انطلاق البرنامج التدريبي والتأهيلي ل "هاكثون التحوّل"    لاندو نوريس يتصدر التجارب الثانية بجدة وتسونودا يتعرض لحادث    انتهاء مهلة تخفيض المخالفات المرورية بنسبة (50%) وعودتها إلى قيمتها الأساسية    السعودية تنهى مشاركتها في ألعاب القوى الآسيوية ب"5″ ميداليات    انطلاق جائزة السعودية الكبرى stc للفورمولا 1 بجدة    القادسية يكسب النصر بثنائية في دوري روشن للمحترفين    «سلمان للإغاثة» يختتم الأعمال المتعلقة بتوزيع الأبقار على أمهات الأيتام والأرامل بسوريا    المملكة تدشّن مشاركتها في المعرض الدولي للنشر والكتاب بالمغرب 2025        القبض على 4 يمنيين بمكة لارتكابهم عمليات نصب واحتيال بنشر إعلانات حملات حج وهمية    عبدالله السلوم البهلال مدير تعليم عسير الأسبق في ذمة الله    إنتر ميلان يعلن إصابة مهاجمه قبل مواجهة برشلونة المرتقبة    قطاع وادي بن هشبل الصحي يُفعّل عدداً من الفعاليات    إدارة الأمن السيبراني بالرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف تحصل على شهادة الآيزو    بلدية البصر تطرح فرصة استثمارية في مجال أنشطة الخدمات العامة    جمعية المودة تدشّن "وحدة سامي الجفالي للتكامل الحسي"    وزارة التعليم تعقد دراسة لمساعدي مفوضي تنمية القيادات الكشفية    القائد الكشفي محمد بن سعد العمري: مسيرة عطاء وقيادة ملهمة    صيد سمك الحريد بجزر فرسان .. موروث شعبي ومناسبة سعيدة يحتفي بها الأهالي منذ مئات السنين    ٢٤ ألف زائر وأكثر من 4 آلاف اتفاقية في منتدى العمرة    محافظ الطائف يستقبل مدير عام الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف    «حرس الحدود» بينبع يحبط تهريب (3.6) كجم "حشيش"    نائب أمير الشرقية يعزي أسرة الثميري في وفاة والدتهم    خطباء المملكة الإسراف في الموائد منكر وكسر لقلوب الفقراء والمساكين    وفاة الفنان المصري سليمان عيد إثر تعرضه ل"أزمة قلبية"    روبي ويليامز: طلبات التقاط الصور الذاتية تصيبني ب «الذعر»    إمام المسجد الحرام: الدنيا دار ابتلاء والموت قادم لا محالة فاستعدوا بالعمل الصالح    موعد مباراة الاتحاد القادمة بعد الخسارة أمام الفتح    خالد بن محمد بن زايد يشهد حفل افتتاح متحف "تيم لاب فينومينا أبوظبي" للفنون الرقمية في المنطقة الثقافية في السعديات    إمام المسجد النبوي: التوحيد غاية الخلق وروح الإسلام وأساس قبول الأعمال    وزارة الرياضة ومجمع الملك سلمان للغة العربية يطلقان "معجم المصطلحات الرياضية"    تعاون بناء بين جامعة عفت واتحاد الفنانين العرب    محافظ صامطة يلتقي قادة جمعيات تخصصية لتفعيل مبادرات تنموية تخدم المجتمع    جامعة شقراء تنظم اليوم العالمي للمختبرات الطبية في سوق حليوة التراثي    إعاقة الطلاب السمعية تفوق البصرية    صعود مؤشرات الأسهم اليابانية    مجلس الأمن يدعو إلى وقف دائم لإطلاق النار وعملية سياسية شاملة في السودان    مرصد حقوقي: المجاعة وشيكة في غزة ومليون طفل يعانون سوء تغذية حاد    رسوم ترمب الجمركية ..