أسئلة كثيرة، وحركة واسعة، أثارهما حديث شارون حول"نيته"إخلاء مستوطنات قطاع غزة وسحب الجيش الإسرائيلي إلى داخل إسرائيل، والانفصال عن الفلسطينيين من جانب واحد دون ترتيبات مسبقة مع السلطة الفلسطينية أو تنسيق ميداني مع طرف ثالث. ويبدو لي أن الحركة لن تهدأ في وقت قريب، والوصول لمعرفة حقيقة نيات شارون والحصول على إجابات شافية للأسئلة كيف ومتى وإلى أين سيتم الإخلاء والانسحاب لن يتحقق بسرعة. وبرغم ضبابية الموقف وعدم وضوح الخطة، أظهرت استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي أن أغلبية كبيرة تؤيد خطة شارون وتحبذ تنفيذها بسرعة بغض النظر عن الاعتبار المعنوي المتعلق بالمنتصر والمهزوم في هذا الانسحاب. ويعتقد بعض الإسرائيليين أن الانسحاب من قطاع غزة ذو الكثافة البشرية العالية يزيل جانبا من الخطر الديمغرافي ويقلص خسائر إسرائيل البشرية والاقتصادية. بالمقابل، أظهرت تصريحات قادة في الجيش وأجهزة الأمن والاستخبارات أن لدى المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تحفظات قوية على بنود رئيسية في الخطة وبخاصة مسألة السيطرة على المعابر والحدود. وأظهر خطاب شارون في الكنيست يوم 15 آذار مارس 2004 واجتماعات ليكود أن الخطة غير مكتملة وتواجه معارضة حزبية قوية ولا تحظى بموافقة معظم قادة وكوادر حزب ليكود الذي ينتمي له شارون، ويرفضها أيضا معظم أطراف الائتلاف الحكومي اليميني. وعند التصويت حصل خطاب الخطة على 46 صوتاً مقابل 45، أي بفارق صوت واحد فقط. وأشهر أعضاء"حزب الاتحاد الوطني"الشريك في الحكومة معارضتهم للخطة بالامتناع عن التصويت. وعبر أعضاء حزب ثان عن رفضهم مضمون الخطاب بالتغيب عن حضور جلسة التصويت. وما كان لرئيس الحكومة شارون أن ينجو من الفشل والسقوط في هذا الاختبار لولا إعلانه أنه يعتبر التصويت على خطابه بمثابة تصويت على الثقة بالحكومة، وصار شارون يفكر جدياً في أجراء استفتاء شعبي حولها بعد إقرار صيغتها النهائية. ورغم معرفة الإدارة الأميركية كل هذا وذاك وتيقنها بأن خطة شارون يكتنفها غموض وتواجه صعوبات كثيرة، إلا أنها اعتبرتها خلاقة وأظهرت اهتماماً كبيراً بدرس تفاصيل بنودها. وظهر تحفظها فقط في التشديد على ضرورة انسجام الخطة مع رؤية الرئيس بوش"التاريخية"حول حل النزاع وعدم تجاوز خريطة الطريق التي صاغتها اللجنة الرباعية الدولية لتنفيذ الرؤية. ولم تكتفِ إدارة بوش بإظهار الاهتمام بالخطة وفحصها مع أركان شارون ومساعديه الذين زاروا واشنطن موفاز وأولمرت وسيلفان شالوم ومدير مكتبه دوف فايسغلاس وأرسلت وفد ترويكا أميركية للمنطقة وليم بيرنز وأليوت أبرامز وستيف هادلي مرتين للتدقيق في تفاصيل الخطة وموقف الأطراف العربية والقوى الحزبية في إسرائيل منها واستشفاف أفق اليوم اللاحق على التنفيذ. ومحاولة التفاهم مسبقاً على كيفية تناولها أثناء زيارة شارون لواشنطن التي طال انتظارها. وكلفت إدارة بوش القيادة المصرية التحرك واستطلاع حقيقة مواقف الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني من الخطة. وعاد دور مصر بعدما ظل شارون يرفضه، وزار إسرائيل ومناطق السلطة الفلسطينية مدير المخابرات المصرية الوزير عمر سليمان ومستشار الرئيس المصري أسامة الباز ودققا في