سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
دعوة المجتمعات وليس الحكومات وحدها الى إدانة أنواع تمييز متكاثرة تفضي الى "جبهات مقلوبة" من غير انتصارات ولا هزائم . مؤتمر ديربان الثالث ورث مؤتمرين أخفقا في مناقشة قضايا العنصرية والتمييز
} أدى التحالف بين ممثلي المجموعة الأوروبية وبين ممثلي الدول الافريقية، في ساعات المؤتمر الأخيرة من يوم السبت في 9 أيلول سبتمبر الى بعض الانقلاب في المواقف من صياغة البيان الختامي الصادر عن مؤتمر ديربان. فحمل اتفاق الدول الافريقية والدول الاوروبية على 1- ادانة الرق والعبودية والاستعمار، و2- ربط الادانة "التاريخية" بمسائل راهنة، اولها مسألة ديون البلدان النامية وإلغائها - من غير ان يحسب الربط تعهداً ولا تعويضاً -، وحمل الاتفاق دولاً اسلامية افريقية وآسيوية على الفصل بين مسألتي الرق والتعويض المباشر عنها والشرق الاوسط والتنديد باسرائىل. فنجم عن الفصل هذا تداعي الجبهة السياسية "العمالثالثية"، بعدما بدا ان الولاياتالمتحدة الاميركية قريبة من الفوز بالعداء الذي ادى قبل اشهر قليلة الى خسارتها مقعدها في لجنة حقوق الانسان في الأممالمتحدة، واستقبل تملص الرئيس الاميركي من التزامات مؤتمر كيوتو للمناخ. فما بدا، في ايام المؤتمر الاولى، قوة تكتيكية ضاربة وسع الوفود العربية استعمالها والاستقواء بها، تكشف عن ضعف سياسي بالغ. وليس مرد هذا الى هشاشة التحالفات وحدها، بل الى المبالغة في المطالبة الآنية والظرفية من غير اعتبار اطار هذا النوع من المؤتمرات ومعاييرها الزمنية، ومن غير احتساب كثرة المصالح والأقطاب المتنازعة فيها. واذا كانت لجنة العفو الدولية، وهي من كبرى المنظمات غير الحكومية، إن لم تكن اكبرها، نوهت بجدوى المؤتمر وبمناقشته قضايا منسية مثل قضية الغجر وقضايا التمييز الجنسي، فتنويهها هذا، واقتصاره على مسائل لم تكن بين المسائل البارزة في الاعلام، انما يدل على انقسام مؤتمر ديربان مؤتمرات، بعدد "الجمهرات" المشاركة والقضايا التي يتولى كل جمهور عرضها والانتصار لها. وهذا، اي انقسام المؤتمر العالمي الى جمهرات اقليمية، لا بد ان ينجم عنه إبطال مبدأ المؤتمرات العالمية. فيهلل كل جمهور لقضيته ورايته مع حلفائه وأنصاره. وعلى هذا فقد لا ينعقد مؤتمر رابع في العنصرية الا بعد معالجة كل بنود القضية. من العسير القول ان مؤتمري ديربان العالميين لمناهضة العنصرية والتمييز العرقي أو العنصري وكراهية الأجانب وعدم التسامح 28 آب/ اغسطس - الأول من أيلول/ سبتمبر، مؤتمر المنظمات غير الحكومية، و1 أيلول - 7 أيلول، مؤتمر ممثلي الدول ووفودها منعطف في العلاقات الدولية، أو انه قد يترك أثراً عميقاً في هذه العلاقات. فهو لن يكون، في أسوأ الأحوال، إلا المؤتمر الثالث من نوعه، بعد مؤتمري الأممالمتحدة السابقين في صدد العنصرية في 1978 وفي 1983. والمؤتمران السابقان، وهما انعقدا بعد اقتراع الجمعية العامة لهيئة الأممالمتحدة في 1974 على وصف الصهيونية بالعنصرية، أخفقا في الاتفاق على توصيات مشتركة، وعلى "برنامج" مشترك يقتصر في الأكثر على أماني المجتمعين. ولكن المؤتمرين السابقين اجتمعا بفرق لا يتجاوز السنوات الخمس على حين أن الثالث انتظر ثمانية عشر عاماً