شلال الدم على الارض العربية يراد به - ضمن ما يراد - إغراق العقل العربي ليفقد قدرته على التفكير وعلى الخروج من هذا النفق الدموي الذي يراد اغراق الامة كلها فيه. وذلك من اخطر المحاذير و"المقاومة" ضده من اهم انواع المقاومة اللازمة. وهذه محاولة لنتبين الافق على رغم شلال الدم. ومع تسليمنا ان التعالي على الجراح ليس سهلاً، لكنه قدر تاريخي لا بد منه للخروج من النفق. تستند خلاصة هذا الطرح الفكري الى انه لا بد من فصل بين المرحلي والتاريخي في المرحلة العربية الراهنة - من دون قطع بينهما - وفي المقابل لا بد من وصل بين السياسي والحضاري في برامج عمل السلطة والمعارضة للخروج من عنق الزجاجة التي هي مضيق حضاري بقدر ما هو سياسي. تنجر بعض الامم الى الحروب الاهلية لانها لم "تفك الاشتباك" في منعطف خطير بين ما هو "مرحلي" وما هو "تاريخي"، فيتقاتل طرفا الامة على أمرين متباينين وهما يتصوران انه امر واحد، ففي الحالة العربية الراهنة يمكن لعربي ان ينطلق من واقعه "القطري" للعمل على انضاجه باتجاه التكامل "القومي". ويمكن لجاره ان يتمسك بحلم المستقبل الكبير الواحد، قافزاً فوق ما هو مرحلي: "هنا يحدث سوء الفهم والتفاهم". واذا استمعت في فضائية عربية الى "خناقة فكرية" على الطريقة العربية، فتأكد ان كان المتخانقان لم يقعا فريسة هذا التوهم، فما اكثر مثل هذه "المعارك" في الخطاب العربي... أهو "المرحلي" ام "التاريخي"؟ فلكلٍ منطقه. مرحلياً لا بد من ان يذهب الابناء والبنات الى مدارسهم كل صباح، ويذهب العمال الى اعمالهم كل يوم ليعيلوا عائلاتهم ويخبز الخبازون لتوفير القوت للناس، وتصان الطرق وشبكات الماء والكهرباء لتصبح الحياة اليومية ممكنة. وهذه كلها متطلبات "اضطرارية" لا بد ان يتحمل مسؤولون وطنيون امرها في ظل أسوأ اوضاع الاحتلال وتردي الاوضاع العامة، الا ان هؤلاء المسؤولين المرحليين، المدانين ربما وطنياً بالاستسلام والركوع، ودون أي تبرير لاخطائهم الاخرى كالممارسات الادارية الفاسدة وغيرها، يمثلون في الواقع وفي مفارقة تاريخية بقصد او بغير قصد جسراً تعبر عليه الاجيال الى مرحلة جديدة من تحقيق الاهداف التاريخية، الطويلة الامد، لأوطانهم وأمتهم. هكذا في تقديري ينبغي ان ننظر موضوعياً الى مسؤولي السلطة الفلسطينية، على وجه الخصوص بين حالات عربية عدة، من دون ان تمنحهم الامة بالضرورة ترخيصاً لربط مصيرها بالواقع الرديء الراهن الى الابد. هذه اشكالية جدلية راهنة لا مهرب منها: فوجود الكيان الفلسطيني على الارض الفلسطينيةالمحتلة، بكل محدوديته، تطور تاريخي مهم للغاية في مسار القضية الفلسطينية يساوي، او، ربما، يزيد على اهمية توجه جيوش عربية الى الجبهات المختلفة اذا اخذنا تجاربنا العربية بهذا الصدد في الاعتبار، ولا بد لنا من ذلك. فهذا "الوجود" الفلسطيني الدامي والملموس يذكر العالم والعرب كل يوم بأن قضية فلسطين قضية حية وانها قضية كفاح شعب محتل ضد بطش المحتلين، ولا بد لليل من آخر. هذا "معبر" لا بديل عنه لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، عاجلاً بمنظور تاريخي. اما في منظار مرحلي، وفي ظل الطغيان الشاروني، فتبدو عملية استمرار الكيان الفلسطيني القائم على الارض والدفاع عن حدوديته ومصيره الذي يكتنفه الغموض في ظل توازنات القوى الاقليمية الدولية... تبدو هذه العملية للبعض في الظاهر وفي الآنية المرحلية شيئاً قاصراً للغاية عن التطلعات "التاريخية" للشعب الفلسطيني. وعلى رغم ذلك فالتطرف الاسرائيلي يريد خنقها لإدراكه مغزاها التاريخي باعتبارها نقضاً للايديولوجيا الصهيونية الاساسية القائمة على احتكار كل فلسطين والمنكرة لوجود الشعب الفلسطيني كما كانت تردد غولدا مائير: "اين الفلسطينيون؟ انني لا أراهم!". حسناً، هل نساهم من جانبنا في تحقيق ذلك؟ الن يمثل ذلك نسفاً للجسر الموصل تاريخياً الى ما بعد هذه المرحلة؟ مجرد اسئلة ليس القصد منها بأي شكل الدخول في الجدل الفلسطيني الفلسطيني بهذا الشأن. فأهل فلسطين أدرى بشعابها. لكنها اسئلة انشغال ورصد فكري عن بعد قد تخطئ وقد تصيب... من واقع وحدة المصير القومي التي كانت مطروحة الى ما قبل سنوات خلت، ان لم تخني الذاكرة، في هذا "الشرق الاوسط... الكبير". عندما اجتاح النازي فرنسا في بداية الحرب العالمية الثانية، غامر الماريشال بيتان، بطل فرنسا في الحرب العالمية الاولى باقامة حكومة تتعامل مع المحتل النازي، وتخضع لضغوطه. هذا القرار الاستسلامي حقق لفرنسا، جدلياً وفي مفارقة تاريخية حماية شعبها وبعض ثرواتها وكنوزها الحضارية من التدمير. ثم انه بدرجة مساوية اعطى الفرصة الزمنية لديغول والمقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي لتنظيم صفوفهما والانطلاق لمنازلته... الى ان تحقق النصر للشعب الفرنسي مستفيداً من المظلة الاستراتيجية للحلفاء، الامر الذي مكنه ليس فقط من التخلص من المحتل النازي، وانما من تجاوز مرحلة بيتان بأكملها. هذا في ما يتعلق بأهمية الفصل بين المرحلي والتاريخي في نضال كل امة. الا ان هذا يجب الا يعني الفصل بين السياسي والحضاري في مسيرة مختلف البلدان العربية، خصوصاً في مرحلة الاصلاح المزمع الذي ان اقتصر على السياسة وحدها، فلن يكون حظه من النجاح افضل من الشعارات السياسية التي انشغل العرب بها طويلاً ثم عادوا بعدها الى نقطة الصفر. ان المعركة بلا شك حضارية، لكنها لا تقبل الانتظار، اعني انها شأن سياسي عاجل! يميز علماء السياسة، بين مفهوم السياسي المحترف ومفهوم رجل الدولة. السياسي المحترف بائع وعود لمصلحته الشخصية، ولا يبحث الا عن الانباء السارة لجمهوره الذي يعمل على تضليله بكل طاقاته، سواء كان على مقعد التسلط الحكومي او على رصيف المعارضة! اما رجل الدولة فينظر الى البعيد، ولا يحصر فكره وجهده في الكسب السياسي السريع، بل يبحث عن الانباء غير السارة بما تعكسه من مشكلات عليه حلها ليتجاوزها المجتمع والدولة الى ما بعدها في مراحل التطور الحضاري. رجل الدولة من هذا الطراز مثل قادة الصدر الاول في الاسلام حين قال قائلهم: حثوا في وجه المداحين التراب...! والواقع ان التاريخ العربي المعاصر لم يخل من "رجال دولة" الا ان مشاريعهم الحضارية تعرضت لكبوات او اجهاضات لانهم، او لان من خلفوهم، اضاعوها في سوق السياسة كسباً للعوام او الجماهير او تثبيتاً لكراسيهم ومصالحهم الشخصية في السلطة، فلم نكسب سياسة ولا حضارة!... وما زال المداحون في بلادنا بعدد ذرات التراب التي لم يعد يجرؤ احد على حثه في وجوههم! لا بد لاي مشروع سياسي يحكم او يخطط للحكم ان يمتلك رؤية فلسفية حضارية لطبيعة مجتمعه ومستقبله والعصر الذي يعيش فيه، والمرحلة التاريخية التي يجتازها، والمناخ الدولي الذي يحيط به. وان يكون لديه في مؤسسات الدولة والحكم من يتولى امور السياسة اليومية واجتياز مضائقها، ومن يتولى شؤون الرؤية الحضارية واستشراف آفاقها، بتوجيه قيادة تضع عيناً على الاولى وعيناً على الثانية، والا فإنه سينتهي الى زمرة تحكم هدفها التسلط، ولن يكون مشروع حكم هدفه التحضر. حيث الحكم في تاريخ الامم "تربية" واخلاق وتأسيس وبناء، وممارسة انسانية اولاً واخيراً، اما التحكم فهو ما يمتلئ به تراثنا السياسي قديمه وحديثه، وهو سبب الكوارث التي نعاني منها، بل انه المسؤول عن عودة الاحتلال الاجنبي للارض العربية... اذاً فليس مطلوباً ان يزاح الحاكم العربي بانقلاب. المطلوب ان يتحول من ممارسة "التحكّم" المستند الى غريزة الغاب الى ممارسة "الحكم" القائم على قانون الحضارة. ويصعب الفصل في مراحل التطور الحقيقي بين السياسي والحضاري. فالقبول بالتعددية السياسية وما تتطلبه من منابر فكر وتنظيم، وحرية تعبير ووجود بدائل وخيارات امام اتخاذ القرارات المهمة، هو سياسة ذكية