القيادة تعزي في وفاة الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر    ولي العهد يعزي تشوي سانج في ضحايا حادث الطائرة    «مجلس التخصصات الصحية» يعتمد استراتيجية العام المقبل    إضافة 122 منتجاً وطنياً في القائمة الإلزامية للمحتوى المحلي    وفاة الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر    2024 يرسم نهاية حكم عائلة الأسد في سورية    الأخضر يختتم استعداداته لمواجهة عُمان في نصف نهائي خليجي 26    الهلال يكسب ودّية الفيحاء بثنائية "نيمار ومالكوم"    جابر: ثقتنا كبيرة في تجاوز المنتخب السعودي    "الشورى" يوافق على تعديل نظام إنتاج المواد التعليمية وتسويقها    مجلس إدارة هيئة الإذاعة والتلفزيون يعقد اجتماعه الرابع لعام 2024    تركي آل الشيخ يعلن عن القائمة القصيرة للأعمال المنافسة في جائزة القلم الذهبي    استعراض مؤشرات أداء الإعلام أمام الوزير    11 ألف مستفيد من برامج التواصل الحضاري بالشرقية    أمير الشرقية يشدد على رفع الوعي المروري    مغادرة ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    علاج شاب بزراعة بنكرياس باستخدام الروبوت    حتى لا نخسر الإعلاميين الموهوبين!    هل تفجّر أوابك ثورة إصلاح وتحديث المنظمات العربية    النصر يتوج بكأس الاتحاد السعودي لكرة قدم الصالات على حساب القادسية    بينهم عدوية والحلفاوي والسعدني.. رموز فنية مصرية رحلت في 2024    كلام البليهي !    التغيير العنيف لأنظمة الحكم غير المستقرة    مبادرة «عدادي»    تحقيقات كورية واسعة بعد كارثة تحطم طائرة بوينج 737-800    الوديعة السعودية أنقذت اليمن    "التجارة" تضبط مستودعاً استغلته عمالة مخالفة للغش في المواد الغذائية    إغلاق عقبة الهدا بالطائف شهرين    خبراء أمميون يطالبون بمعاقبة إسرائيل على الجرائم التي ترتكبها في الأراضي الفلسطينية المحتلة    توزيع 132 حقيبة إيوائية في ولاية بغلان بأفغانستان    وزير خارجية سوريا: نتطلع لبناء علاقات إستراتيجية مع السعودية    مكة المكرمة: القبض على شخص لترويجه 8,400 قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    الجوازات: صلاحية جواز السفر للمواطنين الراغبين في السفر إلى الخارج 3 أشهر للدول العربية و6 أشهر لبقية الدول    نائب وزير الخارجية يستقبل الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدولي    نائب وزير الخارجية يستقبل سفير باكستان لدى المملكة    نتائج نشرة خدمات 2023.. «الإحصاء»: 78.1% مدارس التعليم العام و800 ألف رحلة أقلعت من 29 مطاراً    فرع الصحة بجازان ينفذ "ملتقى الاستثمار الصحي الأول"    مدرب عُمان قبل مواجهة السعودية: نريد النهائي    "المرور": استخدام (الجوال) يتصدّر مسببات الحوادث المرورية    ابتكارات عصرية بأيدي سعودية تعزز رفاهية الحجاج في معرض الحج    الإحصاء تُعلن نتائج المسح الاقتصادي الشامل في المملكة لعام 2023م    الصقور تجذب السياح    "حركية الحرمين" السعي نحو حياة أسهل    المملكة وتركيا تعززان التعاون الدفاعي والعسكري    في بطولة خليجي "26".. الحمدان يتصدر الهدافين.. والدوسري يغيب عن نصف النهائي    عزة النفس وعلو الإنسان    معركة اللقاحات    الذكاء الاصطناعي يشخص أفضل من الأطباء    وزيرا «الإسلامية» و«التعليم» يدشّنان برنامج زمالة الوسطية والاعتدال لطلاب المنح الدراسية    5 فوائد للأنشطة الأسبوعية تطيل العمر البيولوجي    «تونسنا عليك»    بين الأماني والرجاء.. رحمٌ منبثٌ    ترحيل إجازة الشتاء لرمضان !    