لينعقد، من غير أن يسعف الانتظار في تمهيد الخلافات ولا في بلورة معالجة مشتركة. وكانت الأممالمتحدة أصدرت إعلاناً في تشرين الثاني نوفمبر 1963، وصف كل تمييز بين البشر "بذريعة العرق، أو اللون أو الأصل القومي الاثني" بانتهاك الكرامة الانسانية وحقوق الانسان والحريات الأساسية. وحمَّل الاعلان الذي يرقى الى نحو أربعة عقود، ضروب التمييز هذه المسؤولية عن التسبب في تعكير السلم والأمن في علاقات الشعوب بعضها ببعض المادة الأولى. ودعت المادة الثالثة من الاعلان الى وقف جهود حثيثة على الحؤول دون تقييد الحقوق المدنية ومنح الجنسية والتربية والممارسة الدينية والعمل والسكن بشروط العرق أو اللون أو الأصل القومي. ودعت مواد اعلان العام 1963 الدول والادارات الى اعتبار المساواة في الحقوق السياسية والقضائية والادارية والأمنية والاقتصادية بين المواطنين من الأعراق والألوان والأصول القومية المختلفة. فأنكرت المادة الخامسة انكاراً شديداً التذرع بفرق العرق أو اللون أو الأصل القومي الى تقييد حقوق المواطنين السياسية "وخصوصاً الحق في الاشتراك في الانتخابات من طريق الاقتراع العام والمتساوي، والحق في المشاركة في الحكم"، وفي الوظائف العامة، على قدم المساواة بين المواطنين في الدولة الواحدة. وصيغ اعلان تشرين الثاني 1963 على نحو تعمد الدلالة الى جنوب افريقيا ونظامها العنصري، والتنديد بها من غير تسميتها، ولا تسمية غيرها فلا اشارة الى العصبية على السامية، ولا الى النازية، ولا الى أعمال إبادة أو اعتقالات جماعية، أو عقوبات جماعية، على رغم قرب العهد بالحركات الاستقلالية وقمعها. ففي 1963 قضت المحاكم العرفية الجنوبية بسجن نلسون مانديلا مدى الحياة. وكان مانديلا اعتقل في 1956 على أثر حركات احتجاج السود على سن حكومة جنوب افريقيا قوانين التمييز العرقي التي تناولت الزواج والعلاقات الجنسية والأحوال الشخصية والمدنية والنقل العام وارتياد الأماكن المختلطة والعلنية. وعلى رغم جلاء القصد من الاعلان ووضوحه تجنبت الهيئة الدولية التخصيص والتعيين. وعادت الهيئة الى مسألة التمييز العرقي في 1973، بعد عقد على اعلانها الأول، وسمت التمييز هذا "جريمة في حق الانسانية"، من غير تخصيص كذلك. ولا ريب في أن الاعلان الأول، وهو معطوف على الاعلان الدولي لحقوق الانسان 1948 وعلى ميثاق الأممالمتحدة 1945، ردد أصداء حوادث اميركية جسيمة. وليس أقل هذه الحوادث تعاظم حركة الحقوق المدنية التي تصدرها القس مارتن لوثر كينغ، غداة إبطال المحكمة العليا الاميركية الفصل بين أولاد البيض والسود في المدارس وفي باصات النقل المدرسية في 1954. وتوج هذه الحركة سنُّ "شرعة قانون الحقوق المدنية"، في 1964، و"شرعة الحقوق الانتخابية" في العام التالي. ولا شك، من وجه آخر، في أن إعلان 1963 صيغ غداة استكمال ما عرف بتصفية الاستعمار وطي صفحة السيطرة الأوروبية القديمة على بلدان "العالم الثالث"، وربما تيمناً بالاستكمال وطي الصفحة هذين. أحلام متقوِّضة وتكفل الوقت الذي انقضى بين 1963 و1978 بتقويض أحلام الحركات الاستقلالية. ويعزو الفرنسي مارك فِرّو، مؤرخ "الاستعمارات" "من الفتوح الى الامبرياليات"، انهيار المجتمعات التي استقلت في العقدين السادس والسابع