل عام، تشتهر عادة بأنها مدينة العجائز الأثرياء والكلاب المرفهة والعنصرية الجامحة ضد كل ما هو أسود أو عربي. ومع هذا، ها هي المدينة نفسها وبتمويل من مجلس بلديتها الذي يموله أهلها، تستقبل مرة في كل عام واحداً من مهرجانات السينما الأكثر انفتاحاً في العالم... وإذا كان أهل "كان" أبدوا رضاهم دائماً على المهرجان، فإن هذا يعود، عادة الى ان "كان" اشتهر طوال عقود من السنين بكونه مهرجان النجوم والسينما الاستعراضية والفاتنات المستلقيات يحلمن عند شاطئ البحر وأمام عدسات الكاميرا بيوم النجومية العتيد. هذا الخليط كان يروق لأهل "كان"... ولئن كان في بعض المرات في الماضي جرت لخبطته مثلاً في العام 1968 حين وقع المهرجان في قلب أحداث أيار مايو الطلابيّة لذلك العام، فإذا بالسينمائيين يعلنون مواقف مؤيدة للطلاب الثائرين ويصلون الى حد الغاء الدورة" ومثلاً في العام 1989، حين تراءى لجماعة ثورية أرمنية ان تفجر قنبلة في المهرجان... وما الى ذلك، فإن سنوات عدة مرت بعد ذلك والعهد الوثيق قائم بين عجائز "كان" ومهرجانها. ولكن خلال السنوات السابقة بدأ يظهر ما لم يكن في الحسبان في أفق المهرجان... فالأميركيون الذين هم عادة الأوفر حظاً في حب كان لهم، بدأوا يقللون من حضورهم، أو بالأحرى راح يتزايد غياب الأميركيين التقليديين ليحضر مكانهم أميركيون مشاكسون - أوروبيون تقريباً -، وراحت أصوات السياسة تتعالى في سماء المدينة، وبدأ السكان يحسون بنكهة غريبة كان واضحاً انهم لا يحبونها كثيراً. نجوم ونجوم ولكن هل هناك حقاً، خلال أيام المهرجان من يهتم بمزاج سكان "كان" الأصليين؟ أبداً بالتأكيد... والدليل أن أصوات السياسة راحت تزداد حدة، بدلاً من أن تخفت، وصارت خلال العامين أو الثلاثة الأخيرة، تبدو وكأنها تحرك ثورة فكرية حقيقية. بل أن زمن النجوم نفسه بدأ يبدو وكأنه يولي... أو على الأصح صار النجوم شيئاً آخر غير أولئك الذين اعتاد جمهور "كان" عليهم. في الحقيقة صار المخرجون هم النجوم الحقيقيون... وهذا الأمر يصل في هذا العام الى ذروته. صحيح أن هناك براد بيت وتشارليز ثورون ونيكول كدمان وعشرات غيرهم من كبار نجوم الشاشة الأميركية، وصحيح أن السينما الفرنسية أرسلت الى "كان" بعض كبار نجومها، كذلك فعلت السينما الصينية على تنوعها، إذ هناك ثلاث من كبار نجماتها: ماغي شونغ، غونغ لي وجنغ لي، ولكل منهن فيلم سيخلب الأبصار، على الأقل لفتنة بطلته... كما أن السينما العربية ستكون، هذا العام، ممثلة بدءاً من الأيام المقبلة بنجوم من طينة يسرا ومحمود حميدة ولبلبة وربما أيضاً ليلى علوي. لكن الحقيقة أن هؤلاء جميعاً سيكونون نجوماً أمام كاميرات الصحافة فقط. أما بالنسبة الى الجمهور العريض وجلّه من هواة السينما وأهلها الحقيقيين، فإن النجوم، هذا العام بالتحديد، يحملون تلك الأسماء التي صارت ذات رنة: امير كوستوريتسا، بيدرو المودوفار، ايتان وجويل كون، مايكل مور، وولفغانغ بيترسون، جان لوك غودار وانغ كار واي، جانغ ييمو، والتر ساليس، ريمون ديباردون... وقد