التعصب في الشللية: أعلى هرم التعصب    ما الفرق بين الدخان والهباء الجوي؟    نائب أمير مكة يعقد اجتماعاً مرئياً لمناقشة نتائج زيارته لمحافظات المنطقة    البسامي يتفقد الأمن الدبلوماسي    السعودية تعزّي كوريا في ضحايا حادث تحطم طائرة ركاب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التظاهرات الحاشدة التي عمت العالم في 15 شباط فبراير فاق بعضها عدداً تظاهرات محلية ووطنية حاسمة كثرة مصادر المتظاهرين واختلاف مشاربهم وتفرق شعاراتهم ... قرينة على قوة الأفراد وضعف الكيانات السياسية
نشر في الحياة يوم 23 - 02 - 2003

بدت تظاهرات 15 شباط فبراير الحاشدة، في نحو 600 مدينة من مدن العالم، "بين القطبين الشمالي والجنوبي" و"على جهتي خط الاستواء" - على ما قالت الصحف وشاشات التلفزة في استهلالات غنائية او ملحمية مهدت للخبر البارز - استفتاء رأي سياسياً عينياً في المسألة التي تشغل العالم كله، وهي الحرب "في" العراق أو الحرب "على" العراق، أو "الحرب الاميركية" على العراق، أو "حرب العراق" على ما كان يقال، بحسب مقارنة تشق طريقها، حرب فيتنام. وجمعت التظاهرات العارمة هذه ما لا يحصى احصاء تقريبياً من المتظاهرين. فالملايين العشرة لا تبدو وافية اذا صح ان تظاهرة روما وحدها، وهي امتدت 12 كيلومتراً، جمعت مليوني متظاهر. والرقم قليل في ضوء تظاهرتي مدريد، العاصمة الاسبانية، وبرشلونة، عاصمة اقليم كاتالونيا، اكبر الأقاليم الاسبانية، وفي ضوء تظاهرة لندن. ويُجمع المتذكرون والمؤرخون على ان العاصمة المتحدة لم تشهد مثلها.
فجاءت تظاهرات 15 شباط، بعد اختبار تظاهرات 18 كانون الثاني يناير، الشهر الفائت، تصديقاً لاستطلاعات رأي لم تنفك منذ أوائل 2002، أي غداة رسالة الرئىس الاميركي في حال الاتحاد او الأمة وهي الرسالة التي بقيت منها عبارة "محور الشر"، تعلن على الملأ معارضة 68 في المئة من البريطانيين، و72 في المئة من البولنديين، و78 في المئة من الاسبان، و89 في المئة من الألمان، و81 في المئة من الفرنسيين، و43 في المئة من الاميركيين في منتصف كانون الثاني 2003 - الى 98 في المئة من الاردنيين، و94 في المئة من الاتراك، و89 في المئة من الباكستانيين - إما لاشتراك بلادهم في الحرب المزمعة او لوقوع هذه الحرب.
واقترب عدد المتظاهرين الفعليين في بعض ساحات التظاهر الاميركية، خصوصاً من أرقام زوار مواقع دعاة التظاهر والتصدي للحرب على الشبكة. فالمشتركون مجاناً في موقع "موف أون" قاعدته ببيركلي المناهض للحرب زاد عددهم منذ آب أغسطس الى عشية التظاهرة العظيمة، من 400 ألف الى 700 ألف. وما كان يخشاه أصحاب الموقع وغيره من المواقع، وهو القناعة بالرأي الاحتمالي، و"الاقتراع" بواسطة "الفأرة" و"الكليك"، او بواسطة التبرع بالمال في سبيل نشر بيان في الصحف الكبيرة مثل "نيويورك تايمز" 40 ألف دولار ثمن الصفحة، لم يحصل. فالمشتركون لم يقبعوا في منازلهم، ولم يتسمروا امام شاشات حواسيبهم، بل نزلوا الى الشوارع والطرقات، هم وأسرهم وأولادهم وأصحابهم، في وقت ماطر وبارد.