من القرن العشرين، والافريقية منها على وجه الخصوص الى اتفاق استقلالها السياسي مع ابتداء العولمة الرأسمالية وظهور أعراضها الانتاجية والاستهلاكية الأولى. فلم تكد هذه المجتمعات تستقل حتى جبهتها شبكة انتاج وتوزيع وتمويل وتسويق متماسكة وعريضة، لا طاقة لها بمقاو متها، وليس في مستطاعها التملص منها. وتوهمت الدول المستقلة الجديدة، ونخبها المحدثة ان تصديرها خاماتها الصناعية والزراعية المعدة للتصنيع، وتوظيفها عائد هذه الخامات في صناعات محلية بديلة من الصناعات التي تستورد منتوجاتها وسلعها، كفيلان بمراكمة رأس مال داخلي لا محالة يؤدي الى الاكتفاء والمناعة من السوق وتقلباتها. فأدت هذه السياسة الاقتصادية الى تعاظم الاستيراد، استيراد السلع المصنعة الثقيلة ثم استيراد السلع الغذائية والضرورية الأولى. وفاقم اضطراب سوق اسعار المواد الأولية، "الكولونيالية"، وميلها الى الانخفاض الشديد تحت وطأة عرض متعاظم، ونشأة سوق استهلاك "جماهيرية" في أوروبا وأميركا غذتها انتاجية متسارعة، من خلل التبادل. وأجهزت سياسة المنازعات المحلية والاقليمية والقومية، وبعضها كان صورة عن الحرب الباردة في "الطبقات العليا" للسياسة الدولية، على عوامل التماسك الداخلية والاستقلال والديموقراطية السياسية والاجتماعية. فدخلت المجتمعات المستقلة الجديدة، منذ أواخر العقد السابع، فيما سمته الدعاوة الصينية الماوية في أثناء "الثورة الثقافية البروليتارية" "حقبة العواصف".و تمخضت "العواصف" التاعسة تلك عن حروب اقليمية مدمرة، ليست حرب حزيران يونيو 1967 أقلها شأناً وأثراً، وعن حروب أهلية لبست، في "القارات الثلاث" لبوس حركات كفاح مسلح و"جبهات تحرير" مسلحة. وأفضت هذه، من طرق كثيرة ومتفرقة، الى ديكتاتوريات عسكرية تسلطت على معظم مجتمعات أميركا اللاتينية وافريقيا كلها والشرق الأوسط. ومزجت الديكتاتوريات هذه السياسة بالجريمة، والعلاقات الاجتماعية بالعلاقات الأهلية والولاء، والاقتصاد بالتهريب والمصادرة. وتلقفت السياسة السوفياتية، والسياسة الصينية على نحو آخر، تلقفتا أمراض "الاستعمار الجديد" الحقيقية هذه، وعالجتها بالتحريض على إنشاء ديكتاتوريات على مثال "الديموقراطيات الشعبية" المتآكلة التي نشأت غداة الحرب الثانية. فقام حكم الحزب الواحد، ووُحِّد الحزب بالادارة والمجتمع، وتولى الجهاز الاداري والأمني والايديولوجي "تدبير" الاقتصاد أي سوسه بالتعسف المركزي والفساد والتبديد والجمود. وتضافرت السياستان، السوفياتية الروسية والصينية الماوية، على تحميل "الرأسمالية" الأوروبية - الاميركية التبعة عن علل مجتمعات العالم الثالث كلها، السابقة منها واللاحقة. وصورت السياستان العلاقات الدولية بين الدول والأمم، من وجه، وبين الطبقات الاجتماعية المحلية والعالمية، من وجه آخر، على صورة واحدة متصلة. ولقيت هذه الصورة هوى في نفوس "جماهير" العالم الثالث وفي نفوس الحكام، على حد سواء. فالأمة الواحدة والمرصوصة بإزاء عدو عظيم لا يُحاط، ولا تحصى وجوهه ومسالكه، ويتخلل الداخل ويملأ الخارج كله، مثل هذه الأمة، المجتمعة على عدوها في حرب لا نهاية لها ولا هوادة فيها، أطوع انقياداً، وأيسر على القمع من المجتمعات السياسية المركبة والمتنازعة. والحق ان