لا يمكن اعتبار طارق متري مدينة على جبل: عن الدين والسياسة في أميركا كتاباً في السياسة وإن قاربها في شكل من الاشكال، اذ لم يتوقف عند الراهن السياسي بقدر ما ذهب به بعيداً باتجاه البحث عن جذوره وأصوله، بغية الكشف عن تاريخ العلاقة الملتبسة بين الدين والسياسة في الولاياتالمتحدة. وبحكم تكوين متري الأكاديمي وانتسابه المذهبي فإنه يمتلك افضلية تفوق غيره للتحدث في هذا الموضوع عن معرفة وتخصص في الوقت نفسه. ذلك انه يقر بداية ان الحديث عن الدين في أميركا من حيث علاقته بالسياسة هو في حقيقته حديث عن "دينين"، فهناك دين الكنائس والحركات الاحيائية وسائر الجماعات الدينية الجديدة التي تحدد ذاتها اولاً بحسب العقيدة التي تؤمن بها و"الدين المدني" الذي يحدد معايير اخلاقية وسلوكية للأمة والذي تشترك فيه، وإن بأقدار متفاوتة، اكثرية الأميركيين. ثم يتوقف متري عند مصطلح الأصولية الذي يرى انه ينتمي في الاصل الى التاريخ الديني الخاص للولايات المتحدة، وتتحدد الأصولية تعريفاً بالحركة البروتستانتية الأميركية المعارضة لليبرالية باسم اليقين ان الكتاب المقدس هو كتاب الحقيقة، روحاً ونصاً، ولا تشوبه اخطاء تاريخية وعلمية، لكن تصاعد الأصولية تلك في الولاياتالمتحدة انما يستند في اساسه الى تصاعد ملحوظ في نسبة التدين في الولاياتالمتحدة، ذلك ان 40 في المئة من الاميركيين يقولون انهم يرتادون الكنيسة اسبوعياً، وهذه نسبة عالية جداً، كما ان هناك 90 في المئة منهم يؤكدون انهم يؤمنون بالله، وهذه نسبة عالية ايضاً في مجتمع تسمح الفردانية والحرية للناس بأن يفصحوا عن شكهم او لا أدريتهم اذ ما شاؤوا ذلك. لكن التدين في أميركا وفي غالبه اشبه بالطقسي حتى ولو ظهر على ألسنة الرؤساء الأميركيين، ألم يقل ايزنهاور في احدى المرات "انه لا معنى للحكم ما لم يتأسس على ايمان ديني عميق، ولا يهمني اي ايمان كان" ولذلك فجميع الرؤساء الاميركيين ينطلقون من احترام الدين لدى الاميركيين وإن بصيغة عصرية غير ملزمة. اذ يشير احد تقارير معهد دراسة الدين الاميركي ان هناك 1586 جماعة دينية في الولاياتالمتحدة، منها 700 جماعة اطلق عليها التقرير تسمية جماعة غير تقليدية بمعنى انه يتعذر تصنيفها كمذاهب داخل الاديان العالمية التاريخية المعروفة. ومن هذه الجماعات الفرق التي خرجت عن المسيحية وصارت مذاهب مستقلة كالمورمون وشهود يهوه. اما اليهود في الولاياتالمتحدة فهم يتوزعون على ثلاث جماعات رئيسة: الاصلاحيون والتقليديون الارثوذكسيون والمحافظون. وهذه الجماعات أقرب للمذاهب البروتستانتية من حيث بناها التنظيمية وانواع نشاطها الديني والعلاقات في ما بينها. اما الأديان الاخرى فهي بحسب الاحصاءات الاكثر جدية عام 2000 والتي أحصت المنتسبين الى كيانات دينية فقد جاءت كالتالي: هناك 140 مليون اميركي، اي اقل بقليل من نصف مجموع السكان، اعضاء في جماعات دينية، وهذه النسبة هي اقل في شكل ملحوظ من نسبة البالغين الذين يختارون او يفضلون هذا الدين والمذهب او ذاك وهم 95 في المئة من الاميركيين. يتوزع ال140 مليون منتسب الى "كيان ديني" على 66 مليون بروتستانتي و62 مليون كاثوليكي و6 ملايين يهودي و4 ملايين من المورمون و6،1 مليون من المسلمين ومليون واحد من المسيحيين الارثوذكس و200 الف من اهل الديانات الشرقية. على رغم دقة هذه الاحصاءات النسبية، فإن بها اخطاء واضحة، ذلك ان الارثوذكس بحسب التقديرات الكنسية المختلفة، يبلغون 4 او 5 ملايين، الا ان هذه الارقام تشمل الارثوذكس الاسميين وعدداً من الذين انقطعوا عن كنائسهم الاصلية بفعل الزيجات المختلطة. وعلى غرار الارثوذكس، تشير التقديرات الاسلامية الى ان عدد المسلمين يتراوح بين 5 و6 ملايين، نصفهم