ومجيء التظاهرات في أعقاب تمهيد وإعداد دؤوبين ومرهقين، استعملا وتوسلا وسائل بعضها جديد ومحدث مثل البريد الالكتروني، وبعضها قديم وتقليدي مثل توزيع البيانات الى البيوت، وإلقائها في علب البريد، او طرق الابواب ومكالمة السكان ودعوتهم الى إعلام نوابهم بآرائهم - مجيء التظاهرات على هذا النحو ليس تعليلاً وافياً لأعدادها الكبيرة وغير المتوقعة في معظم الأحيان. وأعدادها، من غير شك، حجة قوية لدعاة الحل "السلمي" او الديبلوماسي والقانوني الدولي. وهو يوكل الى الهيئات الدولية، اي الى مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة ووكالاتها الثابتة ولجانها الطارئة، تجنب استعمال القوة في سبيل الخروج من أزمة تتهدد "الشعوب" العراقية، وشعوب البلاد المجاورة، بقتل لا يعلم احد عدد ضحاياه، ولا آثاره في الأزمات والبلاد القريبة والمضطربة الأخرى.
وصفة التظاهرات "الانسانية" على معنى منظمات الغوث "الانسانية"، والمنظمات غير الحكومية لا تنكر، والقرينة عليها لافتات كثيرة رفعها المتظاهرون افراداً وهيئات ومنظمات. ولكن تفاوت أعداد المتظاهرين من بلد الى آخر، وربما من مدينة الى اخرى، واختلاف مشارب الهيئات الداعية وميولها ومذاهبها، وتنوع مصادر المشاركين وشعاراتهم وصبغاتهم، والطرق والأساليب التي جرت عليها التظاهرات، هذه كلها الأعداد والتفاوت والاختفال... تدعو الى بعض التدقيق في دلالاتها، والتبصر في كثرة دلالاتها ومعانيها. فالنظرة الاجمالية الى تظاهرات الخامس عشر من شباط، والى تظاهرات الثامن عشر من كانون الثاني، والى متظاهري هذه وتلك، قد تخطئ وجوهاً راجحة وقوية المعنى منها.
اعتبارات الدول
فهذه التظاهرات ليست واحدة على رغم... ظاهرها، وعنوانها البارز والمشترك، وتقدم صفوفها لافتات عريضة تقول، مجمعة، "لا للحرب". فال450 جمعية و11 حزباً الداعية الى تظاهر البريطانيين، وال250 ألفاً، افراداً وجمعيات، الداعية الى تظاهر الايطاليين، و"البؤر" الاميركية المتفرقة بين ANSWER "انشطوا منذ اليوم في سبيل صد الحرب والعنصرية" وزير العدل سابقاً رمزي كلارك وبين "موف أون" و"ليس باسمنا" شبكة بيان بهذا العنوان وقعه ثلاثون ألفاً منذ اعلانه في آذار/ مارس 2002، وحركة "ثقافة ضد الحرب" الاسبانية، وحزب "باسوك" اليوناني، والائتلاف الألماني من الحزب الاشتراكي - الديموقراطي وحزب الخضر و"أتاك" دعاة مناهضة العولمة وبعض النواب الديموقراطيين المسيحيين، والائتلاف من الاسلاميين واليساريين الأتراك.. هؤلاء وغيرهم ينقسمون على مسائل كثيرة ما عدا مسألة مباشرة القوات الاميركية والبريطانية ومعها ربما القوات الأسترالية، والقوات التركية الحرب، اليوم.
فإذا تخطى الأمر هذه المسألة الى جواز الحرب بقرار دولي، اكثري او مُجمِع، اختلف المتظاهرون في الرأي اختلافاً عميقاً. فثمة في كل بلدان التظاهر الكثيف والحاشد، ولا يستثني الأمر الولايات المتحدة الاميركية، نواة صلبة من رافضي الحرب ومنكريها تحت اي شرط او داعٍ. وتبلغ هذه النواة ثلثي الألمان، ونحو 35 في المئة في بريطانيا، ولا تقل عن عشرين في المئة في الولايات المتحدة وهي تقدر بنحو ثلاثين في المئة في معظم بلدان الاتحاد الاوروبي، او اوروبا "القديمة" على قول وزير الدفاع الأميركي السائر. وتفوق الخمسين في المئة في بلدان وسط أوروبا وشرقها، وهي البلدان المرشحة الى عضوية الاتحاد الاوروبي، او بلدان أوروبا "الجديدة" على قول دونالد رامسفيلد نفسه. وإذا سوغ قرار ثانٍ، صادر عن مجلس الأمن، الحرب، بالقوات نفسها وربما بنتائج وآثار مشابهة أو قريبة، مال رأي كثرة اوروبية اتحادية الى الموافقة، وبقي رأي كثرة اوروبية، وسيطة وشرقية، على حاله ولم يتغير.