وهو شروع في التحضر الرفيع في الوقت ذاته. فهذه الحريات والمسلكيات لم تتحقق للشعوب الا بعد بلوغها مرحلة من التمدن والتحضر تتجاوز بكثير ظلاميات الكهوف وشعوذات من يحركون الجماهير الى الهاوية. فمشروع الاصلاح الشامل في البحرين بقيادة ملكها يجد في النضج الحضاري لشعبه منطلقاً قوياً لتطويره من دون الحاجة الى حملات اعلامية لإثبات ديموقراطيته. كما ان المشروع التربوي او الثقافي لاي نظام حكم، وكيفية تعامله سياسياً معه ومع مخرجاته يمثل اختباراً لحضارية ذلك الحكم، بل لقدرته على البقاء والاستمرار. انشأ نظام الشاه في ايران الكثير من المدارس والجامعات ذات المستوى التحضري، ولكن عندما تزايد خريجوها في مجتمعه لم يكن لديه غير السافاك جهاز استخباراته القمعي للتعامل معهم، فكانت النهاية. وهي نهاية يمكن ان تلحق بأي نظام حتى لو كان ثورياً لكنه يفرض الرأي الواحد، والحزب الواحد، ويحارب رياح التغيير والتقدم الحضاري باسم سياساته غير القابلة للمراجعة. هذه شروط ومتطلبات لا بد منها في مسيرة التقدم في مختلف جوانبه ولا مفر من مزاوجة السياسي بالحضاري فيها. لكن الامم تحتاج الى فترات طويلة من الهدوء والاستقرار لتنجز نهضاتها ومشاريعها الانمائية. وهو ترف يبدو ان العرب محرومون منه في اوضاعهم الراهنة...!!... ولا مخرج لهم الا ان يتجاوزوا شلال الدم ليبصروا ما وراءه على رغم قسوة المطلب. وما ان تتجه بعض الانظار العربية الى شيء من التأسيس العلمي او النهضوي او الديموقراطي، حتى تفاجأ البلدان العربية، قريبها وبعيدها، بحدث عاصف، كاغتيال اسرائيل للشيخ احمد ياسين ثم لخلفه الدكتور الرنتيسي بوحشية تفوق ارث هولاكو... او يدخل العراق في حمام دم جديد، فيهتز الوجدان العربي امام الاشلاء الممزقة ويتغلب مشهد الغاب ومخلبه الدموي، على منطق البناء والتحضر، هذا على رغم اتجاه الفلسطينيين والعرب للسلام وقبول معظمهم به مع ان "التسوية" في عمومها ليست في مصلحتهم. ولكنهم يمنون النفس بأن كسب السلام وان يكن غير متوازن لا بد منه لاعادة البناء وهو افضل من الاستمرار في حروب يكسبها اعداؤهم. غير ان هؤلاء يقولون لهم كل يوم: هيهات فليس امامكم الا المزيد من القتل والذل. هل هذا معقول؟ لو حشرت قطة في زاوية وضاق عليها الخناق لدافعت عن نفسها بكل ما تستطيع، فكيف بأمة، ما تملكه مادياً ومعنوياً، ليس بالقليل؟ واذا كانت الحرب مكلفة ومرهقة، فيبدو ان السلام الذي يمنى به العرب، اكثر من باهظ! فهو "سلام" لا يلد الا حروباً واشلاء. ومع هذا، فلو ان فتى انتحارياً منهم خنقه حبل الانتظار على ارضه المحتلة، لقالوا انظروا: "هذا ارهاب!" وما الاسباب؟ لا اسباب!... ممنوع الكلام في "الاسباب" انه - فقط - ارهاب! لكن لا بد من التنبه ان تفسير الارهاب، بعد الجهد، بالارهاب لن يزيده الا اشتعالاً لانه تهرب من جذوره واسبابه... وهذا التغيب للاسباب يمثل في حد ذاته "ارهاباً" ضد الحقيقة وضد منطق العقل، وحق الانسان في ان "يعرف". هكذا يتنكر الغرب الذي قامت حضارته على "سببية" العقل عن اعمق ما في عقله لانه لا يملك شجاعة فتح فمه امام القوة الليكودية الراكبة على ظهره... فتح هذا الغرب فمه وحرك عقله بقوة امام القساوسة... وامام الاقطاع... وامام الديكتاتورية... عبر تاريخه... ولكن يبدو انه يكتب سقوطه المعنوي في العالم او يترك الصهيونية المتطرفة تكتب نهايته وهي ممسكة برأسه تقوده نحو الهاوية وهو مستسلم لها بكل طواعية. ذلك ما يجب ان يصارح به المسؤولون والمثقفون والناشطون العرب نظراءهم الاميركيين والاوروبيين، ليس بلغة الكلام والعلاقات العامة فذلك ما تم استهلاكه، لكن بلغة الفعل لأنها اللغة الوحيدة التي يفهمها الغرب! واقصد تحديداً وبصراحة: ذلك الفعل المتحرك بعقل سياسي فعال لتحقيق الهدف - ولو بعد حين - لا الفعل الانتحاري المعبر عن اليأس! * مفكر وكاتب من البحرين.