نقل السلطة وإعداد الدستور، أيهما قبل الآخر، وكيف الوصول إليهما: بالتعيين أم بالانتخابات؟ هذه هي باختصار قضية النجف الأولى والأكثر سخونة منذ أكثر من ثمانية أشهر، أو كما يصفها الشيخ الدكتور مناف عبدالله اسماعيل المياحي من الحوزة الدينية في النجف "القضية المصيرية بالنسبة إلى المرجعية الشيعية التي باتت تعتبرها الضمانة الأكيدة لقيام حكم عادل، ودستور حقيقي ينصف المغبونين"، في إشارة واضحة إلى الشيعة العراقيين. من هنا "كان الاهتمام منصباً على صياغة دستور يحفظ لكل ذي حق حقه. وبالطبع لا يمكن أن نملك دستوراً بهذه المواصفات ما لم يكتب بيد عراقية منتخبة من الشعب" بحسب السيد ليث الموسوي رئيس مجلس إدارة مجلة "النجف الأشرف" التابعة للحوزة الدينية. بيد أن للبعض وجهة نظر مخالفة، إذ يرى الدكتور فاضل محمد الدليمي الأستاذ في جامعة بغداد "أن المطالبة الشيعية بالانتخابات جاءت على خلفية اعتقاد الشيعة بأنهم يشكلون غالبية، وبذلك يضمنون من طريق الدستور سيطرة مطلقة على السلطة". ويرد السيد فلاح عبد الحسين بحر العلوم على ذلك، بالتأكيد "أننا نسعى إلى توفير أساس يعطي الأكثرية ما تستحقه... وقد نكون مخطئين في الاعتقاد بأننا أكثرية، وإذا لم نكن، فلماذا الخشية من الانتخابات؟". وحول الاعتقاد بصعوبة إجراء الانتخابات بسبب تردي الوضع الأمني وعدم توافر إحصاءات دقيقة، يسأل بحر العلوم: ألا تجرى انتخابات في الجزائر، وهي مسرح عمليات منذ عام 1990؟ أما القول بعدم وجود إحصاء، فرأينا أن عملية الإحصاء التي قد تصل دقتها إلى أكثر من 95 في المئة تتمثل في البطاقة التموينية التي لا تخلو منها عائلة عراقية إلا في ما ندر". ومن هنا بالذات يأتي التمسك الشيعي بالترابط بين الدستور والانتخابات. وكانت البداية من فهم شيعي قائم على تحليل "دقيق وشامل". ويوضح الموسوي: "ترى المرجعية أن الانتخابات حق مشروع لا جدال عليه خصوصاً عند من يدعي الديموقراطية والرغبة في تخليص العراقيين من كل قيد، وتحريرهم من الديكتاتورية البغيضة. وفي مقابل هذا المطلب الشعبي الواسع، عاش المحتلون المأزق الخطير، إذ في وقت يروّج الجميع للديموقراطية المزعومة، أصبحت هذه الديموقراطية مصدر قلق وحيرة واضطراب". المناورة الأميركية كان كل شيء واضحاً بالنسبة إلى المرجعية، كما يؤكد السيد غيث الموسوي، "إذ أقدمت الولاياتالمتحدة على مناورة بعدما أدركت أن الوضع تحول إلى مأزق. فعقد اجتماع عاجل في واشنطن بين بول بريمر وجورج بوش في تشرين الثاني نوفمبر 2003 عاد بريمر إثره إلى بغداد حاملاً مشروعاً سرعان ما تحول إلى اتفاق "بريمر - طالباني" في 15 تشرين الثاني، تعتمد على ترتيب لنقل السلطة إلى العراقيين أولاً وبعد فترة من الزمن تطرح مسألة الدستور وكتابته وعليه يتضح أن الخطة الأميركية والطرح الأميركي يقومان على تأجيل مسألة الدستور والاهتمام بمسألة نقل السلطات إلى العراقيين". وبعد الطرح الأميركي الجديد ناقش مجلس الحكم هذه الخطة وتفاصيلها وزار عادل عبد المهدي نائب السيد عبد العزيز الحكيم عضو