التصعيد وسيناريوهات التراجع المحتملة    تشيلسي الإنجليزي يتأهل للمربع الذهبي بدوري المؤتمر الأوروبي    قتيلان في إطلاق نار في جامعة في فلوريدا    في توثيقٍ بصري لفن النورة الجازانية: المهند النعمان يستعيد ذاكرة البيوت القديمة    وزير الدفاع يلتقي أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني    نائب أمير منطقة جازان يضع حجر أساسٍ ل 42 مشروعًا تنمويًا    معرض اليوم الخليجي للمدن الصحية بالشماسية يشهد حضورا كبيراً    24 ألف مستفيد من خدمات مستشفى الأسياح خلال الربع الأول من 2025    تجمع القصيم الصحي يدشّن خدمة الغسيل الكلوي المستمر (CRRT)    مشاركة كبيرة من عمداء وأمناء المدن الرياض تستضيف أول منتدى لحوار المدن العربية والأوروبية    قطاع ومستشفى تنومة يُنفّذ فعالية "التوعية بشلل الرعاش"    يوم الأسير الفلسطيني.. قهرٌ خلف القضبان وتعذيب بلا سقف.. 16400 اعتقال و63 شهيدا بسجون الاحتلال منذ بدء العدوان    5 جهات حكومية تناقش تعزيز الارتقاء بخدمات ضيوف الرحمن    "التعليم" تدشن مشروع المدارس المركزية    بقيمة 50 مليون ريال.. جمعية التطوع تطلق مبادرة لمعرض فني    معركة الفاشر تقترب وسط تحذيرات من تفاقم الكارثة الإنسانية.. الجيش يتقدم ميدانيا وحكومة حميدتي الموازية تواجه العزلة    الاتحاد الأوروبي يشدد قيود التأشيرات على نهج ترامب    القيادة تعزي ملك ماليزيا في وفاة رئيس الوزراء الأسبق    قيود أمريكية تفرض 5.5 مليارات دولار على NVIDIA    قوات الدعم السريع تعلن حكومة موازية وسط مخاوف دولية من التقسيم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعد توقيع اتفاقات السلام . هل تخلّت الحركة الصهيونية عن مشروع اسرائيل الكبرى؟
نشر في الحياة يوم 09 - 05 - 2000

يقول الكاتب الصهيوني حاييم غوري الذي كان مقرباً من رئيس حكومة اسرائيل بن غوريون ان الهدف الأساسي للعقيدة الإسرائيلية الأمنية هو التوسع الجغرافي والإقليمي على حساب الوطن العربي، وأنه لم يتغير مذ وضع موضع التنفيذ عام 1948. لكن الظروف تطلبت تنفيذ هذه الاستراتيجية على مراحل.
واستشهد غوري بقول بن غوريون في هذا الصدد "احتللنا مناطق أكبر كثيراً من خريطة التقسيم، وأمامنا عمل لجيلين أو لثلاثة أجيال... وبعد ذلك سنرى. فالتاريخ لم ينته بعد...". وأضاف "عندما أنهى بن غوريون حديثه، رأيت على طاولة عمله إصحاحاً من سفر الخروج: لا أطردهم من وجهك في سنة واحدة كيلا تصير الأرض قفراً فتكثر عليك وحوش الصحراء. لكني أطردهم قليلاً قليلاً من أمامك الى أن تنمي فترث الأرض". أما بقية هذا الإصحاح "واجعل تخمك من بحر القلزم الى بحر فلسطين ومن البرية الى النهر فإني أسلم الى أيديكم سكان الأرض فتطردهم من أمام وجهك...".
وعندما احتلت اسرائيل شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة خلال العدوان الثلاثي الإسرائيلي - البريطاني - الفرنسي خريف العام 1956، أعلن بن غوريون نفسه قيام "مملكة اسرائيل الثانية". ولم تمضِ بضعة شهور حتى تحطمت أمنيته إذ أجبرت اسرائيل على الانسحاب من شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة والانكفاء الى حدود 1948.
ولم ينته التاريخ في ذلك الحين، بل أصر خلفاء بن غوريون وتلاميذه على تحقيق حلمه. فشنوا حرب حزيران يونيو 1967 التي أعدوا لها زهاء عقد من الزمن، فأعادوا الكرّة، لكنهم هذه المرة احتلوا أجزاء من مصر وسورية وما تبقّى من الأرض الفلسطينية، الضفة الغربية والقدس العربية، وهكذا أعلنوا قيام "أرض اسرائيل التاريخية" من دون أي تحديد واضح لحدودها.
