في طريق العودة من واشنطن، حيث استضافته قاعة المكتشفين في الجمعية الجغرافية يستضيف متحف فيتوريانو في العاصمة الايطالية معرض الفنان - وزير الثقافة المصري - فاروق حسني تحت عنوان دال "الرمز واللون"، يضم المعرض 28 عملاً فنياً اكرليك على قماش - اكرليك على ورق في قياسات مختلفة تغطي مرحلة السنوات الثلاث الأخيرة التي تميزت عن المراحل السابقة بملامح مختلفة ظاهراً وجوهراً. من المفارقات التي تلازم الإبداع، الحاجة الى "شرح" ما يتقصده هذا الابداع من تورية وإبهام يشكلان أحياناً جوهره وقصده. وتبدو هذه المفارقة جلية في الفن التجريدي حيث الخط الفاصل الدقيق لا يكاد يبين بين المفاهيم العقلية والروحية، بين حسابات المنطق وقوانينه الصارمة بمعادلاته الرياضية والبصرية من جهة، وما تمليه التجربة الروحية المتحررة من هذه الالتزامات والحاجة الى الخروج على السائد والمألوف من جهة ثانية. في الأعمال المبكرة للفنان فاروق حسني كانت الإشارات واضحة الى نزعته التعبيرية الحالمة كونه أولى عناية خاصة لانفعالاته وتجربته الشخصية بعيداً من الوظائف التصويرية التقليدية التي تعطي للصورة معنى عقلياً. فالفنان القادم من الاسكندرية، المدينة التي منحته منظومته اللونية المتسقة بتضادها وائتلافها، بصراحتها الموزعة على الامداء المفتوحة على البحر والسماء والصحراء ووفرت عليه عناء البحث عن لغة لونية، مثلما وفرت عليه الحضارة المصرية بحضورها الطاغي عناء البحث عن الهوية المحلية، وهكذا تفرغ لسبر اغواره والأنسياق وراء دوافعه الوجدانية والروحية التي كلما تقدمت تجربتها مالت الى التخفف من مظاهر الحياة العابرة والزهد بعطاياها، فبدا تقشفها جلياً في الاشارات والأشكال المبهمة. في الأعمال المعروضة يحتفي الفنان بالحياة على طريقته، حياة بين الظاهر والخفي، يصعب فهمها من دون الرجوع الى التجربة السابقة التي أوغلت في تقصي اشراقات الروح، كانت اللوحة فيها تعبيراً روحياً مطلقاً، زاهدة باللون والزخارف البصرية، الاشارات فيها اثر مبهم يهوّم بعيداً عن الحياة العابرة. لم يكن ثمة معنى محدد قابل للمعرفة في رحلة العرفان تلك. وحتى الاشارات القليلة المتبقية على السطح المعدّ بعناية للاستبطان وليس للنظر، كانت تبدو أشبه بآثار حدثت بفعل الزمن وليس بقصد مباشر من الفنان. وباختصار كانت تلك محاولة للامساك بالزمن المطلق ولم تكن تعني أو تتقصد الغواية البصرية. بعد تلك المرحلة جاءت الأعمال المعروضة التي بدا فيها الفنان أشد اقبالاً على الحياة: الاشكال تسبح في فضاء واسع ورحب أكثر حيوية وحركة، وبناء اللوحة يميل أكثر الى التأليف الموسيقي والألوان أكثر حرارة وبهجة. ولعل ميل الفنان الى التعبير التلقائي الحر جعل أعماله مفعمة بالحياة... الرمز في اللوحة يُختصر الى حدوده القصوى مثلما تختصر الحكمة الكلام ويتحول الزمن في التجرية السابقة أمكنة مختزلة هي الأخرى الى حدودها القصوى... إنها أمكنة/ ألوان. غير ان هذا الانتقال، من الزمان الى المكان، من المطلق الى الآني او المحدد جاء بهدوء ولم يحمل الأوزار التي يفترضها التحول عادة، مثل التنكر للصفات التي عرفتها المراحل السابقة او التغيير المفتعل بدافع التجديد مثلاً. فهو بقي وفياً لروافد تجربته الأولى وإن اختلفت علاقاتها بحسب المناخ الذي يمليه الدافع العاطفي. فاللون ليست له صفة أو وظيفة محددة سلفاً خارج النسق الذي يضعه الفنان فيه داخل اللوحة وكذلك المفردات البصرية التي يتشكل منها العمل الفني، كل شكل يمكن ان يحمل المعنى وضده، أو يولد الاحساس ونقيضه - وهنا يكمن جوهر الابداع - وقد رسم الفنان بالاستناد الى الذاكرة البصرية عينها وبالألوان ذاتها الأمكنة التي مرَّ عليها زمنياً في تجربته السابقة.