بعض وجوه حروب الاستقلال وملابساتها، في افريقيا خصوصاً، ثم بعض وجوه العلاقات الدولية بعد الاستقلال، حملت أصواتاً جهيرة على التنديد بسياسات الدول المستعمرة السابقة، وبتمهيدها طوال القرن الذي مضى النصف الأول من القرن التاسع عشر - أوائل النصف الثاني من القرن العشرين للتبعية "الاستعمارية الجديدة". أمم وطبقات وأعراق... فكان صوت فرانتز فانون - المارتينيكي مولداً، والفرنسي ثقافة ونشأة ولغة، والجزائري هوى وسياسة، والافريقي دعوة - من الأصوات الجهيرة هذه. ودعته ظروف حرب الاستقلال الجزائرية، بقسوتها وفظائعها وغلو طرفيها وعدد ضحاياها، الى حمل حروب التحررعلى مثال حروب الاستئصال المفترضة بين السادة والعبيد، أو بين "مستضعفي الأرض"، على ما لن يتأخر القول طويلاً، وبين "مستكبريها". ولما كانت الأمم السياسية الناشئة أمماً ملونة - آسيوية "صفراء" في جنوب شرق آسيا، وهندية "حمراء" أو نحاسية في البحر الكاريبي وجنوب اميركا، وافريقية "سوداء" في افريقيا الشرقية والوسطى والغربية والجنوبية، وشرق أوسطية "سمراء" في شمال افريقيا وشرق السويس -، تسلط عليها "الرجل الأبيض" متذرعاً بتأخرها، ثم ناسباً هذا التأخر الى طبائع اللونُ قرينة دامغة عليها، أدخلت السياسة الثورية التحررية اللونَ والأعراق حجة من الحجج القوية على شراسة العداوة والتسلط الاستعماريين. واستعملت اللون في تقوية الحاجة الى رص جبهة قارية ومثلثة بوجه التنين الامبريالي. وكانت السياسة السوفياتية، قبل الحرب الثانية وبعدها، وإذا استثنيت سنوات الحرب "الجرمانية السلافية" على ما صورتها النازية الهتلرية، تجنبت ربط المعايير السياسية والاجتماعية، ولو في اطار جبهة عريضة مناهضة للامبريالية وتضم "شعوب الشرق" الى "الطبقة العاملة" في البلدان الصناعية، بالعرق واللون، أي بطبائع ثابتة ولا تتغير بتغير التاريخ المشهود وفصوله، وتورعت عن هذا الربط. ولكن السياسة الصينية الماوية في مرحلتها "الثقافية" 1966-1973، وعلى قدر أقل السياسة الكاستروية والغيفارية الكوبية، لم تتورعا عن هذا الربط، الموارب في أحيان كثيرة. فدعت السياستان، في صراعهما المتفاوت مع السياسة السوفياتية "البيضاء" أو المائلة الى مهادنة "الغرب" الأوروبي الأميركي، دعتا الشعوب الملونة في "أرياف العالم" الجائعة الى محاصرة "مدن" الرأسمالية "البيضاء" والمتخمة. فإرساء الصراع الدولي على تضافر الأمة والطبقة واللون، وعلى تماسك بواعثها وخسائرها وضغائنها، بدا أقوى ضمانة لتلاحم الجبهة المناهضة للغرب الرأسمالي، وأشد استعداء وتعميقاً للتناقض، من المصالح الاقتصادية والاجتماعية الجزئية والمعقدة والمتقلبة. وفي الاثناء أذكى اغتيال مارتن لوثر كينغ، في نيسان ابريل 1968، ارتداد السود الاميركيين عن العمل المدني وانقلاب بعضهم الى العمل العنيف والعسكري. وكانت جاليات "ملونة"، مصدرها البلدان المستعمرة السابقة الهند وباكستان وشمال افريقيا ووسطها وغربها وشواطئ المحيط الهادئ ووسط اميركا والبلقان، أخذت تملأ بعض "قيعان" على قول مكسيم غوركي المدن الأوروبية والاميركية، ومرافق خدمتها الوضيعة وصناعاتها المرهقة وغير الممكننة أو المؤتمتة بعد. فآذن ذلك، أو بدا إيذاناً مقنعاً بتوسيع "الجبهة" المرصوصة الى