ولا شك في ان هذا التباين قرينة قوية على كثرة مصادر الرأي العام، واختباراته التاريخية، في مسألة الحرب "العراقية"، اليوم، وأي حرب أخرى محتملة آتياً. ولعل تصدر الرأي العام الألماني، حكاماً وأحزاباً ومواطنين ناخبين، التحفظ غير المشروط ولا المقيد عن الحرب، يصلح مفتاحاً لتأويل هذا النازع. فالألمان، على قول نائب ديموقراطي مسيحي - والديموقراطيون المسيحيون ليسوا "الأمر" معارضة قياساً على شيوعيي شرق ألمانيا السابقين وعلى مناهضي العولمة أو جناح الخضر المتطرف -، خبروا قصف الحرب العالمية الثانية على بعض كبرى المدن الألمانية، مثل دريسدن في 1943، في سبيل غاية شبيهة بالغاية المرجوة، اليوم، من قصف بغداد في الفصل الأول من الحرب المزمعة. وهي دعوة الأهالي الى الانفضاض عن الطاغية الحاكم.
وعندما دعي الألمان، في 1994، الى الإسهام في قوات الفصل بين الميليشيات الصربية، ومن ورائها جيش بلغراد "الاتحادي"، وبين أهالي البوسنة، وبين هؤلاء وبين القوات الكرواتية في فصل ثان من الحروب اليوغوسلافية الصربية، قيدوا إسهامهم بالفصل وحده، وبمقوماته اللوجيستية و"الإنسانية". وتعللوا بماضيهم في هذه البلاد قائلين انهم اظهروا لأهالي البلقان "بلاءهم" الحربي، في أثناء الحرب الثانية، وهذا يكفي. وكانت ألمانيا مصدر التحفظ الأقوى عن العمليات العسكرية الأطلسية التي حالت بين بلغراد ميلوشيفيتش وبين تهجير ألبان كوسوفو، في 1999، وتحويل الإقليم الألباني الى معتقل تتخلله المقابر الجماعية 9 آلاف إلى 11 ألف قتيل.
فعلى رغم عدالة القضية البوسنية، ثم القضية الألبانية في كوسوفو، لم يخرج الألمان عن التزام المعالجة الديبلوماسية و"الإنسانية" في كل الظروف، وبإزاء أي عدو. والسابقة القريبة التي تتحدر منها تظاهرات اليوم هي سابقة ألمانية داخلية. ففي 1983 - 1986 تظاهرت جماهير ألمانية غربية يومها غفيرة تنديداً بنصب حلف الأطلسي صواريخ "بيرشينغ" بألمانيا نظير الصواريخ السوفياتية "إس إس-20" المصوبة على المنشآت المدنية والمدن الألمانية القريبة. وهم، على هذا، قدموا المسالمة على حق الدفاع عن النفس. فالبقاء على قيد الحياة، ولو تحت سلطان "أحمر" غاشم ومستعبد، أولى من الموت حرقاً بالسلاح النووي، على ما ذهبت إليه بعض شعاراتهم.
والألمان "متطرفون" في هذا الشأن. ويبرز تطرفهم على نحو مختصر وبسيط نزعات جيرانهم، أو بعضها. فإذا استثني الفرنسيون - وهم أقرب الأوروبيين عهداً بالحروب الاستعمارية الدامية 1962، ختام حرب الجزائر، على رغم تأخر الحرب البرتغالية في أنغولا الى 1974 - طلّق الأوروبيون الآخرون منذ الحرب الثانية سياسات التدخل خارج حدودهم. وكانت هذه السياسات استعمارية، وموسومة بميسم العدوان على المدنيين الذين اتخذت منهم الحركات الأهلية الاستقلالية ترساً ورهينة. فلا إيطاليا، ولا اسبانيا، ولا البرتغال على رغم "ممتلكاتها" الافريقية، ولا ألمانيا بالأحرى، ولا بلجيكا، ولا بريطانيا، وكلها قوى فتوح واستعمار سابقة، أقامت على تدبير "ممتلكاتها"، والتسلط عليها، منذ تصفية الاستعمار قبل نيف وأربعة عقود.