من الاميركيين السود والهنديين، فيما يتوزع النصف الثاني على 15 في المئة من اصول عربية و35 في المئة وفدوا الى أميركا من شبه القارة الهندية ومن بلدان اخرى في آسيا وافريقيا. لكنه، ويمكن القول انه مع انتخابات عام 1960 الرئاسية اقحمت المسألة الدينية في شكل غير مسبوق وعلى رغم ان كاثوليكياً ترشح لرئاسة الجمهورية عام 1928، فإن خوض جون كينيدي معركة الانتخابات أثار مخاوف واعتراضات بروتستانتية وكأن الامر نوع من الخرق لقانون غير مكتوب، لكن كينيدي تعامل مع هذا الحذر ببراعة، قبل انتخابه وبعده، ونجح في اقناع الاميركيين بجديته حين دعاهم للالتفاف حوله باسم المستقبل على اساس الانتماءات الدينية. وشدد كينيدي على اهمية التقدم العلمي. لقد كان كارتر اول رئيس أميركي مارس الوعظ الديني وقد كان مبشراً معمدانياً يجهر بأنه مسيحي "مولود من جديد" ويعتز بتجربته كمعلم في مدارس الأحد، لكن انصاره الانجيليين المحافظين سرعان ما انقلبوا ضده لمواقفه في الشأنين الداخلي والخارجي، والتي تعطي لحقوق الانسان اهمية معيارية اكبر مما يسميه المحافظون "قيم أميركا المسيحية"، وفي انتخابات عام 1980، دخلت حلبة المنافسة السياسية هيئات مسيحية محافظة، مثل "الاكثرية الاخلاقية" التي اسسها القس جيري فالويل محذرة من الكارثة التي ستنزل بأميركا بسبب ابتعادها عن المسيح وسقوطها في الانحطاط الخلقي، بيد ان جيمي كارتر خذل في مواجهة ريغان الذي صوتت لمصلحته غالبية جمهور الانجيليين المحافظين. ومع وصول بوش الثاني الى الرئاسة في عام 2000 والذي حصد الكثير من اصوات الانجيليين المحافظين، والذين ايدوا حربه على العراق، في حين وقفت كنائس "الخط الرئيس" البروتستانتية والكاثوليكية والارثوذكسية" ضد الحرب وأجمعت على رفض الحرب اللاأخلاقية وغير الشرعية، بيد ان قوة الحجة الاخلاقية واللاهوتية المعارضة للحرب لا تعني ان ميزان القوى في المجتمع الاميركي وبين المسيحيين خصوصاً قد تغير في شكل ملحوظ، ذلك ان القيادة المسيحية الرافضة للحرب، لم توفق في تعبئة الرأي العام المسيحي في الولاياتالمتحدة قياساً مع أوروبا. واكثر من ذلك اذ لم تؤد محاولة الكنيسة المشيخية التأثير على اعضاء الكونغرس الى اي نجاح يذكر، ذلك ان 33 من اصل 43 عضواً من اعضائه ينتمون اليها صوتوا مع الحرب ضد العراق، وتفردت احدى نائبات الحزب الديموقراطي من الذين عارضوا الحرب بالقول ان لوجهة نظر الكنيسة التي تنتمي اليها تأثيراً كبيراً على قرارها. لقد ظهرت صورة الكنيسة المشيخية في الكونغرس بالمقلوب. فأكثرية النخبة الدينية المشيخية عارضت الحرب فيما دعمتها اكثرية النخبة السياسية ذات الانتماء المشيخي. وهذا ما يدعونا للنظر في التعارض بين أجنحة النخبة المسيحية، الدينية والسياسية، وفي التفاوت بين القيادة الدينية والقاعدة التي ينتمي اليها عدد من ابناء النخبة السياسية. ففي شباط فبراير 2003 أظهر استطلاع للرأي ان نسبة الاميركيين المتدينين المؤيدين للحرب على العراق اعلى من النسبة العامة في المجتمع الاميركي. لقد بدا الامر مفاجئاً للكثيرين لأن الكنائس الاميركية، ما خهلا الاستثناء المعمداني الجنوبي، عارضت الحرب ولأن الانجيليين المحافظين لسوا بحسب معظم التقديرات اكثر من ثلث المسيحيين. وهنا تكمن في شكل جلي أهمية هذا الكتاب الذي يبدد الكثير من الاوهام الشائعة والمتداولة بغزارة حول علاقة الدين بالسياسة وبخاصة في الادارة الاميركية الحالية، ذلك انه وبحكم الاحصاءات والارقام التي يقدمها يكشف الكثير من التداخلات السياسية والاقتصادية والذاتية والاعلامية والتي تتدخل في صنع الرأي العام الاميركي الذي يبذل العرب جهداً مضاعفاً لكسب وده ولكن من دون جدوى. * كاتب سوري.