على رغم ان مسألة "التخلف"، حين تناولتها تقارير الأممالمتحدة في النصف الأول من خمسينات القرن الماضي، لم تنفك من العلاقات الدولية يومذاك، ولا من صورتها البارزة وهي المنازعة بين القطبين، نحا تناولها نحواً وطنياً غالباً. فلم يشك متناولو المسألة ومعالجوها في رسو علاج التخلف بالنمو على دائرة سياسية وإقليمية هي دائرة الدولة الوطنية أو "القومية" المستقلة. وترتب على انتخاب هذه الدائرة وتقديمها على دوائر أوسع الدائرة الإقليمية على معنى الجوار العريض أو أضيق الدائرة المحلية على معنى المحافظة، إيلاء سيادة الدولة وسلطاتها مكانة سياسية عالية. فنيطت بالسيادة، وبسلطاتها وصلاحياتها، إجراءات علاج "التخلف" مثل الحماية الجمركية والرسوم على التصدير وبناء الأبنية التحتية وسياسة الأسعار والأجور، الى التأميم وإنشاء القطاع العام وإلحاقه بسلطات تخطيط مركزي يتولى الاستثمارات وتوزيعها، ويرسم عوائدها. فنجم عن دمج نهج الإنماء المفترض في سياسة وطنية واستقلالية متشددة، وربط ذاك بهذه وإلحاقه بها من غير توسط في الربط والإلحاق، إقرارُ سياسة الخروج من "التخلف" على تصور وطني وسيادي غلب وهمه على حقيقته. وجنح إلى الغلو والمبالغة في فضائل المعالجة الوطنية المستقلة، و"اعتماد القوى الذاتية" في إنجاز المراكمة الأولية. ولم يعدم تعليل "التخلف"، وهو الوجه الآخر وربما الأول لسياسة "النمو" ونهجها، الالتجاء الى العوامل الخارجية والدولية. فقصر أسباب "التخلف" على الاستعمار، ونهب الثروات، و"التراكم على الصعيد العالمي"، وتقسيم العمل على الصعيد نفسه، والتبادل غير المتكافئ والمجحف بين قوة العمل في الحواضر وبينها في المستعمرات سابقاً. فاجتمع الدواء الوطني والمحلي الى تشخيص عالمي ودولي للداء. ورُفع "التناقض" بواسطة "جبهة" عريضة مناهضة للرأسمالية الامبريالية، لا مناص من أن تأتلف من "المعسكر الاشتراكي" والطبقات العاملة في البلدان الصناعية الغربية والشعوب المتحررة من الاستعمار وحركات التحرر الآتي. وتخلف عن هذه "النظرية" إلى اليوم، يقين لم يتزعزع عموماً الى اليوم، بأن السياسة الاقتصادية وطنية أي قومية محض، وأنها إرادة ونضال ومناهضة، وأن "العالَم"، والاقتصاد الذي يمت إليه، هو صنو الاستغلال والإفقار والنهب ومرادفها الحرفي. فتضافرت سياسات عصبية عدوانية ومستبدة، ومناهج اقتصادية كفافية وحمائية ومستنقعة، على تغذية صورة بائدة وممتنعة مستحيلة عن السياسة الوطنية والسياسة والاقتصاد على حد سواء. جواب وطني وسوفياتي وتقيم المجتمعات العربية، و معظم الإسلامية، على حسبان أن الدولة الوطنية غير المنقوصة السيادة والقرار هي علاج المشكلات أو المسائل الناجمة عن منزع اقتصادي عام إلى التشابك بين الضعيف والقوي، وإلى انفراد المعايير الاقتصادية البحت بالبت فيما قد تترتب عليه كوارث بيئية وصحية وسياسية كونية من التلوث وارتفاع الحرارة الكوكب، إلى الأوبئة الجديدة والمخدرات، والهجرات العريضة، و"الحروب" التجارية المدمرة، والحروب الإثنية والارهاب. ويؤدي الفرق الفادح بين التشخيص الوطني والمحلي السيادي للدواء، أو المعالجة، وبين الأعراض العامة والعالمية للمشكلات الاقتصادية والسياسية، الى استفحال المشكلات وتفاقمها. وفي