وعندما شنت مصر وسورية حرباً مباغتة خريف العام 1973 على قوات الاحتلال في سيناء والجولان، وعبر الجيش المصري، في مرحلتها الأولى، قناة السويس، ونزلت القوات السورية الى مشارف بحيرة طبريا، نُقل عن موشيه ديان وزير الدفاع آنذاك قوله "اننا نفقد الهيكل الثالث" بعدما كاد يفقد عقله ظناً منه أن "مكاسب" حرب 1967 تحطمت، وتحطم حلمه بقيام اسرائيل الكبرى.
ولعلنا نشاهد الآن بوادر استحالة تحقيق الحلم الصهيوني التوسعي. فعندما تنسحب قوات الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان عائدة الى خط الحدود الذي كان قائماً قبل احتلال هذا الجزء الغالي من الوطن اللبناني، واسرائيل مكرهة على الانسحاب عاجلاً أم آجلاً، وعندما تعيد اسرائيل مرتفعات الجولان الى السوريين، أصحابها الشرعيين وتنهي احتلالها لهذا الموقع الاستراتيجي المهم، ولا بد لها من أن تنسحب منها ما دامت أقرت مبدأ الانسحاب، وما دام هذا الأمر غدا شأناً دولياً وارادة عربية وحتى حاجة اسرائيلية. وعندما تعيد الضفة الغربية كلها الى أصحابها ولن تكون هناك تسوية مقبولة إلا بانسحاب اسرائيل الكامل بما في ذلك من القدس الشرقية، وكانت أعادت الجزء الأكبر من قطاع غزة، وقبلها صحراء سيناء الى مصر كاملة... عندها يمكن القول ولو ببعض تحفظ، ان اسرائيل طوت ولو مرحلياً على الأقل راية المشروع الصهيوني الإقليمي التوسعي الكبير، القائم على احتلال أجزاء مهمة من الوطن العربي، من أجل تحقيق الحلم الصهيوني بإقامة ما يسمى، في الطقوس الدينية الأسطورية اليهودية: "أرض اسرائيل من النيل الى الفرات". ويمكن القول اننا نشاهد بوادر استحالة تحقيق حلم الامبراطورية الصهيونية المترامية الأطراف التي تضم ما بين عشرة ملايين يهودي و12 مليوناً كما حلم بن غوريون في حينه في ظل الواقع الإسرائيلي الراهن والمعطيات الإقليمية والدولية والمعادلات السياسية القائمة.
بذلت الحركة الصهيونية العالمية كل ما في وسعها، وسخرت كل الطاقات والإمكانات الهائلة المتيسرة لها، لفرض هذه الإمبراطورية على العرب بالقوة والقهر، مستغلّة ضعفهم وتفككهم. وكانت تروّج على كل منبر دولي لفكرة انشاء دولة "أرض اسرائيل التاريخية".
ما هي الوسائل التي استخدمتها اسرائيل والحركة الصهيونية لتحقيق الحلم الصهيوني التوسّعي بإنشاء اسرائيل الكبرى التي كان من المفترض أن تضم غالبية يهود العالم؟
أولاً - جنّدت اسرائيل يهود العالم ووحدت صفوفهم ليلتفوا حول اسرائيل خصوصاً بعد حرب 1967 وشحنتهم عاطفياً، مستغلة دعايتها الواسعة عن المحرقة النازية، ومدعية أن انتصارها على العرب في الميدان العسكري إنما هو رد اعتبار وحماية ليهود العالم وعدم تكرار ما تعرضوا له بعد الآن، وبعد كل ما واجهوه في أوروبا، على رغم الاختلاف بين الميدانين، وكأن العرب هم الذي ارتكبوا المجازر ضد اليهود لا الألمان. وهكذا استطاعت اسرائيل تجنيد يهود العالم وتوحيد صفوفهم، وتمكنت من أن تحصل منهم على امكانات مادية هائلة، لما يتمتعون به من نفوذ واسع وأموال طائلة لتمويل مغامراتها العسكرية وتوسيع رقعتها الجغرافية.