يصح أن نضيف يوسف شاهين وعباس كياروستامي بين بضعة أسماء أخرى. والحقيقة ان اجتماع هذه الأسماء، ومن يضاف اليها، في "كان" هذا العام يحسب ضمانة لجودة ما لدورة هذا العام. فكيف إذا أضفنا الى هذا مجموعة أسماء قد تبدو اليوم غريبة على الأذن، ولكنها تخوض تجربة الوصول الى العالم من طريق "كان"، ونعني بها مجموعة المخرجين الجدد الذين يقدم كل منهم عملاً أوّل له في "كان" ومن المرجح أن يصبح خلال سنوات قليلة تالية من أبناء "كان" المعتادين. طبعاً لن نزحم القارئ بأسماء قد لا يعرف عن معظم أصحابها شيئاً، لكننا نقول له منذ الآن أن بعضاً منهم سيكون على مدى الأسبوعين المقبلين حديث الأفلام وبخاصة منها تلك المحبة للاكتشاف. المهم في الأمر أن اجتماع هذه الأسماء وتلك، هنا، في مهرجان "كان" لهذا العام، قد لا يكون من فعل الصدفة... ومع هذا لا يبدو أنه مقصود تماماً. كل ما في الأمر انهم معاً يشكلون زبدة ما ينتج في السينما العالمية، أميركياً وأوروبياً وفي بقية أرجاء العالم. وإذا كان معظم ما يعرض هو من نوعية الأفلام التي تحمل هماً، بل هموماً، فما هذا إلا لأن السينما، وعلى خلاف بقية الفنون، صارت هي ضمير العالم في زمننا هذا... صارت هي المكان الذي تتزاحم فيه الأفكار وتعلو فيه صرخات المشاكسة. ويقول الفكر الحر غضبه وألمه ازاء ما يحدث في هذا العالم. وما يحدث في هذا العالم مؤلم بالطبع... وإيلامه لم يبدأ طبعاً، لا مع 11 أيلول سبتمبر، ولا مع حرب العراق ولا حتى مع حرب البوسنة، ولا حتى، صعوداً في الزمن حتى جذور القضية الفلسطينية. القضايا التي لا تنسى ايلام عالمنا المعاصر بدأ منذ زمن... وسيقول لنا ريمون ديباردون "الغرفة العاشرة" العروض الرسمية، خارج المسابقة انه من نتاج فقدان العدالة وفساد القضاء. في المقابل سيفيدنا يوسف شاهين "الغضب" انه مرادف لخيبة الناس من حلمهم الأميركي الذي "أواه... كم كان جميلاً!". أما مايكل مور فإنه في رائعته الجديدة "فهرنهايت 9-11" سيكشف لنا "أكاذيب" السلطات الأميركية ازاء ما حدث يوم نُسف البرجان، غائصاً في التحليل ليتوقف عند العلاقات التجارية بين والدي عدوي اليوم اللدودين: جورج بوش الأب والد جورج دبليو ومحمد بن لادن والد أسامة، الذي سيقول لنا مور ان له أباً آخر هو وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية... ومن جهته يأتي يسري نصرالله ليذكِّر في "باب الشمس" بأن للقضية الفلسطينية جذوراً انسانية ربما تكون سياسة اليوم باتت ميالة الى نسيانها، وها هي السينما تقول انها لن تنسى. فماذا عن حرب البوسنة؟ حسناً، هنا يأتي أمير كوستوريتسا ليتحدث عن هذه الحرب على طريقته الخاصة - من خلال مقابلة ضارية في جديده "الحياة معجزة" بين مهندس صربي قتل البوسنيون ابنه، وها في عهدته الآن رهينة بوسنية مسلمة يمكنه إذا شاء قتلها ثأراً لابنه... لكنه يقع في غرامها. واضح ان هذا الفيلم يذكر في شكل أو في آخر ب"أرض لا أحد" الفيلم البوسني الذي عرض في "كان" قبل سنوات وأثار من السجال يومها ما أثار. ويقيناً ان التشبه بهذا الفيلم كان من آخر هموم صاحب "اندرغراوند"، فما همه؟ همه أن يقول كم أن حرب البوسنة كانت عبثية... كما أن همه هو أن يرد على "أشباه المثقفين الذين كانوا في فرنسا هاجموا فيلمه "اندرغراوند" قبل سنوات متهمينه بالتواطؤ مع الصرب من دون أن يروه". اليوم يعود كوستوريتسا الى "كان" بعد غياب وبعد "زعل" طويل، وكله أمل في أن يفتح فيلمه جراحاً يجب ألاّ تندمل، مع أمل آخر بأن يحقق بفيلمه الجديد هذا، سابقة تاريخية لو فاز بالسعفة الذهبية، إذ تكون هذه ثالث مرة يفوز فيها بالجائزة "الكانية" الأسمى وهو ما لم يسبقه اليه أحد في تاريخ هذا المهرجان. بيدرو المودوفار بدوره كان "حرداناً" من مهرجان "كان" وهو انطلاقاً من ذلك "الحرد" عمد الى عرض فيلمه السابق "تكلم معها" أسابيع قبل عقد دورة "كان" للعام الفائت، مفوتاً على تلك الدورة فرصة الحصول على تحفة سينمائية نادرة. والحال ان النقاد وأهل المهنة يجمعون اليوم على أن "تكلم معها" كان من شأنه أن يحصل على "السعفة" لو عرض في "كان" الفائت... ولو فعل لكان حقق للمخرج الاسباني الغريب الأطوار ثأراً على دورة سابقة ل"كان" استنكفت عن تقدير القيمة الحقيقية لفيلمه الأسبق "كل شيء عن أمي". صحيح يومها ان الفيلم فاز بجائزة أفضل مخرج، لكن الأصح أنه كان يستحق، حقاً "السعفة الذهبية". أما المودوفار فكان يريد من لجنة التحكيم أن تعطي ممثلات الفيلم الثلاث معاً، جائزة أفضل تمثيل نسائي، طالما ان فيلمه ذاك كان في الأصل تحية لممثلات السينما الكبيرات، من بيتي ديفز، الى فيفيان لي، الى جينا رولندز. غضب وفضح حسناً... اليوم زال غضب المودوفار، كم هدأ غضب كوستوريتسا. أما "غضب" شاهين فمتجدد وحاد، ولكن ليس ضد مهرجان "كان" بل ضد أميركا بوش. وما فيلمه "الغضب" في حقيقته سوى تحية ضمنية الى أميركا الأخرى، أميركا القيم الفنية وهوليوود الخمسينات والحلم الأميركي الصادق. وبالنسبة الى شاهين... ليس نحن من خان الحلم الأميركي ولسنا نحن من بادر بإظهار العداء لأميركا... بل هي السلطات الأميركية المتعاقبة. والعقلية الأميركية المتحجرة والمتعجرفة التي أوصلت جورج دبليو بوش الى السلطة، فإذا به ينسف كل ما كان جميلاً ورائعاً في القيم الأميركية. وإذا به يضاعف من حجم خيبتنا. ان يوسف شاهين في "الغضب" يبدو ضمن اطار نغمة واحدة مع مايكل مور. غير ان البرازيلي والتر ساليس، والشيلي كوزمان، يأتيان في فيلم لكل منهما ليذكرانا بأن جذور الخيبة الأميركية تمتد الى أبعد من بوش، الأب والابن، والى أبعد - في الزمن - من حروب الخليج. فمن خلال أفلمة صفحات جذابة من مذكرات كان عثر عليها بين أوراق الثائر الأرجنتيني تشي غيفارا بعنوان "يوميات سائق دراجة" يحقق والتر ساليس فيلماً يعود بنا أكثر من خمسين عاماً الى الوراء يوم كان غيفارا بعد شاباً ثائراً حالماً رومنطيقياً، يتحول في أميركاه اللاتينية تحسساً لحال الشعب وتلمساً لامكان الثورة ضد اليانكي. أما كوزمان فإنه يعيدنا الى 11 أيلول آخر، حدث قبل أيلول برجي مركز