كانت الدكتورة بنت الشاطئ عائشة عبدالرحمن، توفيت 1998 رمزاً للنساء اللواتي يعملن على قراءة التراث الديني ونصوصه بعين النقد الادبي، ويعود التمثل بها الى مرجعيتها العلمية في الدراسات القرآنية والادب العربي، وغيرتها على جنسها وجيلها من نساء جيل النهضة في مصر. فقد تابعت على نحو متواصل اصدار الدراسات القرآنية التي لم تطرق بابها او تطل من نوافذها المرأة المسلمة على مدى عمر الاسلام الطويل. وطبقت منهجية التفسير البياني للقرآن الكريم في تفسيرها لأربع عشرة سورة ولم تقبل اي امرأة على هذا العلم قبلها. ثالثاً: ادخلت قضية المرأة الى وعيها منذ ان افاقت على التمييز الممارس ضدها وضد حقها في التعليم، فلم تنس ان تسجل دراسات تخص الفلاحة المصرية والشاعرة العربية وتراجم بيوغرافي سيدات بيت النبوة. وأخيراً عالجت "المفهوم الاسلامي لتحرير المرأة" وكأنها تقر بأن هناك مفهوماً اسلامياً وغير اسلامي لتحرير المرأة العربية، فسبقت طروحاتها طروحات الكثير من الاكاديميات، مسلمات وغير مسلمات، يعملن اليوم على المنظور او المعرفة النسوية للاسلام. وتعمل هؤلاء، مجتهدات او علمانيات، على اعادة صوغ معرفتنا لاشكالية حقوق المرأة في الاسلام. اذكر على سبيل المثال لا الحصر المصرية ليلى احمد في "المرأة والجنوسة في الاسلام" النسخة الانكليزية، 1992 والاميركية باربرة سترووسر في "النساء في القرآن، الاحاديث والتفاسير" 1994. ولو ان بنت الشاطئ قبل وفاتها اجتمعت حول طاولة مستديرة مع ليلى احمد وباربرة سترووسر واستضافت ايضاً فاطمة المرنيسي، المغربية الناشطة، لكانت اصيبت بدهشة وسعادة لا توصفان. فمن جانب ستسر ان في طرحها قضية المرأة والاسلام كانت هي الرائدة، ومن جانب آخر ستدهش لأن هذه الطروحات اصبحت خطاباً يحسب له حسابه في مجالات التنمية الانسانية وتوجيه الانظمة السياسية وجهة جديدة وتغيير ذهنية الرجل العربي. وستعرف ان الخطاب تطور بحيث ولّد لنفسه مصطلحات: مثلاً نستخدم اليوم "النسوية" بدل "النسائيات" كاستراتيجية اصلاحية وتغييرية لمصلحة هوية للمرأة مستقلة ومتحررة. ونتكلم على نظام للعلاقات بين الرجل والمرأة، يتعلق بالتاريخي والاجتماعي لا بالطبيعي والجوهري، نسميه نظام "الجندر او الجنوسة" الذي يميز بين ما هو ذكورة وما هو رجولة وما هو طبيعي وما هو ثقافي الخ. وستخبرها هؤلاء النسويات ان هوياتهن معولمة وينتمين الى مؤسسات اكاديمية اميركية او بريطانية او مغربية، اي انهن ملونات ليس بالمظهر الخارجي فحسب، انما بالنظرة الواسعة الى هذه القضايا. وأمام هذه الاستضافة المتخيلة من الاستاذة بنت الشاطئ للأستاذات ليلى وباربرة وفاطمة - اللواتي يتمتعن بأكثر من ثقافة واحدة ويتكلمن اكثر من لغة واحدة - ستقف بنت الشاطئ بمظهرها الدمياطي البسيط وثقافتها العربية الاسلامية الواحدة ولغتها الأم الواحدة، ستقف مرتبكة، ستقف في موقع الدفاع عن النفس الذي قضت حياتها فيه لتذكر الاستاذات بنضالها الريادي في قضية المرأة ولتأكد لهن مع احادية ثقافتها وموقفها الكلامي في الدفاع عن الاسلام ولغتها غير المتعددة انها جاءت بالفعل بلاهوت متحرر للمرأة المسلمة بسبب كونها المرأة المسلمة العالمة التي تمثلت بذور الوعي والانتماء الحضاري، ولأنها احد الرموز الفكرية والنسائية العربية التي اسهمت في انتاج خطاب قرن بأكمله هو قيد الدراسة اليوم. سأختصر هنا ما ألقت بنت الشاطئ، في لقائها المتخيل - على زميلاتها الحداثيات - القول في مفاهيم سبق وحاضرت فيها منذ اكثر من ثلاثة عقود اول شباط/ فبراير 1967 لتذكرهن بتقرير المبدأ وتسجيل السابقة حول "المفهوم الاسلامي لتحرير المرأة". وفي هذا العرض سنتعرف الى نسوية بنت الشاطئ المنفتحة على جدلية الامور والواعية لاستغلال الرجل للمرأة باسم