تفاصيل الموقف الفلسطيني وفي الخيارات المتاحة في حال شروع شارون في التنفيذ. وفي السياق ذاته زار زعيم المعارضة الإسرائيلية شمعون بيريز واشنطن، وأجرى أركان الإدارة الأميركية اتصالات مكثفة مع حكومات عربية واستقبلوا وزير الخارجية الأردنية مروان المعشر، وطار الملك عبد الله الثاني إلى إسرائيل لاستطلاع حقيقة موقف شارون وبحث قصة السياج وانعكاساته على عملية السلام ودول المنطقة. فهل التحركات الأميركية والموحى بها أميركياً تشير إلى تعاطي إدارة بوش مع خطة شارون باعتبارها خطة خلاقة قابلة للتنفيذ قبل انتخابات الرئاسة الأميركية في تشرين الثاني نوفمبر المقبل؟ وهل يتصور بوش وأركانه أن تنفيذها ينهي العنف الإسرائيلي الفلسطيني المتواصل منذ أواخر عام 2000 ويعيد عملية السلام إلى مسارها الصحيح؟ هل يعتقد أركان بوش أن شارون"رجل السلام"طرح مشروعه هذا حرصاً على السلام ولتمكين صديقه"الحميم"الرئيس بوش من تحقيق إنجازاً ملموساً على جبهة النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي يقدمه للناخب الأميركي بأمل تغطية فشله في تحقيق الأهداف التي حددها لحربه على العراق ؟ أعتقد أن أركان إدارة بوش وقادة حملته الانتخابية يعرفون أن خطة شارون لا تزال في طور البلورة والتدقيق وأنها قابلة للزيادة والنقص. وليسوا سذجا لدرجة اعتماد الخطة في المعركة الانتخابية أو التعامل معها وكأنها خشبة الخلاص لإنقاذ عملية السلام من مأزقها القاتل، وأن تنفيذها ممكن في وقت قريب ويمكن استثمارها في تعزيز مكانته الرئيس بوش وتقربه من الفوز على منافسه في الانتخابات. وأظن أن الحركة القوية التي خلقتها خطة شارون وضمنها اللقاءات الأميركية - الإسرائيلية في تل أبيب وواشنطن أكدت لأركان بوش وجود تباين أميركي - إسرائيلي حول عدد من بنود الخطة لا يمكن تسويتها خلال الفترة القصيرة الباقية للانتخابات. وأن مطالب شارون وشروطه السياسية والجغرافية والمالية لتنفيذ الخطة لا يمكن تلبيتها في مرحلة الانتخابات، وتنسف خريطة الطريق وتقيد الدور الأميركي لاحقاً في عملية السلام. ويعرف أركان بوش خاصة في مؤسسة الاستخبارات المركزية أن شارون لن يشرع في تنفيذ الخطة قبل الانتخابات الأميركية، هذا إذا اتفق مع نتانياهو وسيلفان شالوم وأركانه الأمنيين على بنودها. وبعضهم قال علنا إن مصلحة إسرائيل العليا تقضي منح ورقة خطة الفصل والانسحاب لمن يفوز بالإقامة في البيت الأبيض. إلى ذلك، يرفض شارون التنسيق مع السلطة الفلسطينية ليس لأنها لا تمثل شريكاً جدياً في عملية السلام، بل لأنه يرفض أن تكون خطته جزءاً من خريطة الطريق وخطوة على طريق الانسحاب حتى حدود عام 1967 المعروفة دولياً بما فيها حدود قطاع غزة مع مصر. والكل يعرف أن البدء في تنفيذ الخطة من جانب واحد يضعف موقف السلطة الفلسطينية ويقود إلى الفوضى ويزيد في تدهور الوضع الأمني داخل قطاع غزة ويؤجج الصراع على طول حدوده مع إسرائيل، ويحوله إلى قاعدة يتم فيها ومنها تطوير القوى والوسائط اللازمة لتصعيد العمل العسكري ضد إسرائيل. وهذا يسلط الأضواء على الفشل الأميركي في معالجة النزاع، الأمر الذي يلحق ضرراً فادحاً بحملة بوش الانتخابية بدلاً عن مساعدته. والتفسير المنطقي لموقف إدارة بوش الايجابي من خطة