ثانياً - تمكنت الحركة الصهيونية اليهودية الفائقة التنظيم من السيطرة شبه الكاملة على الطاقات السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية للغرب، ولا سيما في التعويضات الألمانية والمعونات الأميركية. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تجاوزه الى السيطرة على قرارات السياسة الخارجية الرسمية، خصوصاً حيال الشرق الأوسط والأمم المتحدة. وهكذا شعرت اسرائيل بحرية التصرف في المنطقة وشنت اعتداءاتها على العرب من دون رادع أو حساب سواء قبل انتهاء الحرب الباردة أو بعده. وفي النتيجة، فإن اسرائيل على رغم مواردها الذاتية الشحيحة لم تجد صعوبة في تطوير آلتها العسكرية، وتزويدها أحدث ما توصل اليه الغرب من أدوات الفتك والدمار، وتمويل سياستها العدوانية من المصادر الخارجية المجانية.
ثالثاً - أقامت اسرائيل بالإمكانات اللامحدودة الآنفة الذكر، قوة عسكرية استطاعت أن تضمن لها التفوق الميداني والجوي على القوات العسكرية العربية مجتمعة في ظروف غياب جبهة عربية محكمة التنسيق والتسليح. وهذه القوة تفوق قدرة اسرائيل وحجمها وحاجتها الدفاعية، حتى انها لم تجد صعوبة كبيرة في تطوير خيار نووي وكيماوي وجرثومي. والله أعلم ماذا تضم ترساناتها من وسائل أسلحة الدمار الشامل!
رابعاً - استغلت اسرائيل تفوقها العسكري والتكنولوجي على العرب، ودعم الغرب الهائل لها وغياب استراتيجية عربية موحدة تتصدّى لاعتداءات اسرائيل، من أجل شن حروب موسمية على جيرانها، كان هدفها جميعاً احتلال ما تيسّر من الأرض العربية جنوباً وشمالاً وشرقاً ووسطاً. واستطاعت بفضل هذا التفوق أن تضمن تحقيق انتصارات عسكرية سريعة بأقل عدد ممكن من الكلفة والخسائر البشرية. وهكذا تمكنت من توسيع رقعة الأرض المسيطرة عليها بعد حرب 1967، أكثر من ثلاثة أضعاف حجمها السابق، علاوة على عدد لا يحصى من الاعتداءات الصغيرة والتحرشات السافرة على حدودها مع جيرانها، لافتعال أجواء متوترة تبرر حروبها، أو لتضم مزيداً من الأرض كما فعلت بالاستيلاء على منطقة أم المرشراش المصرية لتقيم عليها ميناء ايلات، وكما فعلت على الحدود السورية لتجفيف بحيرة الحولة والاستيلاء عليها.
خامساً - حاولت اسرائيل أن تصفّي القضية الفلسطينية وتطمس معالمها منتهجة كل وسائل القتل والطرد والقصف الجماعي للمخيمات واقتراف المذابح وكل أشكال القهر ضد الشعب الفلسطيني، فضلاً عن شن حملة اعلامية واسعة عليه، محاولة تجريده من كل المقومات الإنسانية، وملصقة به تهمة الإرهاب، ومُنكرة عليه حقه في العيش الحر الكريم في وطن خاص به أسوة بسائر الشعوب... وبلغ الأمر بعنجهية اسرائيل درجة أن رئيسة حكومتها غولدا مئير أنكرت في حينه وجود شعب فلسطيني على الإطلاق.
سادساً - انتهجت اسرائيل بالتنسيق مع الأجهزة السرية الغربية وسائل عدة لابقاء المجتمعات العربية في حال من التخلّف، والهائها عن مواكبة رافعة الرقيّ والتقدم. وعملت على تغذية خلافاتها وانقساماتها بطرق ووسائل تفاوتت بين تدخل في شؤونها الداخلية، وتأليب طائفة على أخرى، وشن عمليات عسكرية وحروب نظامية أحياناً تحت ستار ما كان يسمى "العمليات الانتقامية" في القاموس الإسرائيلي، الى التهديد بالتدخل العسكري المباشر للحؤول دون انهيار أنظمة عربية كانت اسرائيل معنية ببقائها، الى شن حروب تدميرية كما ذكرنا كانت لإسرائيل وأدواتها في أميركا اليد الطولى في التحريض على نشوب حرب الخليج من أجل تدمير طاقات العراق الهائلة، ودمرت لبنان، خلال الاجتياح والحرب الأهلية، وأثقلت كاهل سورية بالتسلح بعدما احتلت الجولان... فضلاً عن تدمير طاقات الشعب الفلسطيني ومصادرة القسم الأكبر من أراضيه.