الاسلام حيناً وباسم العرف احياناً اخرى. وبدأت بنت الشاطئ الكلام: الفارق بيننا وبين امهاتنا ان هذه المرأة العربية الجديدة، تحقق وجودها تحقيقاً مباشراً وأصيلاً، من دون ان تلتمسه وتستجديه منحة من رجلها وتفضلاً: إن شاء اعطى وان شاء منع. ومن دون ان تلجأ في ممارسة حقها في الوجود، الى الاحتيال والدهاء والمكر، على نحو ما كانت تفعل نساء الحريم. اعني بذلك ان حقي في الحياة ذاتي وأصيل، كحق الرجل سواء بسواء، من دون ان اتصور كما تصور جيل امي، ان هذا الحق عادة ممنوحة، بل من دون ان يتعلق هذا الحق بارادة رجل، او يتقيد بكوني ألد أو لا ألد، أنجب ذكوراً او لا أنجب! وتلفظ بنت الشاطئ تنهيدة في حرقة وتتابع: فحق المرأة في الحياة ذاتي وأصيل، وهو في كتاب الاسلام فينا"، فهذا الكتاب لم يشر قط من قريب او بعيد الى حكاية خلق حواء من ضلع آدم، بل يقر اننا جميعاً من نفس واحدة سورة النساء - الآية الاولى. فحرية المرأة في المفهوم الاسلامي هو كمال انسانيتها بكل ما يتعلق بهذه الانسانية من حقوق، وما تحتمل من تكاليف وتبعات. والمرأة الجديدة لا تكون تطورت، إلا اذا آمنت بأن العلم حقها الشرعي الانساني، بمقتضى انتمائها الى فصيلة الانسان. اذ ليس لكائن من كان ان يمسخ انسانيتها ويفرض عليها ان تعيش دمية عجماء بكماء، والانسان انما يتميز عن الحيوان الأعجم، بالنطق الذي لا يحقق بغير العقل والبيان. ونظرتنا الى العلم تختلف تماماً عن نظرة امهاتنا وأخواتنا المتخلفات. كن يتصورن، او يتصور المجتمع لهن ان التعلم نوع من الزينة والترف في الأسر الغنية، وكانت الإماء في عصور الاسترقاق، يتلقين العلم والأدب والفن، ليرتفع سعرهن في سوق النخاسة، ولكي يصلحن لإمتاع السادة الرجال وإحياء مسامرهم. وفي الطبقة الفقيرة، كان تعليم البنت وسيلة ارتزاق لكسب لقمة الخبز. وتطلق نفساً عميقاً يصعد من الوعي واللاوعي وتتابع: وفارق بعيد، كل البعد، بين فهمنا نحن الحرائر الجديدات، وبين فهم مجتمع الحريم، لمغزى تحرير المرأة: كان الرجل يتصور ان حبس المرأة في قفص الحريم سهره على حراستها، يصون عفتها ويحميها من ذرائع الغواية والضلال. لكن المرأة العربية الجديدة الحرة، تؤمن بأن المرأة وحدها هي التي تملك فضيلتها، وما طالبت بحريتها إلا لكي تصحح هذا الخطأ الفادح، وتفرض على المجتمع اليقين بأنها هي التي تحمل مسؤولية تصونها، وان كرامة انوثتها منها، وليست مفروضة عليها بحارس قفص او حزام من حديد. وهذا الاصرار الجديد من المرأة، على ان تحتمل تبعات حريتها وأمانة فضيلتها، هو من صميم المفهوم الاسلامي لحرية المرأة، بمقتضى اهليتها شرعاً للتكليف والمسؤولية. وهذه المساواة بين الرجل والمرأة لا تعني أن تُمحى كل الفروق بينهن وبين الرجل، فتطالب المرأة بحذف نون النسوة في لغتنا، او تطالب بتعدد الازواج. فالمرأة الجديدة لا يتشابه الامر عليها، ولا يلتبس عندها بالمسخ الذي يلغي الفروق الطبيعية بين ذكر وأنثى، والفروق الاجتماعية بين رجل وامرأة. المساواة لا تتجاوز عندها الحقوق والواجبات المتكافئة، ويبقى الرجل رجلاً والمرأة امرأة، لا يمسخ احد الجنسين فيكون بين بين. ولا تتصور المرأة الجديدة، ان الذي بينها وبين الرجل منافسة او خصومة. ذلك ان المنافسة انما تكون بين متناظرين، والخصومة انما تكون بين متعاديين. وأيضاً لا يمكن ان يكون العلم مسؤولاً عن تصدع الحياة الزوجية، انما يسأل عن تصدع بيوت المتعلمات، غرور التعليم الناقص وفقدان النضج الرشيد، يكون كلا الزوجين في مرحلة مراهقة عقلية ونفسية، بكل عقدها واضطرابها، فيتصور كل منهما ان في شعور الآخر بشخصيته عدواناً على كرامته، ولا يدركان ان اي مساواة تظل محكومة حكماً صارماً بمنطق الفطرة وقانون الطبيعة التي لا تعرف المساواة التامة بين رجل ورجل