رحلت فاطمة المرنيسي عن عالمنا من دون ان تشهد الفصل الختامي لمرحلة من أكثر المراحل مأساوية في حياة المرأة العربية. فسنوات التهجير والسبي والتشرد لآلاف النسوة العربيات رجَحّت النضال لديهن من اجل البقاء، على خطاب المساواة االذي انفقت المرنيسي عمرها كي تقطف ثماره. لعل الذي بين المرنيسي ومبحثها الأخير عن حرية المرأة تقف آخر مبتكرات العنف حيث تستهدف النسوة في خطب الإسلام السياسي، ولكن سلوكيات تنظيم "داعش" مضت بعيداً في قتل وسبي النساء والعودة بهن إلى عهود الإماء والجواري. فاطمة المرنيسي من الجيل الثاني بين النسويات العربيات، ولكن انتشار مؤلفاتها يرجّح دورها اللافت بين منظّرات قليلات في العالم الثالث، ولهذا اختيرت في غير محفل بما فيها جريدة الغارديان اللندنية العام 2011، كأبرز مئة شخصية في العالم. وإن جاز لنا المقارنة بينها وبين نوال السعداوي التي لا تقل عنها شهرة عالمية في هذا الميدان، فلنا أن نتصور طبيعة النقلة في الفكر العربي من مصر إلى بلاد المغرب. نوال السعداوي التي تكبرها سنا، شغلتها قضايا المرأة العربية والمسلمة، فقاربتها كطبيبة وروائية ومناضلة عنيدة من أجل حقوق النساء. في حين اتت المرنيسي إلى هذا الميدان من خلفية ثقافية جمعت التراث الإسلامي إلى المناهج الفرنسية في التناول، ولكنها في الجانب العملي حاولت خلق فضاءات أكثر شعبية لأفكارها عبر إقامتها ورش التدريب ومتابعتها قضايا النساء والأسرة في بلدها كعالمة اجتماع. عرف القارئ الغربي المرنيسي قبل أن يعرفها العربي، ولذا كان خطابها يتوجه في جزء منه إلى الغرب فهي تكتب في الغالب بلسانه وتستعين بمناهجه ولكنها تجد مساحة لمراجعة تلك المسلّمات الغربية عن المرأة العربية والمسلمة في أوجه المقارنة بين ضفتي المتوسط الشرقية والغربية. ولعل كتاباتها "شهرزاد ترحل الى الغرب" أو "هل انتم محصنون ضد الحريم" يحاول ان يجد مساحة للجدل حول اختلاف مفهوم الحريم عند الغربي عنه عند العربي. وعالم الحريم الذي كتبت عنه أو من خلاله سيرتها الشخصية، كان يشكل هاجسا من هواجس تقديم فكرة النضال او الكفاح عند النسوة المسلمات في ظل عالم مسور بمحرمات الرجل، ومع انها بدت في هذا الكتاب أقل حذرا في تزيين الواقع واضفاء مسحة رومانسية عليه، غير أنها تظهر قدرة روائية نادراً ما تتوفر عند الباحثين. أول كتبها "الجنس كهندسة اجتماعية" الذي ترجمته فاطمة الزهراء زريول، مترجمة معظم أعمالها، يبدأ بصدمة التعرّف على مفهوم الجنس في الثقافة الإسلامية، وهي تتوجه فيه إلى القارئ المغاربي بالدرجة الأولى، ولكن حججها تبدأ بعقد مقارنة تفيد الغربي في معرفة الاختلافات الجذرية بين المسيحية والإسلام حول فكرة الجسد وطبيعته. هي لا تعمد الى المفاضلة بين الديانتين، ولكنها تناقش ما يمكن أن تشكلّه قضايا الحب والامتلاك في الأسرة المسلمة واختلافها عن مفهوم الرباط الأبدي عند المسيحيين. لعل بحثها حول الفضاءات المؤدية إلى صيغة تعدد الزوجات من بين أهم المباحث التي أثارت الاهتمام في الخطاب النسوي العالم ثالثي. المرنيسي كعالمة اجتماع استطاعت ان تخلق من ورش الاستجواب التي شملت نساء ومن مختلف الفئات، فضاءات لمعرفة ما تعنيه قضايا المرأة عند النسوة أنفسهن، وهذه الآراء شكلت في المحصلة اتجاهات رفدت تصوراتها النظرية. اشتغلت في كتابها "الحريم السياسي" على مفهوم المرأة والولاية او المرأة والرياسة، وهي تسوق الحجج كي تدحض آراء الفقهاء والمحدثَين الذي حرمّوا على المرأة احتلال منصبا رياسيا وفق تصورات واجتهادات تحولت بمرور الأيام إلى مسلمات لا يمكن دحضها في المخيال الشعبي. ونحن نقرأ مباحث المرنيسي حول المرأة، هل بمقدورنا إزاحة مقولات وتصورات بيير بورديو أهم المفكرين الفرنسيين الذي كتب دراسته الانثربولوجية حول مفهوم الشرف في المجتمع القبايلي في الجزائر مطلع الستينات، ثم كتابه اللافت "الهيمنة الذكورية" في التسعينات، حين اوجد مصطلحا بقي متداولا في كل الحقول "العنف الرمزي" وسواه من المصطلحات حول الجنس والبايولوجيا وتصورات النساء عن أنفسهن. بلا شك هناك تخاطر بين كتاباته وكتابة المرنيسي، ولكن الاختلاف يظهر في عمق القراءات التراثية عند المرنيسي، فخطابها يعتمد عن تصورات المسلمين عن أنفسهم، عبر سلسلة انتسابات تعود الى كتب التاريخ والأدب والفقه والكلام والاشعار والمرويات. مثلت المرنيسي بتصورنا، دور شهرزاد الذكية التي تدحض موتها في مقاصاتها الليلية، وكانت في مقارباتها لدور شهرزاد في المخيال العربي والأجنبي قد حققت أهم طريقة للكتابة الجديدة، وهي توفرها على المبحث العميق وسلاستها وقدرتها على جذب القارئ نحو تخوم بعيدة في التصورات عن النفس والآخر. فاطمة المرنيسي خلقت مدرسة في الكتابة المغاربية وهناك من تسلمت الراية عنها، ولكنها تبقى تشهد لها بأولوية الابتكار.