شارون يكمن، كما اعتقد، في أنها استمرأت لعبة إخلاء المستوطنات والفصل والانسحاب الشارونية، وراحت تستخدمها في تقطيع الوقت حتى الانتخابات في تشرين الثاني المقبل، وتجنب التصادم مع شارون، وإلهاء الفلسطينيين والعرب عن مطالبتها احترام التزاماتها وتعهداتها وإجبار شارون على وقف مصادرة الأراضي ووقف بناء جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية وفي محيط مدينة القدس. وتستخدمها أيضاً في شل دور اللجنة الرباعية الدولية المعنية بمتابعة تنفيذ خريطة الطريق وتعطيل محاولات دول الاتحاد الأوروبي وروسيا الخجولة التحرك لإنقاذ عملية السلام من الجمود في مرحلة الانتخابات الأميركية. وبصرف النظر عن رأي الإدارة الأميركية في خطة شارون يسجل لصاحبها نجاحه بامتياز في تحقيق مكاسب داخلية وخارجية كثيرة من دون أن يدفع ثمنها: فهو دغدغ رغبة غالبية المجتمع الإسرائيلي في فصل إسرائيل عن قطاع غزة وتدارك التآكل الحاصل في شعبيته على خلفية زيادة خسائر إسرائيل البشرية وتدهور الوضع الاقتصادي في عهده. طمس تدهور علاقة إسرائيل الخارجية. تماشى مع رغبة الجيش في الخروج من مستنقع غزة الذي لا قيمة استراتيجية للبقاء فيه. أشغل الرأي العام الإسرائيلي بقصة الانفصال والانسحاب وإخلاء غزة من المستوطنات وتراجع الحديث عن تورطه في استغلال الموقع وفساد وأولاده وتلقي الرشوات. وفرض خطته نقطة رئيسية على جدول أعمال القوى الإقليمية والدولية المعنية بعملية السلام واستقرار أوضاع المنطقة وأصبحت البديل العملي لخريطة الطريق المتداول في سوق السياسة المحلية والدولية والإقليمية. وتحت ستار دخان الخطة وسع شارون بيكار عمليات القتل والتدمير، وطوّر مستوى عمليات الاغتيال وأمر باغتيال قادة حماس ونجح في اغتيال مؤسسها الشيخ أحمد ياسن فجر يوم 22/3/2004. ومضى قدما في بناء جدار الفصل العنصري مشروعه الرئيسي للتوسع وتدمير مقومات قيام دولة فلسطينية. وقدم مخرجاً للإدارة الأميركية لتبرير صمتها على بتنفيذه المرحلة الأولى من الخريطة وبخاصة إخلاء المستوطنات غير"القانونية"التي بنيت في عهده. ويأمل شارون بأن تساهم خطته في بلبلة محكمة العدل الدولية وتشويش موقفها بشأن بناء الجدار. ويبدي تفاؤلاً بأن تساعد الخطة في إقناع صديقه الرئيس بوش بأهمية استكمال الجدار لإتمام الانفصال، وضرورة تمويل الخزينة الأميركية مشروع توسيع التجمعات الاستيطانية الرئيسية في الضفة الغربية لاستيعاب المستوطنين الذين سيتم ترحيلهم يوماً ما من القطاع من دون الالتزام بتاريخ محدد للرحيل. لا شك في أن انسحاب الجيش الإسرائيلي من أي بقعة من الأرض الفلسطينية وإخلاء أي مستوطنة يعتبر مكسبا وطنيا، خاصة إذا تمت العملية من دون شروط ومن دون ثمن مقابل. وإذا كان مصير خطة شارون لا يزال مجهولاً وقد لا يكون أفضل من مصير المشاريع والأفكار الأميركية والمصرية والأوروبية والدولية الكثيرة التي استهلكها الطرفان في مرحلة الانتفاضة المسلحة - شارون، فالحديث عن الانسحاب الشامل وإخلاء غزة من المستوطنات يظل مفيداً ويمثل سابقة مهمة يمكن البناء عليها واستخدامها فلسطينياً وسورياً في معالجة سؤال الاحتلال والاستيطان في الضفة والجولان ولكن بعد الانتخابات الأميركية وليس قبلها. * كاتب فلسطيني.