قلب القلعة الامبريالية و"الورقية" فالامبريالية "نمر من ورق"، على قول القائد الصيني، وأ"سنانه النووية"، على قول سوفياتي سجالي، عاجزة عن القضم والعض والأيذاء، شأن "بيت العنكبوت الواهي" في الخطابة الخمينية اليوم. فقُسمت الطبقات المقهورة في الحواضر الرأسمالية طبقتين أو مرتبتين ومصلحتين متناقضتين: واحدة محلية، بيضاء، "أريستقراطية"، وتابعة للطبقة السائدة، وثانية مستوردة من الأطراف، ملونة، وبروليتارية حقاً وفعلاً. فناط "الماو"، على ما سمى ناشطو 1968 أنفسهم في فرنسا، ونظيرهم "المستقلون"، بإيطاليا، و"الحمر" الألمان أنصار رودي دوتشكيه قبل أن ينقلبوا الى "الجيش الأحمر"، ناطوا باليد العاملة البكر، المغاربية والسوداء والجنوبية الصقلية والتركية، وبميلها المحقق الى اعتراض دورة الانتاج المنتظمة، ونازعها الى الرفض الجمعي، خلافة البروليتاريا الصناعية التقليدية. فهذه لم يلبث المثقفون ودارسو الاجتماعيات العمالية ومؤرخو الحركات الشيوعية ان "ودعوها"، على ما وسم أحدهم كتاباً طبع في أوائل السبعينات "وداع البروليتاريا". وكان بعض هؤلاء توسموا، منذ أوائل الستينات، تبلور ملامح "طبقة عاملة جديدة" قوامها عمال مؤهلون ومهرة، وتقنيون يتولون الضبط والمراقبة فوق توليهم مباشرة الأشغال العسيرة. ولما شاء الناشطون الجدد، العالم ثالثيون والخارجون على الأحزاب الشيوعية السوفياتية والنازعون نازعاً ثقافياً هو بعض أثر إعدادهم الجامعي وضعف خبرتهم بالعمل، لما شاؤوا إرساء نضالاتهم، ونضالات قاعدتهم الاجتماعية على وعي ووجدان متينين، توجهوا شطر "كيان" القاعدة الاجتماعية هذه. فمجدوا من غير تحفظ ولا اعتدال مصادر "القاعدة الاجتماعية" القومية، ومدحوا مديحاً عالياً اعتزازها بمشأها، وقدموا على سائر مطاليبها طلبها الاعتراف بكرامتها. وبعثت الحركاتُ الاجتماعية الجديدة، الحركة النسوية والحركة المثلية والتيارات الطالبية و"العشرينية"، على نقد الميراث الثقافي والتاريخي. ونسبت استقرار التفاوت بين الذكور والإناث، وبين "الأسوياء" و"المنحرفين"، والقُصَّر والراشدين، و"البيض" و"الملونين"، الى انحياز الأفكار السائدة، والمعرفة التاريخية والاجتماعية، الى أهل السلطان، من بيض وأوروبيين و"بورجوازيين" وذكور وأسوياء وراشدين، الخ. فنشأ عن هذا النقد تفكير "قويم" و"صحيح" عزا ضروب التفاوت والاختلاف الى تواطؤ المعرفة، المزعومة على زعم التفكير القويم هذا، مع الجماعات المسيطرة ومماشاتها لها. وخلص من هذا الرأي الى نسبة كل معرفة الى تعسف أول، ومصادرات أولى لا مسوغ لها الا اعتقادها وتعميم اعتقادها. فدعا التفكير القويم، وهو أينع في بعض الجامعات الاميركية حيث نشطت حركات الملونين والمثليين والطب النفسي والعصبي النقيض، الى مصادرات فكرية وتاريخية تجعل الصدارة وتوجبها للمقهورين. وعلى هذا ف"الأسود جميل"، و"الأنثى هي الأصل" والذكر نافل، والمستعمَر الشرقي ليس إلا نتاج مقالات السلطان الغربي فيه وفي تاريخه، والمجنون وليد الطب النفسي والعصبي والميتافيزيقا التاريخانية الغربية... وجاءت الردود على شاكلة مراجعات عامة وصارمة. فالرأسمالية، في مرآة المراجعات التي ملأت العقد السابع وبعض العقد التالي، ليست إلا ثمرة "نهب العالم