مجلس الحكم والشيخ جلال الدين الصغير السيد السيستاني للوقوف على رأيه من هذه التطورات، وقال السيد وقتها: "لا مشكلة في تأجيل مسألة الدستور إذ ما زال هناك من يدعي أن الدستور في حاجة إلى إعداد مناسب. ولكن من ستنتقل إليه السلطة. وكيف سيحدد، ومن سيكون، وهل ستكون للإدارة العراقية علاقة بذلك، أم سيحاول الطرح الأميركي تغييبها؟". اتفاق بريمر - طالباني وقع الطالباني الاتفاق بحكم كونه الرئيس الدوري للمجلس، ونصت على جملة أمور منها: 1 - يضع مجلس الحكم بالتشاور الوثيق مع سلطات الاحتلال قانوناً أساسياً موقتاً يسمى "قانون الدولة العراقية الانتقالي" يمكن تعديله. 2 - يؤسس مجلس تشريعي وفق ما يأتي: أ - يعين مجلس "تزكية" يطلق عليه "اللجنة التنظيمية" في كل محافظة وتتكون من: - 5 أفراد يعينهم مجلس الحكم. - 5 أفراد يعينهم المجلس البلدي في المحافظة. - 5 أفراد من أكبر خمس مدن في كل محافظة. ب - ترشح من كل محافظة مجموعة من المرشحين الذين يحملون ضوابط معينة ويمكن أن يكونوا من: الأحزاب السياسية ومجالس المحافظات والهيئات التدريسية في الجامعات والنقابات المهنية والمدنية والتجمعات العشائرية والدينية. ج - كل مرشح يحصل على تزكية اللجنة التنظيمية يقبل في مجلس المؤتمر الانتخابي في محافظته على أن يحصل على 11 صوتاً على الأقل من مجموع أصوات اللجنة الخمسة عشر. د - يجتمع المرشحون بعد قبولهم ويختارون من بينهم ممثلين لهم عن المحافظة التي ينتسبون إليها وبحسب التناسب السكاني في العراق. ه - يتشكل المجلس التشريعي، بعد حل مجلس الحكم. و - ينتخب المجلس التشريعي الموقت السلطة التنفيذية الموقتة ويعيّن الوزراء ويصدر القوانين. وتقول مصادر مكتب السيد السيستاني أن بعد إبرام الاتفاق نقل السيد عبد العزيز الحكيم هذه التطورات إلى السيد السيستاني والسيد محمد سعيد الحكيم، وأعطت المرجعية رأيها في الاتفاق وكان مما بينه السيد السيستاني أن لديه تحفظات جوهرية تجاه هذه الخطة لأنها بمجموعها تشكو من الخلل التالي: 1 - لا تمثل الإرادة العراقية لأن الجهات المشاركة في آلية ترتيبها غير منتخبة من قبل العراقيين، فلا مجلس الحكم منتخب ولا المجالس البلدية فما هو الضمان أن قانون الأساس أو تشريعات المجلس التشريعي ستكون في مصلحة البلاد أو تحافظ على هويتها؟ بل حتى لو افترضنا أنها تصب في مصلحة البلاد وأهله فإنها ستكون عرضة للطعن المنطقي والقانوني بها ولو على المدى البعيد، فما بني على خطأ يبقى خطأً. 2-ليس في هذا الاتفاق المتعجل عدالة، فهو لا يعبر في طيات فقراته وآلياته عن التناسب الحقيقي لأطياف المجتمع العراقي وهذا يؤدي إلى إثارة التشنجات والخلافات بين هذه الأطياف. 3- لا يكون في منأى عن الطعن والاعتراض لعدم انبثاقه عن الإرادة العراقية وسيواجه بمعارضته لوضعه ولقوانينه، وهذا ما سيجعل البلاد تغرق في رزمة سلطة الحكم والمعارضة السياسية والشعبية، لأن سلطة الحكم لا تمتلك شرعية حقيقية. وإثر ذلك شرح عبد العزيز الحكيم موقف المرجعية، مطالباً مجلس الحكم بإدخال تعديل على بعض بنود الاتفاق المبرم، مؤكداً أنه "ستحصل مشاكل حقيقية إذا لم تؤخذ التحفظات في الاعتبار". وتستطرد المصادر ان السيستاني اقترح: 1 - أن يعرض القانون الأساسي بعد كتابته من قبل مجلس الحكم على ممثلي الشعب العراقي. 