الأثناء يُغرق التشخيص، والسياسات المترتبة عليه، في "إنزال السياسة المحل الأول"، على قول الزعيم الصيني الذي فتكت سياسته وانعطافاته وثوراته في عشرات الملايين من الصينيين. وعلى خلاف خطابة رسمية ورائجة تدعو الى مؤتمرات دولية تبحث في "الأسباب الحقيقية" لهذه التظاهرة أو تلك، ترعى السياسات الفعلية تعليلاً "سوفياتياً" لتحجر المجتمعات الوطنية، وامتناعها من دخول الرأسمالية ونظمها الانتاجية والاجتماعية. ويقيم التعليل "السوفياتي" على الأخذ بالاستغلال والتقويض، والإلحاق وحجب التقانة والامتناع المتعمد من الاستثمار، حين لا يحمل الهذيان "الشيوعي" و"الإسلامي" السياسي على نسبة مرض عوز المناعة المكتسب "الإيدز" وانتشاره الى ارادة الثأر من افريقيا والافريقيين، على مذهب أول ذهب اليه خليفة مانديلا على رأس جنوب افريقيا، ورجع عنه. ويتجنب التعليل هذا احتساب ما كان يحتمل أو يجوز ان يحصل لو لم يحصل ما حصل وحدث فعلاً. فالقرية الجبلية الأوراسية، بالجزائر، التي زارتها باحثة فرنسية مرة أولى في النصف الثاني من ثلاثينات القرن العشرين، و مرة ثانية بعد عشرين سنة، خسرت في العقدين "الاستعماريين" سكينتها الظاهرة، وسننها الموروثة والمطمئنة. ففشت فيها البطالة والهجرة، واتسعت الهوة بين الجماعات، وتساقط الفقراء والضعفاء والمرضى من الأجسام الاجتماعية المتماسكة التي كانت تحول بين أمثالهم وبين التساقط. فمن يُسأل عن هذا ويتحمل تبعته؟ الجواب "الوطني" جاهز، ولا يقيد إطلاقه وإصابته وتهمته قيد. وهو يحمل التبعة عن الانهيار والارتثاث للاستعمار، وإفساده المتمادي والكثير الأوجه. ولكن تعقب أدوار الانهيار والارتثاث وأطوارهما يسوق الى تناول الأمر على وجه مختلف. فالفرنسيون أرادوا، في العقدين هذين، وقاية أهالي الأوراس وقراه الآمنة من وباءي الهواء الأصفر والملاريا. وكان الوباءان يفتكان في الأطفال والأولاد خصوصاً، فيقتلان فوق نصفهم في الأسابيع الأولى من عمرهم الطري. ولم يكن موت الأطفال والأولاد يحتسب في معكّرات السكينة، ويدخل تحت الموازنة بين النوع وبين الطبيعة. فعمدوا الى رش مجاميع المياه الراكدة بمبيد دي دي تي المعروف. وعبدوا، من وجه آخر، طريقاً تصل قرى الجبال البعيدة بالمدن الناشئة، حيث المدارس والمستوصفات. فنجم عن اطفاء الأوبئة "انفجار" سكاني هو ثمرة الاستدراك على من كانوا يقضون في سن الرضاعة وحفظهم على قيد الحياة. فزاد السكان ضعفين ونصف الضعف في جيل واحد. واضطر الرعاة، والرعي هو حرفة معظم الأهالي ومصدر معاشهم، الى زيادة قطعانهم على قدر زيادة الأفواه الجديدة. فلم تلبث المواشي المتكاثرة ان أكلت أخضر الأرض ويابسها. وأمكنت الطريقُ بعض الرعاة والمزارعين من تصدير فائض نتاجهم. فأثرى بعضهم، ورزح بعضهم تحت الدين وعبئه الثقيل. وظهر الفرق بين من قدروا على التصدير والتسويق وبين من خسروا أرضهم، بعضها أو كلها. وأوفد المقتدرون أولادهم الى مدرسة "كرسي" القضاء أو قصبته وعاصمته. وأبقى الضعفاء أولادهم في الكتَّاب. وتولت مرافقُ عمل الخريجين وعوائدها المقارنة بين التعليمين. فما جناه الفرنسيون "المستغلون"، وهم عادوا الى بلادهم "خائبين" بعد وقت قليل، من ذلك، ومن غيره مثله؟ الاتصال والمنافسة وربما يُخلص من المثل الجزائري إلى تفحص العولمة والتوسع الرأسمالي، في ضوء المواصلات والاتصالات ودورهما. فالعولمة الأولى، على ما يسمى بعضهم السيطرة الامبراطورية والتجارية البريطانية طوال القرن التاسع عشر، توسلت بالتخابر البرقي وسكك الحديد والمراكب البخارية. وذلك على نحو ما تتوسل العولمة الثانية، الجارية، باقتصاد الإعلام المعلومات والاتصال. وفي الحالين يؤدي تحسين المواصلات والاتصالات، وتسريعهما وتقليل تكلفتهما، الى استقطاب يجمع الثروة والتماسك والابتكار في جهة، والفقر والتصدع والركود في جهة مقابلة. وعلى خلاف الظن والحدس الأولين، لم يفضِ رخص الاتصال والانتقال ويسرهما بين المدن وبين قرى الأرياف وبلداتها إلى إقامة السكان في قراهم وبلداتهم، والتردد الى المدن القريبة طلباً للعمل والعودة منها والإخلاد الى الراحة، والطمأنينة في حضن الأهل الأليف. فعلى نقيض التوقع الحسابي هذا أخلت سكك الحديد الأوروبية، وخطوط نقل السيارات والحافلات اليومية والسريعة قياساً على الدواب أو على البوسطات المتعرجة المحطات، القرى والبلدات من سكانها وأهلها المداومين، وقصرتها في آخر المطاف على إقامة موسمية ومتقطعة. وفكت التردد الموسمي والمتقطع من العمل والاجتماع، على فروعه ووجوهه، من جوار وتعارف وتزاوج. فالمواصلات والاتصالات الميسرة تعظِّم المنافسة، وتدعو الى المفاضلة، وترجح كفة صاحب الموارد الكثيرة والمتنوعة على صاحب الموارد الشحيحة وغير المتنوعة. ويُرى النزوح الى القطب الغني بالموارد وترك فقيرها، على رغم جواز الجمع بين الاثنين، أو يسر نقل الموارد من قطب كبير وغني الى آخر قريب منه وفقير، في البلد الواحد والمدن "المليونية" في غضون عقود قليلة، على نحو ما يرى في البلدين الجارين، وفي القارتين الجارتين. ومصدر "المأساة" على قول احد دارس "العولمة وأعدائها" وهو مرشد هذا الفحص السريع، ليس ان العولمة الثانية أو الثالثة على زعم من يعد الرسو على سواحل أميركا عولمة أولى تؤدي الى مجانسة الشعوب والثقافات وحملها على نمط غربي وأميركي واحد، بل هو عجز العولمة عن تلبية ما تنتظره "الشعوب والثقافات" وتريده منها. فعلى المثال الجزائري الأوراسي المتقدم، تريد الشعوب والثقافات أدوية أكثر مما تمكنها مواردها المالية والصناعية والتسويقية من الحصول عليه اليوم. وتريد مواصلات أكثر وأسرع وأرخص، وجواراً غربياً هجرة أقرب. وبينما يدين مناهضو العولمة، على تفرق مشاربهم، اجتياح التجارة الكبيرة والأسواق الرأسمالية السلع الزراعية، ويتخوفون تهديدها الزراعات الغذائية البيتية بالإلغاء، تطالب الدول الزراعية الفقيرة، وشعوبها من ورائها، بتحرير المبادلات التجارية، واستفادتها من الأسواق الرأسمالية الكبيرة. وهذا قرينة من قرائن كثيرة على تخطي المعايير الرأسمالية الواحدة الإعلامَ أو الاتصالات و"الثقافة" التي تحاول القوى الأصولية، القومية والدينية، قصرها عليها، استخفافاً وتهويلاً في آن. فيلاحظ المراقبون ان النساء، المصريات والأندونيسيات والليبيات والايرانيات شأن الصينيات والهنديات والبرازيليات والمكسيكيات - من القارات الثلاث ومعظم الديانات والثقافات الكبيرة - كبحن من تلقاء أنفسهن تعاظم عدد الولادات، وقيدن نسلهن في وقت واحد