وبقي من سياسة التدخل خارج الحدود الوطنية في البلدان "القديمة" هذه، وقت نعمت أوروبا بعد تخلصها من مستعمراتها وتحت المظلة النووية الأطلسية الأميركية، بقي طعم مر وكريه. ولم تسلم سياسة القوة من هذا الطعم ورجعه، إلى اليوم. وخلصت بلدان وسط أوروبا وشرقها، من طريق مختلفة، إلى الرأي نفسه. فهي كانت، طوال نصف قرن، ضحية سياسة قوة قاهرة استنزفت طاقاتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وسلطت عليها أسلحة حرب عالمية ثالثة ماحقة. ولم تمضِ غير سنوات قليلة على تحررها من قهر السلطان السوفياتي، واستبداده. وهي، بالكاد، باشرت خطواتها الأولى على طريق الالتحاق بأوروبا، والاندماج في سوقها الواعدة، واستقبال استثماراتها وتقنياتها وخبراتها.
فلا ترى مجتمعاتها مصلحة لها في تأييد حرب بعيدة، لا يتطاول إليها من بلدان مسرحها ضرر تخافه أو تهديد تتفاداه. وإذا ذكرت بعض حكومات هذه البلدان، في رسالة الرؤساء الثمانية ثم في رسالة العشرة ومعظمها بوسط أوروبا وشرقها وشمالها برجحان الدور الأميركي في تحررها من النير الشيوعي والروسي، فالأغلب على الظن ان مجتمعات الحكومات والدول هذه، على خلاف حكوماتها، لا ترى ان عرفان الجميل يلزمها التجند، ولو الديبلوماسي، في حرب جديدة.
ويكاد يكون الشق بين سياسة الحكومات الاوروبية وبين منازع مواطنيها وميولهم المسالمة والحقوقية، عاماً. فالحكومات تصدر عن احتساب مصالح وقوى ومراتب معقدة لا تصدر عنها المجتمعات. فإذا اذعنت الدول على معنى القوى، فرنسا وألمانيا وروسيا والصين، للسياسة الأميركية "العظمى"، وماشتها من غير امتناع او مقاومة ومعاندة، قضى إذعانها هذا بضعف مكانتها، وبصدارتها في المناطق التي تتصدرها او تسعى في تصدرها. وترتب على فرنسا وألمانيا التخلي عن الطموح الى سياسة خارجية وأمنية دفاعية أوروبية مشتركة تحت لوائهما وقيادتهما. وخسرت روسيا البقية الباقية من ثقل دولي وعسكري لم يبق منه إلا رماد بارد. واضطرت الصين الى الانكفاء عن دائرتها الأقرب في بحر الصين الجنوبي، ولم تأمن التسليم بالتحكيم الأميركي في مسائل "داخلية" مثل تايوان، والتيبيت، والسينكيانغ، وفي مسائل إقليمية مثل كوريا الشمالية وجنوب شرق آسيا والعلاقات مع اليابان.
وما يصح في تعليل سياسات هذه القوى يصح مثله، وإن أفضى الى نتائج مخالفة، وفي تعليل سياسات الدول الأوروبية "الجديدة". فالحكومات تعوِّل على السياسة الأميركية ونفوذها الأوروبي في سبيل دخول أوروبا نفسها، على ما هي حال تركيا، اليوم، بعد قبول ترشيح بولندا والمجر وسلوفينيا في أمس قريب. فدائرة النفوذ الأميركي، السياسي والاقتصادي والنقدي واسعة، ويخولها اتساعها المفاوضة مع الأوروبيين على قبول أعضاء جدد بشروط غير ثقيلة. ولا ريب في أن مصلحة الولايات المتحدة الأميركية، الى نكوص الأوروبيين عن الاضطلاع بتكلفة أوروبا سياسية وأمنية متماسكة وقوية، يحملانها على قصر الاتحاد الاوروبي على سوق تبادل واسعة. وهذا يؤدي الى تيسير دخول اوروبا دولاً لا تستوفي معايير الدخول المتوسطة. ويؤدي، في وقت واحد وللعلة نفسها، الى التجاء هذه الدول الى حماية القوة الأميركية بإزاء جار روسي لا يزال يتمتع بأنيابه النووية، وتعوده بين الوقت والآخر حمى الامبراطورية السابقة. فيحسب ان في وسعه رسم حدود الحلف الأطلسي، الى الغرب، وقسر دول البلطيق، والى الأمس القريب دول شرق أوروبا، على الامتثال لمرسومه ورغباته. فلا مناص لحكومات هذه الدول من طلب الرعاية الأميركية، ومن القبول ببعض شروطها، والتضامن معها في عالم لم يبرأ من إرث منازعات قاسية.
