استحوذت مرحلة التداول ومن ثم توقيع قانون ادارة الدولة العراقية على اهتمام أوساط عدة داخل العراق وخارجه، وبدت الحال وكأن الأزمة التي رافقت الإعداد لهذا القانون أزمة مفتعلة من مجلس الحكم وسلطة الاحتلال، لسبب اساس، هو ان نص القانون لم يولد في اللحظة الأخيرة وانما أخذ مزيداً من الوقت طوال الفترة السابقة وخضع لمناقشات جانبية عدة في غرف مغلقة من دون ان يعرض على وسائل الاعلام أو على مراكز البحث العراقية المختصة أو على رجال القانون والقضاء والسياسيين والمثقفين، وانما أحيط بسرية تامة واقتصر أمر كتابته ومطالعته على خبراء التحالف واعضاء مجلس الحكم. لذلك، فإن كل بند من بنوده كان معروفاً للجميع من دون استثناء، ولكنه مجهول للعراقيين خارج مجلس الحكم من دون استثناء ايضاً. ويبدو ان النواقص الكثيرة ونقاط الضغط التي شملت بعض مواده الاساسية مرت مرور الكرام على جميع اعضاء المجلس، واتضح ذلك في ما بعد حين صدر هذا القانون في الصحف الرسمية بعد التوقيع عليه، وهذا الأمر يدل على ان القانون كتب بأيدي أناس لا يتمتعون بصفة اختصاصية، وربما يكونون من السياسيين الذين اسندت اليهم هذه المهمة الشاقة ولكنهم انجزوها من دون تمييز بين المهمات المتشابكة التي يتطلبها النظام المدني الديموقراطي في عراق المستقبل أو في اي بلد آخر، خصوصاً في ما يتعلق بفصل السلطات الثلاث عن بعضها بعضاً، أو في ما يتعلق بالبدعة الجديدة التي اختلقت في اللحظات الأخيرة وربما بنصيحة من جهات خارجية بإضافة بند "الفيتو" لثلاث محافظات على شرعية أو عدم شرعية الدستور أو أي اجراء دستوري تحت لافتة الخوف من "ديكتاتورية الأكثرية"، ناسين أو متناسين أن منظومة النظام الديموقراطي ومؤسساته المختلفة في اطار الدولة أو في اطار حركة المجتمع المدني هي الضمانة الأكيدة لحماية الأقليات من ديكتاتورية الأكثرية، فيما إذا افترضنا ان الأكثرية ستتجه نحو فرض مثل هذه الديكتاتورية. والادعاء أن هذا الدستور أو القانون يعبر عن توافق الجميع من دون ان يكون هنالك ثمة رابح أو خاسر، انما هو ادعاء يتعلق بالقوى والأحزاب والشخصيات التي تعمل في اطار مجلس الحكم وليس عن توافق الأكثرية الساحقة من العراقيين، الذين يعتقدون بأن هذا الدستور فُصّل اساساً لتأمين بقاء الشريحة السياسية الحالية في دفة الحكم والمسؤولية، وإلا كيف يمكن تفسير ما تذهب اليه المادة الثانية من الباب الأول التي تنص على ان "هذا القانون ملزم لجميع المؤسسات الحكومية العراقية سواء كانت في المركز أو غيره، ولا يجوز تعديله في المرحلة الانتقالية، كما يعتبر اي نص مخالف له باطلاً اينما ورد". وبهذه المادة يثبت القانون نصاً يصادر فيه حق الشعب العراقي على نقضه، ويحيل مواده للدستور الدائم الذي من المفترض ان يُعد من هيئة دستورية مختصة وشرعية تعرضه على الشعب العراقي للاستفتاء عليه، ويعتمد من الجمعية العمومية أو المجلس الوطني. ويبدو ان الجهل الكبير الذي ربما يبعث على الخجل لدى غالبية العراقيين تجاه الشريحة السياسية في مجلس الحكم، يبرز في المادة الثالثة والعشرين من الباب الأول الفقرة 1 التي تقول إن "الحكومة العراقية الانتقالية المركزية تتألف من الجمعية الوطنية