الثالث" ومراكمة فائض استغلاله ونزفه" والتاريخ الاميركي الأبيض هو تاريخ السطو على الأقوام المحليين واستئصال مئة مليون منهم" والعلم "الغربي" ذرائعي وآلي وتقني، وهو ثمرة الحط من حدس الشعوب وعبقريتها الحسية والجمالية والدينية الطلقة. وعلى حدة من هذه المراجعات نشأت مراجعة بعض فصول التاريخ الأوروبي المعاصر، ومنها الفصل النازي. "التناقض الرئيسي" وانعقد المؤتمران الأولان، في ختام العقد الثامن وأوائل العقد التاسع، في ظروف تقدم بعض وصفها. وفي الأثناء غلبت البلدان المستقلة والدول الجديدة - وبعضها ولد متأخراً من آخر فصول تصفية السيطرة الاستعمارية مثل أنغولا وغينيا - بيساو اللتين استقلتا عن البرتغال غداة الحركة العسكرية الديموقراطية، وبعضها الآخر التحق بركب المعسكر السوفياتي، مثل الحبشة وأفغانستان - غلبت على الأممالمتحدة غلبة كاسحة. ولا شك في أن الهزيمة الاميركية بفيتنام، في 1972 - 1975، ردت بعض الحياة الى روح عالمثالثية واهنة. ومضى الاتحاد السوفياتي، الى نهاية العقد الثامن من القرن العشرين، أي الى 1979 أفغانستان ونيكاراغوا، على ضم دول جديدة الى معسكره وكتلته، على رغم انهيار معظم دول "الطريق اللارأسمالي الى الاشتراكية"، على ما سميت أنظمة الحزب الواحد الوطنية والمستقلة. فمن نحو نيف وخمسين دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، في ختام العقد الذي شهد انشائها، بلغ عدد دول الجمعية العامة نحو مئة وعشرين دولة، معظمها أنشأ "دولة" في العقد السابع. وكانت الجمعيات العامة، طوال الحرب الباردة أو "حرب الخمسين عاماً" على ما سماها بعض المؤرخين، ميداناً للاشتباكات السوفياتية - "الغربية". وفي معظم الأوقات انحاز مندوبو دول العالم الثالث انحيازاً غير متردد الى السياسة السوفياتية. وكان "المذهب" الديبلوماسي الدولي السوفياتي يقضي بازدواج الشرعية الدولية شرعيتين: واحدة "شكلية" بورجوازية، وأخرى "حقيقية" يحق بموجبها لدولة "اشتراكية" أن تستغني عن انشاء قضاء مستقل يراعي حقوق الدفاع، مثلاً، ويحق لها ان تنتهك حظراً تجارياً، وأن تسلح حركة أهلية... ولم يرجع الاتحاد السوفياتي عن مذهبه هذا إلا في خطاب غورباتشوف في الجمعية العامة خريف 1990. وظهرت "الكثرة الأكثرية الأوتوماتيكية" في الاقتراع على التوصيات والبيانات والقرارات التي تتولى الجمعيات العامة، أو في المؤتمرات التي تدعو اليها الأمانة العامة للأمم المتحدة وتخص بها مسائل أو قضايا مهمة مثل مراقبة التسلح أو مكافحة الأوبئة القاتلة أو رعاية البيئة أو ضبط الولادات أو حماية حقوق الانسان. فلما اجتاح الاتحاد السوفياتي أفغانستان انشقت كتلة بلدان العالم الثالث ولم تدن الاجتياح. وعقد المؤتمران السابقان لمناهضة العنصرية في سياق "الكثرة الأوتوماتيكية" هذه. وتحولت الجمعيات العامة والمؤتمران، على خلاف أعمال مجلس الأمن، الى منابر خطابة يتبارى الخطباء عليها في رمي "الغرب" بالتهم، وفي التنديد بإجراءات الديموقراطية الغربية الشكلية والجوفاء، ومطالبة هذا الغرب برد جزء من سرقاته، وذلك في ضوء اقتصاد سياسي وتأريخ واجتماعيات مرَّ استطلاع ملامحها. وجالت كتلة الدول الاسلامية، وبعضها عربي ومعظمها اسلامي غير عربي، جولات مشهودة في