استخدمت اسرائيل كل هذه الوسائل لتحقيق استراتيجيتها التوسعية - التمدّدية. وهنا يطرح السؤال: هل نشاهد الآن بوادر انحسار هذا الحلم الصهيوني؟ وبمعنى آخر هل تعود اسرائيل الى حجمها ما قبل حرب 1967، إذ يبلغ عرضها من طولكرم الى تل أبيب 12 كيلومتراً، ولا تتسع لأكثر من ستة ملايين نسمة عدد سكانها الآن ستضيق بهم الأرض في حال شحّت المعونات الخارجية لها.
ربما في السابق لأوانه الجزم بأن اسرائيل ستنسحب نهائياً الى حدود حزيران يونيو 1967، إذ أنها ستبقى متشبّثة بإبقاء سيطرتها على أجزاء من الأراضي العربية التي احتلتها. وربما من العسير، في المعطيات القائمة، ان نرى رفع احتلالها للجزء الشرقي من القدس. ولكن ما دامت انسحبت حتى الآن من شبه جزيرة سيناء كلها، ومن أقل من نصف الضفة الغربية وغزة، وأقرت مبدأ انسحابها من جنوب لبنان ومن مرتفعات الجولان، نستطيع القول ان المشروع الصهيوني الكبير ضُرب، وتبددت الأحلام الصهيونية بإنشاء الإمبراطورية المترامية الأطراف المسيطرة على قسم كبير من الأرض العربية والمتطلعة الى السيطرة على طاقات العرب ومواردهم الهائلة ومصادرهم الطبيعية الوافرة.
ما الخلاصات التي ربما أسهمت في تراجع المشروع الصهيوني التمدّدي؟ وما العبر الاستراتيجية التي ربما استخلصتها اسرائيل من حصيلة أكثر من نصف قرن من العدوان العسكري التدميري والتآمري على الشعوب العربية؟
يفرض تسلسل الأحداث ومنطق التطور التاريخي على الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي استخلاص الاستنتاجات الآتية التي تحول دون تحقيق المشروع الصهيوني الكبير:
1 - ان الحروب والانتصارات العسكرية غير المبرّرة وحدها لم تكن كافية لفرض الاستسلام على الشعوب العربية، والتسليم بحقائق الأمر الواقع والتفريط بالأرض. ولعل العبرة الأساسية في ذلك أن ليس من الصعب احتلال أرض الغير بتفوق عسكري ملحوظ، واستخدام عنصر المفاجأة والتضليل. ولكن ليس من السهل مواجهة نتائج الاحتلال والاحتفاظ بالغنائم طوال الوقت. فإسرائيل ليست المانيا، ولا بريطانيا الإمبراطورية العظمى التي أفل نجمها. والتاريخ حافل بسقوط امبراطوريات أكبر من اسرائيل مرات عدة، انهارت لأنها أخفقت في فرض سطوتها على الشعوب بالقهر والقسر والقوة العسكرية.
2 - على رغم الامكانات الهائلة المتوافرة لإسرائيل، لم تتمكن من تحقيق الأهداف الاستراتيجية الأساسية للحروب العسكرية وممارسة القوة والقهر، مهما بلغت قدرتها العسكرية. والدرس الذي تعلّمته من الانتفاضة الفلسطينية، انها أعدت جيشاً للانتصار على جيوش أقل منها مستوى، لكن أطفال الحجارة حيّدوا الآلة العسكرية الإسرائيلية وفتحوا أذهان الإسرائيليين على حقيقة أن نتائج سياسة الغرور والاستعلاء على الشعوب ومحاولة قهرها غير مجدية. فالشعب الفلسطيني الذي صبر على الاحتلال سنوات طويلة انفجر في وجه المحتل، ووقفت اسرائيل عاجزة تقريباً عن معالجة الوضع.