تفرق المجتمعات
وأما مجتمعات هذه الدول فتصدر عن عوامل واعتبارات مختلفة، على ما ظاهر وجلي في التظاهرات المناهضة للحرب. فالتظاهرة النيويوركية، وهي جمعت زهاء ربع مليون متظاهر بين 100 ألف قدرتهم الشرطة و400 ألف أحصاهم المنظمون، جمعت "المحاربين القدامى" في فيتنام، وفي الاحتجاج على حربها، والمحاربين القدامى في الخليج 1990-1991، من الضربين إياهما، الى اليساريين، والفوضويين، وتلامذة الثانويين، والطلاب الجامعيين، وأنصار الحقوق المدنية، ومتدينين في الكنائس المسيحية، ويهود، ومسلمين، ومناهضين للعنصرية، وأنصار البيئة، ونقابيين، وأهل مهن متفرقة. والأرجح ان هذا الاحصاء لا يلحظ ما يلحظه احصاء المتظاهرين في تظاهرات شيكاغو وفيلادلفيا وميامي وسياتل وديترويت وأوستن ولوس انجليس... فمن المدن الستمئة المتظاهرة في 15 شباط ثمة مئتا مدينة أميركية وسبعون مدينة فرنسية من لاتينيين اسبان، وسود، وفناني فنون العرض والغناء.
ورفعت اللافتات آراء ومذاهب هذه الجماعات، على تباينها واختلافها. وهذا، في المدن الاميركية، وفي مدن اوروبا وشرق آسيا ووسط أميركا وجنوبها. فمن الجماعات، والأفراد، من ذهب الى ان "قتل الابرياء ليس حلاً، إنه مشكلة"، على نحو اخلاقي وديني مسيحي، على حين ذهب آخرون الى "لا للحرب الامبريالية"، وهي تشي بإدانة "ماركسية" اللغة، وباستعادة قسمات للعالم وقواه ومنازعاته اضطلعت القوة السوفياتية بدور راجح في رسمها وتثبيتها والعمل بمترتباتها.
ولوح من حاربوا قبل ثلاثة عقود الى اربعة، في فيتنام، بتجربة لم تندمل جراحها، وخلفت 54 ألف قتيل أميركي و800 ألف قتيل فيتنامي: "قدامى فيتنام يستحلفونكم، لا حرب". وحيا آخرون فرنسا: ب"تحيا فرنسا!"، و"شكراً فرنسا"، في عقر الدار الأميركية، وغداة طباعة بعض الصحف المحلية صور القبور الاميركية على الشاطئ النورماندي ممهورة بملاحظة مريرة: "ماتوا في سبيل فرنسا وحريتها، فهل نسيت فرنسا؟". ونبهت جماعات أنصار البيئة الى جدوى صرف الاعتمادات الى الطاقة الشمسية عوض صرفها الى الأبحاث الباليستية والصاروخية.
وتخللت التظاهرات الايطالية والفرنسية والاسبانية، وهي مجتمعات كثلكة تقليدية سابقاً ولا تزال الكنيسة تحظى فيها ببعض النفوذ، جماعات الرهبان والراهبات والكهنة والكشافة. وجدد الكاثوليك الفرنسيون، وباعثهم على ذلك ربما موقف رأس الفاتيكان يوحنا بولس الثاني الداعي بإلحاح الى تجنب الحرب في بلاد مسلمة، قياساً على سنتهم السابقة القاضية بتفرقهم في الجماعات النقابية والسياسية والمدنية المختلفة، فمشوا في بعض التظاهرات الايطالية والفرنسية كتلة واحدة. ومشى المثليون والمثليات في تظاهرات كثيرة كتلة واحدة. وهم وهن ألّبوا في قلب العاصمة الفرنسية تظاهرات ومواكب عدّت الى ما يقرب من مئتي ألف، في بعض السنين.
ولم تتخلف جاليات المهاجرين، وخصوصاً المسلمين والعرب والافريقيين، عن رفد التظاهرات الحاشدة بجماعات منها. وذهب بعض هذه الجماعات، في فرنسا، الى اعلان التضامن مع "الأهل" العراقيين، والتنديد بصدام حسين و"زملائه" العرب الآخرين. فرصفت بعض اللافتات اسم الطاغية و"زملائه" في لوائح تقدمت بعض كتل المسيرات، وذكرت لوائح اخرى، قريبة من هذه، بمطاليب المهاجرين في المساواة المهنية والقانونية.