المؤتمرات. فعدد دول الكتلة يبلغ نيفاً وخمسين دولة. ومنذ 1973 تبلغ حصة هذه الدول من عوائد النفط، ومن الكتلة المالية، وسوق التسلح، شطراً لا مناص من اعتباره. وشطر غير قليل من قضايا العلاقات والمنازعات الدولية والمصالح الاستراتيجية السياسية في آسيا الوسطى وآسيا الجنوبية والمحيط الهندي والشرق الأوسط وضفاف المتوسط والقرن الافريقي يدور على دول هذه الكتلة. فلا عجب إذا هي انتصرت في حلبة مثل هذه المؤتمرات والندوات. وهي تتوسل بسلاح من العسير رده، هو سلاح التقاليد والمعتقدات. ففي مسائل مثل السكان مؤتمر القاهرة الدولي في 1986، أو المرأة مؤتمر بيجينغ/ بكين، أو "الايدز" قبل أشهر قليلة، غالباً ما توحد الوفود الاسلامية سياساتها ومناهجها بتقاليدها ومعتقداته الثابتة. ولما كان من المحال مناقشة هذه، أي التقاليد والمعتقدات فمن المحال مناقشة تلك السياسات والمناهج والنظر فيها من غير التعرض الى الهويات التاريخية وقوامها. ولم يؤدِّ تعاظم دور المنظمات غير الحكومية في العلاقات والسياسات الدولية، أو دور "المجتمع المدني الدولي"، على ما جرى في العقدين التاسع والعاشر من القرن العشرين، الى ازاحة السياسة وطبقاتها الحاكمة ومصالحها عن موقع القيادة الواحدة والصارمة. فتلقفت بعض المنظمات غير الحكومية، ولا سيما الايديولوجية و"الأهلية" منها، نتائج العولمة وآثارها في النسيج الدولي والنسيج الوطني، في تجديد الحملة القديمة على الامبريالية الاميركية، وقد خلت الساحة لها منذ عقد كامل على تواري الاتحاد السوفياتي. وفي الأثناء، أي في غضون العقد العاشر، انتشرت بعضَ الشيء الدعوات الى "الاعتذار" و"الصفح" عما بدر من قوم أو دولة أو هيئة في حق قوم والتعويض عليهم.. وكانت الجماعات اليهودية المستفيد الأول من هذه الدعوات. وانتشر مفهوم "الجريمة في حق الإنسانية" وأسفر عن اعتقالات وتحقيقات. عموم التمييز؟ وعندما دعت السيدة ماري روبنسون، رئيسة جمهورية ايرلندا سابقاً ومفوضة الأممالمتحدة الى رعاية حقوق الانسان، المجتمع الدولي الى عقد مؤتمر ديربان، ورحبت باستضافة جنوب افريقيا المؤتمر، عولت على دور المنظمات الحكومية في إغناء المناقشة وتنويعها وتعميقها، في ضوء سوابق كثيرة وغير قديمة. فخص المؤتمر، والسيدة روبنسون هي أمنيته العامة، المنظمات هذه بثلاثة أيام تسبق انعقاده الرسمي، وتضيف مناقشاتُها الحرة والكثيرة اليه، والى نصوصه، مشاغلها وأفكارها واختياراتها. ومهدت مفوضة الأممالمتحدة لدور المنظمات الحكومية بندوات تنقلت بين ناشفيل وكيوتو ووارسو ودكار وبين سانتياغو وطهران وستراسبورغ والدار البيضاء وكوستاريكا. وكانت الغاية من هذه "الكونية" الالمام بالمشكلات الناجمة عن التمييز العرقي وازدراء الأجنبي والعصبية على الغير في عالم لا تنفك اجزاؤه يأخذ بعضها بتلابيب بعضها الآخر. فالهجرات تتطاول الى أبعد الشعوب والأقوام. وانتقال العمالة المقيمة والدائمة يجعل من بعض بلدان "العالم الثالث" ضواحي قريبة من حواضر البلدان الصناعية، ومن بعض ضواحي المدن الصناعية الأوروبية "حارات" افريقية أو آسيوية أو عربية أو تركية. وتنقيل المرافق الصناعية يشبك على غير ترتيب في بعض الأحوال المكاتب بالمصانع والمختبرات والمصارف والبورصات. ولا شك