3 - على رغم ضعف العرب وانقسامهم وتخلف مجتمعاتهم نسبياً، أخفقت اسرائيل في فرض امبراطوريتها الكبرى عليهم. فكم بالحري لو وحّد العرب صفوفهم وأقاموا الدولة القوية التي تتمتع بطاقات بشرية ومادية هائلة، وسخروا هذه الطاقات في مقاومة المد الإسرائيلي؟ وبغض النظر عن انقسام العرب، فهم يمثلون حضارات عريقة، وهم أصحاب تاريخ حافل بالعمل العسكري والعلمي والثقافي. والعالم كله يقر بفضلهم على المدنية المعاصرة. فهل يعقل ان تواصل زمرة من وراء البحار لا تاريخ لها ولا حضارة، التطاول على الحضارة العربية ومحاولة العبث بها من دون رقيب أو رادع؟
4 - قد يكون الفكر الاستراتيجي - السياسي الصهيوني تنبّه الى حقيقة ان اسرائيل أخذت تفقد بريقها الخارجي، وربما الكثير من مبررات وجودها. فالصورة التي حاولت اسرائيل اضفاءها على نفسها حيال العالم، وهي صورة الضحية المسكينة المستضعفة، مستغلة قصة الاضطهاد النازي لليهود لاستدرار العطف عبر سيطرتها على وسائل الإعلام، أخذت تتغير. والمجتمع الذي صُور أنه يقوم على مبادىء الريادة والعمل والمساواة والديموقراطية وعدم التمييز بين فئاته تبين أنه يمارس الظلم والقهر والاضطهاد نفسه، ويميز بين اليهودي الشرقي واليهودي الغربي، والمتدين وغير المتدين وبالطبع بين اليهودي والعربي، منكراً على العرب الذين يعيشون تحت الحكم الإسرائيلي حقهم في المساواة والحرية والديموقراطية. وتبيّن من خلال الممارسات الفعلية ان الديموقراطية ليست مجرد تعدد أحزاب وبرامج انتخابية طنّانة وحملات دعائية وصراخ ضد الظلم وانتقاد الحكم. بل ثبت ان الكثير من الممارسات الإسرائيلية تتنافى ومبادىء الديموقراطية الحقيقية. فكيف يمكن التوفيق بين ادعاء "واحة الديموقراطية" والدولة التي تقوم بدور اسبارطة عسكرية، لا تخاطب جيرانها إلا بالاستعلاء واللغة العسكرية، ولا تعامل مواطنيها العرب الا بمصادرة أراضيهم وبث التفرقة بينهم، وحرمانهم الكثير من الحقوق، واللجوء الى سن القوانين التمييزية ضدهم؟ في حين تحاول السلطة الحاكمة التغطية على كل ذلك، بالادعاء ان المواطنين العرب داخل اسرائيل يشاركون في العملية الانتخابية، وتشكيل القوائم، علماً أنها السلطة الإسرائيلية تحارب كل محاولة يقوم بها العرب المستقلون لإنشاء تنظيم سياسي يمثل المصالح العربية الحقيقية، ويجسّد تطلعات العرب نحو تحقيق العدل والمساواة.
ويتبيّن، من حين الى آخر، ان قادة المجتمع الإسرائيلي ليسوا رواداً ولا مثاليين نموذجيين، بل هم نفعيون وغير بعيدين من ارتكاب الفحش ومظاهر الفساد. وهناك أدلة حية: أرييل شارون الذي أطلق عليه "ملك اسرائيل" طرد من الحكومة بعد اجتياح لبنان نتيجة لمسؤوليته عن مذبحة صبرا وشاتيلا، علاوة عن حقيقة معروفة أن يديه ملطختان بدماء الفلسطينيين قبل ذلك في قطاع غزة. وبنيامين نتانياهو الذي رفع راية التطرف الصهيوني وادعى انه يريد أن يوفر لإسرائيل "الأمن والسلام" من دون انسحابها من القسم الأكبر من المناطق المحتلة، يحاكم الآن بتهمة سرقة بعض الهدايا من مكتبه، وقد اتهم قبلاً بإشاعة أجواء التطرف الشوفيني التي أسهمت في اغتيال سلفه اسحق رابين. ورئيس الدولة عيزر وايزمن متهم بقبول أموال "غير مشروعة" من ادوارد فروسي الممول اليهودي الفرنسي من أصل مغربي، ولا أحد يعلم تفاصيل هذه الصفقة. وقبل ذلك دين الحاخام ارييه درعي، زعيم أحد الأحزاب الدينية الذي يبشر بالفضيلة، بالرشوة والفساد واختلاس الأموال.