ولا بين امرأة وامرأة، فضلاً عن ان تعترف بها بين جنس وجنس. وحقنا في المساواة، بهذا الفهم الصحيح، يرجع الى اصل اسلامي مقرر بنصوص صريح من كتابنا المحكم، فلم يقل القرآن قط "لا تستوي المرأة والرجل" وانما الذي فيه: "لا يستوي الخبيث والطيب" "لا يستوي اصحاب النار وأصحاب الجنة" "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" "وما يستوي الأعمى والبصير، ولا الظلمات والنور" فمدار المساواة او عدمها في كتاب الاسلام، على الطيب او الخبيث، والايمان او الكفر، والهدى او الضلال، والجهاد والبذل او القعود والمنع، والعلم او الجهل. وليس على الذكورة والأنوثة. وتضع اصبع الاتهام على فهم "مفهوم القوامة" التي ينشغل بأمرها الكثير من النساء المجتهدات والعلمانيات، فتتابع: وأقول يجب ان تعترف المرأة السوية الفطرة بأن للرجل حقه الشرعي والطبيعي في القوامة عليها، لكن آن للرجال ان يفهموا ان مناط القوامة في القرآن ليس مطلقاً، للرجال مطلقاً على النساء عموماً، انما هو مقيد "بما فضّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من اموالهم". فإذا اخلّ رجل بهذا القيد سقط حقه في القوامة. وبحزم تتابع: وأنا اعي الآتي: - ان منا من ترجع في مظاهر حريتها وتطورها، اما الى بضاعة اجنبية مستعارة تمسخ اصالتها، وإما الى فهم رجعي فيه رواسب متخلفة من مجتمع الحريم. - وان الرجال من قومنا يريدون ان يمسخوا انسانيتنا باسم الاسلام فينكروا علينا ان نتعلم ونعمل وان نفقه ونبين، وانما حسبنا ان نعيش دمى مخدرة عجماء، لاهية بصليل الاغلال في اعناقنا وأذرعنا وسيقاننا، عقوداً وأساور وخلاخيل. - وان الرجال من قومنا، يريدون للمرأة، باسم التمدن والعصرية، ان تمزق كل حجاب لها، مادي ومعنوي، ولا يفهمون من تحريرها الا ان تنتقل من ملكية الزوج الخاصة، الى متعة عامة معروضة في الاسواق ومبذولة لمن اراد. فالرق القديم ليس اقل سوءاً من رق عصري ابشع وأفدح. المرأة القادمة على ثقافة الاستهلاك دون اعمال النقد فيها لا تعي انها اصبحت مادة الاستهلاك نفسها. - ان هذه المرحلة لا تقل خطراً، لأنها المرحلة التي تختلط فيها المفاهيم، وتضل المقاييس، وتختل الموازين في كل ما يتعلق بقضية المرأة والتطور. ومن طبيعة هذه المرحلة، ان يقسو فيها العبء على المرأة الجديدة، وان تدفع الثمن الفادح لكل عثرة في الطريق او خطأ في الفهم، خطأها او خطأ مجتمعها. اصيبت الاستاذات ليلى احمد وباربرة سترووسر وفاطمة المرنيسي بصمت وسع كلام بنت الشاطئ وكانت لهن اسئلة مهمة، لكن بنت الشاطئ اعترضت لتنهي كلامها بتبرير سلطتها المعرفية بالتالي: "ولعلي ما كنت لأقف هذا الموقف، لولا نسب لي في الشيوخ عريق. وقد اكرمني الله بمن علمني فقه ديني ووجهني الى التخصص في درس القرآن الكريم الخ...". وهنا قررن البدء بنقاش شيق وحاد مع بنت الشاطئ، ذلك انه من ناحية طروحاتها تبدي وعياً ذاتياً واستقلالية لهما صفة الريادة والابداع. ومن ناحية اخرى فالدراسات الاسلامية اليوم توسعت الى الدراسات الاكاديمية للأديان، ومنها ومن ميادين معرفية اخرى نهلت هؤلاء النسوة معارفهن. الا ان الكلام انتهى واتفقن على متابعة الجلسة في يوم آخر يفتح فيه باب النقاش حول اشكالية حقوق المرأة في الاسلام. * باحثة لبنانية. وفي المقال اشارات الى فاطمة المرنيسي في كتابها "الحريم السياسي: النساء والنبي" النسخة الاصلية بالفرنسية، 1987، والترجمة العربية، 1993، وهي استخدمت منهجية "علم الرجال" في نقد حديثين أساءا الى المرأة وقدرتها على المشاركة في السياسي وغير السياسي. والى بنت الشاطئ، في "المفهوم الاسلامي لتحرير المرأة"، محاضرة ألقتها في نادي الخريجين بأم درمان، يوم الأربعاء اول شباط فبراير 1967، القاهرة: مطبعة مخيبر، 1967 16-33.