ومجلس الرئاسة ومجلس الوزراء ومن ضمنه رئيس الوزراء، والسلطة القضائية"، هذه القضية لا تحتاج الى المزيد من الايضاح لإثبات حقيقة ان معدّي القانون وكذلك اعضاء مجلس الحكم لا يعرفون التمييز بين مهمات السلطات الثلاث، فهم يخلطون بين السلطة التنفيذية التي هي الحكومة بمن فيهم رئيس الوزراء والسلطة التشريعية التي هي الجمعية الوطنية والسلطة القضائية التي ينبغي ان تكون كاملة الاستقلال عن كلتا السلطتين. لقد أفرزت مداولات اعضاء مجلس الحكم قبيل التوقيع وفي ما بعد، حالاً من الاختلاف الذي تعامل معه البعض من منطلق السطحية، فيما تعامل معه البعض الآخر من منطلق الجدية، ولكنه في كل الاحوال أفرز اصطفافاً متوقعاً بين الاعضاء. فالتقديرات كانت تشير الى احتمالات تفجر المشكلة حول الموقف من "الفيديرالية" أو ضم "كركوك" الى اقليم كردستان أو مطالبة التركمان بالاعتراف بهم كقومية ثالثة... الخ، وأمام هذه الرزمة من المشكلات حاول البعض تجنب الحضور تحت حجج مختلفة، لئلا يكون ضمن دائرة الصراع والتوقيع على النص تحت حراب الموازنات، فاختار ممثل الحزب الاسلامي سنّي محسن عبدالحميد الموعد الذي يتلاقى مع التوقيع للسفر الى القاهرة لئلا يقع تحت تساؤل التيار السني خارج مجلس الحكم والذي يعارض القانون ما دام يصدر تحت ظل سلطة الاحتلال، وكذلك الحال بالنسبة الى ممثل "حركة الوفاق الوطني" اياد علاوي الذي كان يراقب عملية التوقيع من أحد فنادق لندن بعد عودته من واشنطن، حيث تداول مع الأميركيين حول الوضع المقبل. أما جماعة الخمسة الذين يمثلون التيار الشيعي فقد انسحبوا للتداول مع المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني في عملية مناوراتية افقدتهم هيبتهم لاعتبارات عدة، أولاً لأنهم حاولوا ان يثنوا المجلس عن تمرير بعض الفقرات، ولكنهم فشلوا في ذلك، وثانياً لأنهم حاولوا توريط السيد السيستاني الذي امتنع عن مقابلتهم، وبدا أكثر نضوجاً منهم، حيث مرر من خلال هذا الامتناع رسالة مفادها انكم تمثلون مجموعة محددة، ولكنني أمثل الطوائف والأعراق العراقية كافة، والمشكلة هي مشكلتكم قبل كل شيء، اما أنا فلدي مواقفي العامة. وعاد الخمسة بخفي حنين وكان الأجدر بهم إما ان يوافقوا على الصيغة المطروحة من دون اعتراض أو ان يمضوا بموقفهم حتى النهاية، وكلتا الحالين لم تتما الأمر الذي اضعف موقفهم وقلل من تأثيرهم في الساحة السياسية، في حين أصر الأكراد وبعناد كبير على موقفهم وهددوا بالانسحاب من المجلس اذا لم تثبت مطالبهم بالكامل، وهذا الموقف عزز من وضعهم ورفع مستوى ثقة الشعب الكردي بهم. ان العملية السياسية الجارية في العراق حالياً، لا بد من ان تستمر باتجاهات مختلفة، ويمكن توقع بعض خصوصياتها، ولكن من الصعب الكشف عن مستقراتها الأخيرة، ما دامت المعادلة العراقية في هذا الحجم من التداخل والتعقيدات. ولكن الشيء الايجابي الذي ولد في خلال الحقبة القليلة الماضية، هو ان العراقيين عموماً اصبحوا قادرين على فهم الأوضاع وتحليلها ومعرفة المنطلقات المختلفة وأداء القوى السياسية في شكل عام، وهذه هي الضمانة الحقيقية لمعالجة الأوضاع التي تبشر بها المرحلة المقبلة في العراق. * كاتب عراقي مقيم في لندن.