تقريباً. ويدين تخفيض الخصوبة هذا الى العوامل الاقتصادية بالقليل. فهو متقارب ويتواقت في الأرياف والمدن، وفي العاملات والموقوفات على تدبير بيوتهن، وفي مجتمعات متوثبة وأخرى راكدة، على حد واحد. ولعلّ السبب في تظاهرة سكانية حاسمة من هذا القبيل، "اتصالي"، ويرجع الى مثال المرأة "الفردية" الذي صاغته مجتمعات القطب الغربي، ولم يبق قصراً عليهن. فبعد ان أدى انتشار الأدوية وأنشاء الطرق المعبدة الى إطالة حظوظ المولودين في الحياة وليس الى تقليل عدد مرات الحمل والولادة، وإلى تعاظم الفروق المعاشية والثقافية بين الجماعات والطبقات، انقلبت المفاعيل في غضون ثلاثة الى أربعة عقود. فترتب على الاتصال في اطار زمني واحد و"حقيقي"، وهو يجعل البث والتلقي متواقتين، وعلى تسويق حبوب منع الحمل والتحكم فيه، تضييق شقة الفروق الثقافية. وهو قد يمهد لتضييق شقة الفروق المادية في العقود القليلة الآتية. وهذا من مهمات "الإصلاح"، أو إنشاء السوق الرأسمالية وتوطينها في المجتمعات التي تختبرها السوق هذه في الصور التلفزيونية، والموسيقى الذائعة، فوق ما تختبرها في مرافق العمل، وموازين التوزيع، وتلبية الحاجات. توطين الرأسمالية وقد يكون الأثر الأقوى الناجم عن الرأسمالية، لا سيما في أطوارها المحدثة والمتأخرة زمناً، حؤولها بين المجتمعات وبين انفرادها بنفسها، وتعرفها نفسَها وعلاقاتها وتقاليدها من غير وسيط. فعلى غرار تصديع الرأسمالية الليبرالية المرافق الاجتماعية والكونية التي تحوطها المتوارثة في الاجتماع أو العمران الواحد، وتضييعها الحدود المتعارَفة والمألوفة بين أهل هذه المراتب، تُصدّع كذلك الفواصلَ والسدود بين المجتمعات والأقوام، وتدخلها بعضها في بعض. وهذا ما يُرى في "الإسلام الفرنسي"، أو لندنستان "البريطاني"،أو "الألماني"، أو "الإسباني"، أو في "الإسبانية الأميركية" التي تثير مخاوف هانتنتون على الخليط الأميركي التقليدي وصدارة الأوروبيين إياه. ويلاحظ بعض من درسوا طويلاً أساطير الأولين والآخرين ان ديانات الخلاص الأخير وحركاته، تصور الخلاص في صورة العودة الى "النفس" المجتمعة، والوحدة المتآلفة. ويتولى أهل الخلاص، أو الجماعة "المهدية"، زف خبر اقتراب "الساعة". وتقريب القطبين البعيدين وغير المتكافئين وتخلل واحدهما الآخر - على وجهي "الغزو" السلعي والهجرة الآيلة الى التوطن - يضعفان نسيج المجتمعات الداخلي، ويحملانها على صوغ هوياتها من عناصر وعوامل لم تألفها، ولم يسبق لها ان تناولتها أو اضطرت الى التأليف بينها. وفي الأثناء ونحن في مخاضها تتسع الهوة بين القطبين، ويتعاظم الفرق الاقتصادي بينهما، ويتعاظم النازع الى اجتماع النفس المتصدعة "الآن"، وإلى تقريب ساعة الخلاص. وعلى هذا، فحاجة القطب القوي، الأميركي - الأوروبي والآسيوي على رغم التباين، إلى دخول القطب الضعيف دائرة توطين الرأسمالية الليبرالية، إنما هي حاجة ملحة وحيوية. وتعليل هذه الحاجة بارادة السيطرة على المواد الأولية، والتسابق عليها، أو ب"غطرسة القوة" والانتشاء بها، يغفل عن دخول العلاقات الاقتصادية تحت معايير السوق الواحدة والمستقلة عن المواضع والمواقع "الوطنية" منذ بعض الوقت. ويَغفل التعليل هذا عن ان التشابك الذي يحكم العلاقات الاقتصادية