وفي أكثر من بلد اوروبي قاس منظمو التظاهرات، او دعاتها، اعداد المتظاهرين على مرجع وطني محلي. فمرجع الأميركيين هو تظاهرات الحقوق المدنية والاحتجاج على الحرب بفيتنام. وقياساً عليه رجحت كفة تظاهرات اليوم. ومرجع الايطاليين هو تظاهرتا فلورنسا وجنوا المناهضتان للعولمة، وتظاهرة القطب النقابي و"السينمائي" تنديداً بقوانين برلوسكوني القضائية والاجتماعية التعويضات التقاعدية.
ولا تضير المقارنة المسيرات الاخيرة. ومرجع الفرنسيين التعبئة "الجمهورية" في أعقاب تأهل جان - ماري لوبن، المرشح "القومي - الاجتماعي" والفاشي، الى المركز الثاني في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، في 21 نيسان ابريل 2002. ومرجع الاسبان تظاهرتا مدريد، في العام 2000، غداة اغتيال منظمة الباسك الارهابية، "إيتا"، اعضاء مجالس بلدية محلية، او تظاهرة برشلونة التاريخية، في تشرين الثاني نوفمبر 1977، وهي سارت مطالبة بنظام استقلال ذاتي للولاية الكاتالونية.
وتقدم تظاهرات اليوم، عدداً، على تظاهرات الأمس القريب، او الأبعد ما عدا التظاهرات الاميركية - ومتّت تظاهرات الأمس بروابط قوية وكثيرة الى مسائل داخلية حاسمة - قرينة على فعل العولمة، وأثرها الدامغ في السياسة والاجتماع والأفكار.
فما يجمع البشر الآن، ولو على مقادير ومراتب متباينة، يبدو اقوى اثراً آنياً فيهم من تواريخهم المتفرقة ومصالحهم الوطنية والمحلية، وأجمع لهم منها. وهذا، اذا صح، علامة على "أمركة" العالم، وعلى غلبة النازع الأميركي الى الاعلاء من شأن الحاضر والآتي على حساب الماضي والتقديم الاوروبي له وإحلاله محل الصدارة.
وهو، من وجه آخر أقوى دلالة ربما، علامة على ابتعاد عدد متعاظم من المجتمعات، أو أجزاء متعاظمة من هذه المجتمعات، من التأثر السياسي والثقافي بالعوامل، والسير على هدي دواعٍ صادرة عن تاريخها الوطني. ولعل هذا الأمر، اذا صح، هو تعليل جمع التظاهرات غير المسبوقة هذه روافد مختلفة، ما يفرق بينها اكثر بكثير مما يجمع. فالمتظاهرون، على هذا، انما هم افراد فوق ما هم جماعات، على رغم تحدر بعضهم من ذاكرة مشتركة. وحاديهم الى التظاهر قد يكون، في المرتبة الاولى، قيام الدواعي والبواعث "الانسانية" والأخلاقية والحقوقية والاقتصادية محل الدواعي والبواعث السياسية. فهذه، اي الدواعي والبواعث السياسية، تخالط القوة العسكرية وتلابسها من غير انفصال، وإطارها السياسي هو الدولة او الدول.
ويبدو المتظاهرون، في مرآة عددهم ومصادرهم وشعاراتهم كأنهم يحلمون بعالم من غير دول، ولا سياسة، ولا ضوابط غير الضوابط الطوعية والتلقائية التي تمثّل الحقوق والقوانين عليها، ويرجى ان تقوم محل السياسة والدول. فيطغى التنديد بأميركا على التنديد بصدام حسين. وحين ترفع احدى التظاهرات الألمانية، والمصدر الألماني لافت طبعاً، لافتة تدعو الى "صنع القانون من دون الحرب"، وتُحل محل "فعل الحب" على ما كان متظاهرو فيتنام يقولون ويغنون "فعل القانون" او "صنعه" وإيجابه وصوغه، فهي تجهر شطراً قد يكون راجحاً من رغبة متظاهرين يلتبس عليهم مشهد العالم، الواحد والكثير في آن.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.