في أن هذه التظاهرات، من تنقيل وشبك وتنسيب على بعد وفرط عن قرب، تؤدي كذلك الى تفاقم الفروق بين المجتمعات، والى تعميق الهوة في المجتمع الواحد، والمنشأة الواحدة. وتمحو العلامات المتعارَفة، وتبث الشك في الهويات وتماسكها واتصالها، وتدعو الى حبكها على محاور مختلفة أكثر تعقيداً بكثير من المحاور المعروفة والأليفة. وقد تؤدي التظاهرات هذه، وفروعها ونتائجها، الى محاولة اتقائها من طريق بعث الروابط "الطبيعية"، المختبرة والمتوارثة، والعصبيات المتينة. وحفل العقد الأخير من القرن العشرين بارتكاسات كثيرة الى مثل الروابط والعصبيات المدمرة هذه، بعضها كان استمراراً لحوادث سابقة وبعضها ابتدأ حوادث جديدة. فمن النساء الأفغانيات في عهد "طالبان" الى أهل الجبال في فيتنام، ومن مسيحيي جزر الملوك وتيمور الشرقية في أندونيسيا الى مسلمي جيانغيانغ في الصين، ومن أهل جنوب السودان الى أهل التيبت في الصين، ومن منبوذي الهند الى أهل بعض المهن "الوضيعة" الدباغة، الجزارة، الوشم، العناية بالموتى والمهاجرين الكوريين في اليابان، ومن التوتسي في رواندا و"البحيرات الكبرى" في وسط افريقيا الى "هنود" البيرو والأقوام الأصليين في ظواهر الغابة الأمازونية وأكراد المشرق، ومن تجارة الخادمات والخدم الآسيويين والافريقيين اثيوبيا واريتريا في عدد كبير من البلدان الى تجارة بغاء الفتيات في أوروبا الشرقية وأوروبا الجنوبية والفتيان في تايلندا وازدراء الأجانب "الملونين" في ما لا يحصى من الضواحي الأوروبية والأميركية... لائحة طويلة من أفعال التمييز الراهنة والمشهودة والباعثة على تهديد السلام والأمن في بعض الأحوال والظروف. ولعل هذا ما حمل الأمين العام للأمم المتحدة، وحمل المفوضة شؤون حقوق الانسان على القول ان قضايا التمييز العرقي والعنصري، وما ينطوي عليه هذا التمييز من مشاعر الكراهية والتعالي والخوف جميعاً، لا تعف عن بلد من البلدان أو مجتمع من المجتمعات. فالمجتمعات كلها، على ىقول روبنسون عشية انعقاد المؤتمر، تشكو مشكلات العنصرية والتمييز بين الأقوام والأعراق ومعاملة الأقليات والتهميش. فإذا شملت هذه الأبواب التمييز الجنسي، والأقليات الدينية واللغوية والجنسية، والتهميش الثقافي والتربوي والتهميش الناجم عن البطالة أو عن العمل المتقطع، لما نجا شخص ربما من القضايا والآفات هذه. وفي هذا السياق، سياق التنبيه على تظاهرات التمييز وآثاره الخفية والكامنة، لا ريب في أن دور المنظمات غير الحكومية كان ينبغي أن يكون راجحاً و كبيراً. ولكن المعمعة التي أفضى اليها المؤتمر الثالث، وأسهمت المنظمات غير الحكومية المرتجلة والطرية العود في دوامتها، أعادت المؤتمر الى سُنَّة "الكثرة الأوتوماتيكية"، والى سنة ملازمة للأولى هي "التناقض الرئيسي" وصَفُّه المتنازعين والمختلفين صفين متناطحين ومقتتلين. واغتذاء السنَّتين هاتين من تعاظم الهوة بين "الحضارات" والمجتمعات وفي قلب معظم المجتمعات، ينذر بتفاقم التظاهرات التي دعا مؤتمر ديربان الى الاحتماء منها، والى مساعدة المجتمعات الضعيفة والهشة على الاحتماء هذا. وليس "التناقض الرئيسي"، ولا "الكثرة الأوتوماتيكية"، خطوة أو خطوتين على طريق الوقاية والمعالجة الطويلة والمركبة. * كاتب لبناني.