التجارة العالمي بنحو ثلاثة عقود من الزمن العام 1973، أي يوم انقلاب الجنرال بينوشيه على زعيم الوحدة الشعبية في الشيلي سلفادور اللندي، مدعوماً من أجهزة الاستخبارات الأميركية وجنرالات البنتاغون... ومن خلال تلك النهاية يستعيد كوزمان في فيلمه، ويذكرنا بتلك الأحداث التي يمكننا، حقاً، أن نفسرها على ضوء ما يحدث في أيامنا هذه. أو بالأحرى: يمكننا أن نفسر معظم ما يحدث في أيامنا هذه على ضوئها. ضمير العالم والحقيقة أن هذا كله ليس سوى غيض من فيض دورة سنرى كم أن السياسة تحيط بها من كل جانب: منذ الافتتاح الذي بهر فيه بيدرو المودوفار الجمهور بفيلمه وأصابع الاتهام التي يوجهها الى منظومة التربية في المدارس الكاثوليكية الى الختام الذي سيسهب فيه يوسف شاهين بالحديث عن تربيته السينمائية... وعن أربعين عاماً وأكثر من العلاقة مع أميركا، مع السينما ومع الأحلام المجهضة. ومع هذا، فإن السياسة لن تكون كل شيء... حتى وإن كانت هي التي تبدو طاغية، حتى كتابة هذه السطور، والمهرجان لا يزال في أيامه الأولى. ذلك أن هناك السينما أيضاً كموضوع للسينما: السينما في السينما حاضرة أيضاً، وكذلك منذ الافتتاح مع المودوفار، اذ ان "التربية السيئة" هو أيضاً فيلم عن مساره السينمائي وعن تأسيس حركة "الموفيدا" السينمائية التي كان هو زعيمها وبطلها الأكبر... وهي حاضرة حتى الختام المزدوج: ختام تظاهرة "المسابقة الرسمية" مع "دي لافلي" عن حياة الموسيقي كول بورتر - صاحب أجمل أغنيات فرانك سيناترا وايللا فيتزجيرالد - كما ختام تظاهرة "نظرة ما..." مع فيلم شاهين. والسينما أيضاً تكرم من طريق فيلم الأخوين كون "قاتلو النساء" الذي هو اعادة تحقيق لفيلم انكليزي من اخراج الكسندر ماكندريك كان حقق في الخمسينات... لكن اللافت بعد هذا كله هو أن معظم الأفلام التي نتحدث عنها هنا انما هي أفلام تعرض خارج المسابقة، لا داخلها... فهل هذا يهم حقاً؟ ليس كثيراً... إذ صحيح أن السعفة الذهبية وغيرها من الجوائز الكبرى في المهرجان هي على الدوام محل تطلع الكثير من السينمائيين. ولكن ثمة ذهنية جديدة لا بد من الإشارة اليها... ذهنية تتعلق تحديداً بهذا المنحى الجديد الذي بات مهرجان "كان" يتخذه أكثر فأكثر لكونه "منبراً لقضايا العالم" من طريق الفن الأكثر حساسية وتطلعاً الى التعبير عن هذه القضايا: فن السينما. وحسبنا للإشارة الى هذا أن نذكر كيف ان "باولنغ من أجل كولومباين" فيلم مايكل مور السابق والذي أقام الدنيا ولم يقعدها برز أول ما برز في "كان". وكذلك الحال في العام الفائت حين قدم لارس فون تراير من خلال "دو غفيل" أنشودة حول العدالة والثأر، وغاس فون سانت فيلماً روائياً هو "الفيل" يكمل ما بدأه "باولنغ من أجل كولومباين"، فيما شاهدنا في "ضباب الحرب" روبرت ماكنامارا يتحدث عن هزيمة أميركا في حرب فيتنام، وفيلماً من كمبوديا يفضح ممارسات الخمير الحمر... الى آخر ما هنالك. وفي رأينا أن حسب "كان" أن يعبر على هذا النحو عن ضمائر سينمائيي العالم حتى يستخلص من ذلك قيمة كبرى.