2 - إجراء انتخابات لعموم الشعب العراقي لتعيين المجلس التشريعي وهذه الانتخابات يمكن إجراؤها في أي شكل من الأشكال، وإذا تعذر الإحصاء يمكن الاعتماد على البطاقة التموينية مع بعض الضمائم لمن لا يملك هذه البطاقة". وألهبت ملاحظات السيد السيستاني الجو العام، فقرر الطالباني زيارة المرجعية لشرح تفاصيل الاتفاق فسمع من جديد التحفظات نفسها، ووعد طالباني بأنه سينقل ذلك إلى المجلس وأن الاتفاق سيعدل. وتقول المصادر أنه "كان من المتوقع أن يتفاعل مجلس الحكم بكل أطيافه وأفراده مع السيد السيستاني تفاعلاً إيجابياً، باعتبار ملاحظاته تصب في مصلحة العراقيين، بل أعضاء مجلس الحكم والحرص عليهم من أن تنالهم الألسن والأقلام عاجلاً أم آجلا. فالسيد السيستاني لم يطالب بشيء لنفسه ولا خص طائفة معينة دون أخرى". وعلى رغم التهجمات من بعض أعضاء مجلس الحكم، والحرب التي شنتها الصحافة الأميركية على السيستاني، تكررت زيارات أعضاء مجلس الحكم وتمخضت عن اقتراح بدعوة الأممالمتحدة إلى درس الأوضاع الأمنية التي اعتبرها البعض حجة لتجاوز الانتخابات والقبول بمبدأ التعيين. والإفادة من خبرة الأممالمتحدة وتفعيل دورها في هذه المرحلة، بعدما حاولت جهات إبعاد الأممالمتحدة عن العراق من خلال تهويل الأوضاع الأمنية المتردية، وبدلاً من أن هذا الحل يرضي أطرافاً علقت كل ما لديها على شماعة الأوضاع الأمنية، راح هذا البعض يسعى لإبعاد الأممالمتحدة والإقلاع عن الاقتراح. لكن السيد السيستاني أصر على الموضوع على رغم أن هناك من بين مسؤولي المنظمة الدولية من لم يكن يرغب في اقتراح كهذا. وتلقى السيستاني مكالمة هاتفية من كوفي أنان أعقبها برسالة نقلها إليه الدكتور عدنان الباجه جي، تضمنت وجهة نظر الأمين العام بصدد الوضع الأمني غير المستقر. فحمّل السيستاني الباجه جي رسالة شفوية لأنان أكد فيها حق العراق في المطالبة بفريق تقصي حقائق، يدرس الأوضاع مباشرة ويقرر"وعند ذاك يكون لنا رأي آخر يعرف في حينه". وتختتم المصادر رؤيتها في عالم المرجعية وموقفها من موضوعة الدستور والانتخابات في العراق، فتشير إلى أن مئات الاجتماعات والمداولات تجرى خلف الكواليس لرسم آلية انتقال السلطة إلى العراقيين وإقرار الدستور الدائم، وما تزال "المعضلة" تراوح مكانها، حيث تطرح العراقيل. بيد أنه لن يصح في النهاية إلا الصحيح. وإزاء ذلك، لا بد للبعض من أن يعي ويدرك، كما تقول هذه المصادر، أن السباحة ضد التيار لن تفضي إلى أي نتيجة وأن الخسارة المتوقعة جراء ذلك ستلحق الضرر بمن لا يعي حقيقة أن السباحة ضد التيار لن ينتج عنها غير هدر جهود. من هنا فإن شعب العراق الذي امتلك ناصية أمره، يدرك حجم التضحيات المطلوبة منه لتحقيق حلم قيام عراق حر ديموقراطي، لا يذل فيه إنسان ولا يهان ولا يصنف درجات".