5 - لعل قادة اسرائيل والحركة الصهيونية أخذوا يتحققون من تآكل أسطورة ان اسرائيل هي "رصيد استراتيجي" للغرب، وتحديداً للولايات المتحدة في المنطقة العربية، في حين أثبتت الأحداث أن هذا الرصيد خرافة خلقها جهابذة الصهيونية، وما هو سوى عبء على مصالح الغرب في المنطقة، ان لم يكن تهديداً لها. بل ان الحركة الصهيونية وما لها من نفوذ هائل هي الحائل دون قيام علاقات طبيعية بين العالم العربي والغرب، وبانتهاء الحرب الباردة وسقوط "فزاعة" الخطر الشيوعي التي استخدمتها الحركة الصهيونية لتأليب الغرب على الأمة العربية لابتزازها مالياً واقتصادياً وعسكرياً لدعم توجهاتها التوسعية، أخذ دورها الحقيقي ينكشف. فقد تبيّن ان هذا الخطر الشيوعي ما هو سوى خرافة. علاوة على ذلك، أظهرت حرب الخليج ان لا دور لإسرائيل عندما تصل الأمور الى حد المواجهة الميدانية والتضحية الفعلية، لأنها غير مستعدة لأن تضحي بظفر جندي من جنودها من أجل حماية مصالح الغرب. وخلال تلك الحرب وقفت اسرائيل متفرجة تحت ذريعة عدم احراج العرب الذين اشتركوا مع أميركا فيها ضد العراق. ولم يكن لها أي دور سوى الصراخ والعويل والتهويل، حيال تمثيلية "انهمار" الصواريخ العراقية عليها تلك الصواريخ لم تقتل سوى جرو ورجل طاعن في السن كان يُحتضر.
وبعد ذلك قدمت اسرائيل فاتورة بمئات الملايين من الدولارات في مقال "تحليها بالصبر" و"ضبط النفس" ولتعويضها "الهلع" الذي أصاب سكانها من جراء "تساقط" الصواريخ الروسية الصنع عليها.
هذه التأملات التي قد تراود قادة الحركة الصهيونية واسرائيل، تقود كلها، ربما، الى نتيجة مفادها أن الأساطير التي نشجوها حول دور الدولة اليهودية في المنطقة، أخذت تتهاوى الواحدة تلو الأخرى. ولا شك أنهم مدركون ان هذا الدور لا بد من أن يفقد تأثيره مع الزمن، خصوصاً ان العالم كله والمنطقة العربية يعيشان أجواء تهدئة وتسويات سلمية وتقارباً متزايداً بين الغرب ومختلف الأنظمة العربية. وفي هذه الحال يتقلص دور اسرائيل المزعوم، وربما يتقلص معه مبرر الدعم الغربي لها، وعندها تفقد ركناً أساسياً من أركان مشروعها التوسعي.
وخلاصة الأمر، يمكن القول اننا نقف على عتبة تبدد الحلم الصهيوني بإنشاء "امبراطورية اسرائيلية" في قلب المنطقة العربية. وعندما تعود اسرائيل الى حجمها الجغرافي السابق، ويتقلص دورها ستدخل مرحلة "ما بعد الصهيونية". لكن هذا لا يعني انها ستتخلّى عن دورها الأساسي كعائق أمام توحد العرب ومصدر تآمر على مجتعاتهم واعتداء على حقوقهم، ولكن بفارق واحد، هو ان العرب سيواجهون هذه المرة اسرائيل صغرى لا كبرى.
* كاتب فلسطيني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.