لا يتيح التحرر من القانون العام إلا على الهوامش الضعيفة المردود والأثر. فالداعي الرأسمالي الليبرالي الأقوى هو داعي التوسع والتجدد، أو داعي "السيطرة الفعلية" على طرائق الانتاج والتبادل ونظمها على المثال إياه، وليس داعي الامتلاك، أو السيطرة "الشكلية"، على ما يحملنا اختبارنا المحلي وربما "ماركسيتنا" اللادنية "عصابة البيت الأبيض التي تشن حروباً تدر ملايين الدولارات على الشركات الكبرى" على الظن. ويقدر بعض مؤرخي الاقتصاد ان تسيير المواصلات بين البلاد البعيدة، في أثناء القرن التاسع عشر وعولمته الأولى، من طريق خطوط البرق البرية وفي المحيطات جرى وصل لندن وبومباي في 1865 والرحلات البحرية البعيدة في 1837 سير خط أول عبر الأطلسي وابتكارات الحفظ بواسطة التبريد البراد الأول يعود الى 1871، قلل فرق سعر الحنطة بين ليفربول وشيكاغو من 57 في المئة في 1870 الى 15 في المئة في 1913. وخفض الفرق بين سعر القطن بليفربول وبين سعره ببومباي، في 1870، من 60 في المئة، الى 20 في 1913، وسعر الرز بين رانغون ولندن من 100 في المئة الى 20 في المئة في الوقتين. وكانت الأسعار أغلى في البلدان الصناعية، أو الأبعد من مصادر الخامات والزراعات. ولكن تقريب الأسعار بعضها من بعض لم ينجم عنه تقريب الدخول والعوائد. فكان فرق "الثروة"، على تباين مكوناتها، بين الهندي الفرد وبين نظيره البريطاني، في 1820، ضعفين، وأمسى بعد نحو القرن عشرة أضعاف. وفي غضون هذا القرن فرضت شركة الهندالشرقية البريطانية على الهند ترك صناعة الأنسجة الهندية، وأغلقت التعرفات العالية السوق البريطانية بوجهها. فانكفأ الهنود الى إنتاج يملكون فيه ميزة تفاضلية أكيدة مثل أكياس التحميل الجنفاص والملوّنات وزراعة الأفيون، من غير ان تزيد أرباح رأس المال المستثمر في الهند عن ذاك المستثمر في الحواضر الرأسمالية. والقرينة على هذا، الى المقارنة العينية والإحصائية، هي هجرة الرساميل الأوروبية المطردة من بلدان ما وراء البحار والمستعمرات الى الحواضر نفسها. ويجمع المؤرخون على ان البلدان الرأسمالية الأوروبية التي تأخرت هجرة رساميلها، أو تباطأت عودتها الى الاقتصادات "البيتية" الأم، سددت ثمن التأخر والتباطؤ تردياً انتاجياً داخلياً. فلقاء استثمار البريطانيين نصف مدخراتهم في المستعمرات ومعظم هذا النصف وضع في كندا وأوستراليا وزيلندا الجديدة والولاياتالمتحدة، عشية الحرب العالمية الأولى، نضب الاستثمار الداخلي وتقلص. وبعض الأفول البريطاني منذ أوائل القرن العشرين مرده، بحسب المؤرخين هؤلاء وعلى نقيض "المذهب" الماركسي الغالب في "الامبريالية"، الى انصراف المدخرات هذه عن الاستثمار في المرافق البيتية وتجريدها. وقل نصيب القوة الصناعية العظمى من الصناعات الجديدة في أواخر القرن التاسع عشر، على خلاف الحال في عقود القرن السبعة الأولى. "الامبريالية" الخاسرة وتحقيق هذا، من وجه آخر، المقارنةُ بين أحوال النماء في الاقتصادات "الامبريالية"، وفي خلافها. فالاقتصادات الكبيرة التي تخلفت عن الركب الاستعماري، مثل الولاياتالمتحدة الأميركية وألمانيا، أصابت نماءً أسرع وأعظم من تلك التي تصدرت الركب وتقدمته، مثل بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا والبرتغال وإسبانيا. وتشهد هولندا على صدق التعليل هذا على نحو اختباري: فهي كان نماؤها بطيئاً ومتعثراً طوال انتصابها قوة مستعمرة، تقدم استثمار فوائضها الادخارية في المستعمرات الآسيوية على استثمارها الداخلي، ونشط اقتصادها وتجدد غداة تركها مستعمراتها، واستثمارها في مرافقها وسوقها هي. وتصوير البلدان الرأسمالية في صورة العالة على المستعمرات، وعلى عوائدها المنهوبة، يجافي حسابات بعض أبرز مؤرخي الاقتصاد، ويرث "عقيدة" سياسية وحربية فوق ما يتناول الوقائع. فعشية الحرب الأولى كانت البلدان الرأسمالية الكبيرة تتمتع بانتاج صناعي "مانيفاتوري" للفرد الواحد يبلغ 7 الى 9 أضعاف المتوسط العالمي في 1750 - يوم كان هذا المتوسط متقارباً ومشتركاً -، وكان 98 في المئة من الخامات المنجمية والمعدنية، و80 في المئة من خيوط منسوجاتها، مصدرها البلدان الصناعية نفسها وليس المستعمرات، شأن مصادر الطاقة يومها. وكانت بريطانيا هي مصدر الطاقة الأول من الفحم الحجري. ولم يحل الشرق الأوسط، ونفطه، محلها إلا غداة الحرب الثانية. وبلغت حصة البلدان المستعمرة من صادرات البلدان الصناعية، طوال القرن التاسع عشر وأوائل القرن التالي، 17 في المئة، ويومها لم تكن حصة الصادرات من تكوين الناتج الداخلي الإجمالي في البلدان الصناعية تفوق 8 إلى 9 في المئة، ولا تبلغ فوق 3،1 الى 7،1 في المئة من حجم انتاج هذه البلدان الكلي وحصة المستعمرات هي نصف 3،1-7،1 والاستثفاء البريطاني يرفع حصة الصادرات الى المستعمرات الى 6،4 في المئة من الناتج الداخلي الإجمالي. ولا يسوغ شيء من هذا المزاعم "الشعبية" المتحدرة من دعاوي الحركة الشيوعية والأحزاب "السوفياتية"، في قيام "نهب العالم الثالث" مقام السبب من ثراء الأمم الصناعية والبورجوازية. فأرقام الأممالمتحدة، في 1949، اظهرت تردياً في حدّي التبادل بين البلدان المنتجة الخامات الأولية وبين البلدان الصناعية، من اواخر القرن التاسع عشر الى عشية الحرب الثانية، بلغ بحسب الحسابات هذه 4 في المئة. ولكن تدقيق المؤرخ الاقتصادي بول بيروك ميز في سعر الخامات المستوردة عنصرين: واحداً هو الثمن الذي يسدد الى المنتجين، وآخر يتقاضاه من يتولون نقل الخامات من مناشئها البعيدة الى حيث تصنع. فما تردى وتناقص هو العنصر الثاني. وأما الأول فزاد: فالطن الواحد من القطن المصري كان "يشتري" 7 اطنان من القمح الأميركي في 1870، فصار يشتري 11 طناً في 1929، و40 في 1950. وجملةً، بلغ تحسن حدي التبادل لصالح منتجي الخامات غير المصنعة من 1876 الى 1990، ثلاثة اضعاف، و30 في المئة فقط اذا اخرجت بلدان النفط من الحساب. ويبلغ التردي 25 في المئة، على الحساب نفسه، غداة الحرب الثانية. ولكنه لا يستوفي تعليل الصدع بين الشمال وبين الجنوب. فماذا أنتجت المصانع الهندية، او المكسيكية، او البرازيلية، اقل من نظيرها البريطاني؟ وهي لم تقل عنها عددَ آلاتٍ، وتوفرت لها الصيانة منذ عمل الخطوط البرقية ثم الهاتف. ولم يقل إنتاج الآلة الواحدة في الهند عن نظيرها البريطاني إلا 15 في المئة. ولا يقاس هذا الفرق بفرق "الثروة" الذي تقدم. وجواب السؤال يقود الى مقارنات قد تكون في صلب الإصلاحات التي يتكاثر اقتراحها اليوم. * كاتب لبناني.